• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الديمقراطية السياسية

مجموعة كتّاب

الديمقراطية السياسية
◄إنّ النزعة الديمقراطية في نهج البلاغة أبين من أن تحتاج إلى بيان:

فها هو يأمر الوالي بأن يجلس لذوي الحاجات دون جند أو حرس لكيلا يتعتعوا في توضيح مسائلهم.

بل قد فضّل العامة على الخاصة وان سخط الخاصة فقال: "أنّ سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وأنّ سخط الخاصة يفتقر مع رضا العامة، وليس أحد أثقل على الوالي من الرعية مؤونة في الرخاء وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف واسأل بالإلحاف وأقل شكراً على الإعطاء، وأبطا عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة وانما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء: العامة من الأُمّة فليكن صفوك لهم وميلك معهم" وهذا كلام صريح في تفضيلهم والاعتماد عليهم. وأنا شخصياً أميل إلى الظن بأنّ هذا الكلام كان له تأثير في سلوك بعض زعمائنا الذين عرفوا بميلهم إلى الإمام علي (ع) والتشبه بكلامه في أكثر من موضع. ولن أطيل في تفصيل هذه الديمقراطية، ولنردد في سرور قول الإمام الجامع: "أنّ أعظم الخيانة خيانة الأُمّة وأفضع الغش غش الأئمة" وقوله الذي يذكرنا بالقول السائر: صوت الشعب من صوت الله "انما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على السن عبادة".

-         وإذا كان الإمام قد أخذ بالديمقراطية كما وضح فمن الطبيعي أن نراه نصير الحرية يهيب بابنه "ولا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً" وأن نراه رافع لواء المساواة لا يزال يذكرها ويوصي بها ويقول لمن يوليه "وآس – وسار – بينهم في اللحظة والنظر حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم" ويقول في موضع آخر: "انّ المال لو كان ماله لساوى بين الناس فكيف والمال مال الأُمّة".

-         ولكن للجمهور سيأته كما انّ له حسناته فلنسمع كلمة الإمام في الغوغاء. قال: "الناس ثلاثة فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع اتباع كلّ ناعق يميلون مع كلِّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق" ووصف الغوغاء في موضع آخر "من أنّهم إذا اجتمعوا غلبوا وإذا تفرقوا لم يعرفوا" وقبل وصفهم بانّهم إذا اجتمعوا ضروا وإذا تفرقوا نفعوا لأنّ كلَّ صانع ينصرف إلى عمله فيحصل النفع، وقد وضع الإمام اصبعه على آفة وطبيعة من آفات وطبائع الجماهير هي سرعة التقلب، تلك الخاصة الجماهيرية التي وضحها شكسبير أبلغ إيضاح في (يوليوس قيصر) وكذلك أصاب في انّ اجتماعها غلبة وتفرقها ضياع وفي انّ اجتماعها قد يكون في بعض الأحايين مجلبة للضرر، كما انّ تفرقها مجلبة للنفع لانصراف كلّ عامل إلى عمله، وهذه النظرة إلى الجماهير قد تبدو متعارضة بعض التعارض مع ما سبق من رأيه فيهم ولكن بيان نقص الغوغاء لا يستلزم استبعاد رأيهم.

-         عرض (ع) الصفات الواجب توفرها في الإمام فقال: "من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه" وذم العلماء الذين لا يعملون بعلمهم في أكثر من موضع. وحدد العلاقة بين الراعي والرعية فقال: "أيها الناس انّ لكم عليّ حقاً وليّ عليكم حقّ، فأما حقّكم عليّ فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا واما حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حين ادعوكم والطاعة حين آمركم". ولنلاحظ هنا انّه يجعل من حقّه على الشعب أن ينصحه الشعب وهذا مبالغة في السعي وراء الكمال. وكم هو نبيل قوله لقومه رداً على من اثنى عليه: "فلا تكلموني بما تكلمون به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالاً في حقِّ قيل لي ولا التماس اعظام لنفسي فإنّه من استثقل الحقّ أن يقال له والعدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحقِّ أو مشورة بعدل فإني لست بنفسي يفوق أن أخطىء".

وذمّ خلة الغدر فقال: "والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن لكلِّ غدرة فجرة ولكن فجرة كفرة ولكلِّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة" المؤمنين إذن على خلاف مع (أمير) ميكافلي.

وأدلى عليّ بآراء قيمة فيها يجب في الولاة فقال انّهم ملزمون بأن يعيشوا عيشة جمهور الشعب لكيلا "يتبيغ بالفقير فقره" أي لكيلا يسخط الفقير لفقره وليتعزى بحال أميره: "أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش؟".

ونصح عليّ الولاة بقوله مؤكداً لأحدهم: "ولا يطولن احتجابك عن رعيتك" وتلك نصيحة حقّ فإنّ كثرة ظهور الحاكم بين الرعية استئلاف لقلوبها واشعار بها انّ الحاكم مهتم بمصالحها، ثمّ هو منير للحاكم سبيل حكمه ومعطيه الصورة الواضحة لحال شعبه فيعمل على نورها.

وقال: "انّه ليس شيء ادعى إلى حسن ظن راعٍ برعيته من إحسانه إليهم" أي انّ الراعي حين يحسن لرعيته يطمئن قلبه ويأمن خيانتهم.

وأمر باحترام التقاليد الشعبية فكان حكيماً بعيد النظر "ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأُمّة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية".

ووجه عليّ نصيحة غالية كلّ الغلو صادقة كلّ الصدق في قوله: "انّ شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ومن شاركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فانّهم أعوان الأثمة وأخوان الظلمة وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل أصارهم وأوزارهم. ثمّ ليكن عندك آثارهم أقولهم بمر الحقّ لك" ونظرية عليّ صحيحة تماماً فإنّ أثم فيما مضى لا يؤمن أثمه فيما حضر، ومن اتصل بالظلمة بالأمس لا يؤمن اتصاله بهم اليوم وإعانتهم على كيدهم بماله من سلطة الوزراء. وكان حكيماً في قوله: "فالبس لهم جلباباً من اللين تشوبه بطرف من الشدة وداولهم بين القسوة والرأفة".

وأمر الوالي أن لا يرغب عن رعيته وتفضيلاً بالإمارة عليهم فانّهم الأخوان في الدين والأعوان على استخراج الحقوق ثمّ قال له: "وإنا موفوك حقك فوفهم حقوقهم وإلا فانك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة بؤساً لمن خصمه عند الله الفقراء والمساكين. ودعاه إلى أن يساوي نفسه بهم فيما الناس فيه سواء، وهذا القيد يظهر بعد نظره وفهمه لحقيقة المساواة الممكنة.

ودعا إلى تشجيع المحسن وعقاب المسيء قائلا: "ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء" ولفت نظر جباة الضرائب إلى الرفق بالأهلين وعدم بيع شيء ضروري – وهذا ما فعلته القوانين الحديثة إذ منعت الحجز على الملابس ومرتبات الموظفين وبالغ في الرفق الحكيم فقال: "فإن شكوا ثقلا أو علة وانقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم فإنّه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم" وهذا بعد نظر حكيم وسياسة مالية محكمة تزيد وضوحاً في قوله: "وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا يدرك إلّا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد" وإذا تذكرنا ماجر التعسف في جبي الضرائب في فرنسا ولايات تركيا وغيرها عرفنا قيمة هذه النصيحة التي يؤيدها المنطق ويسندها التاريخ.

-         وقد أدّى بعد نظر الإمام به إلى أن يدعو إلى تقسيم العمل ذلك المبدأ الذي لم نعرفه إلّا حديثاً فقد قال ناصحاً: "واجعل لكلِّ إنسان من خدمك عملا تأخذه به فإنّه أحرى ألا يتواكلوا في خدمتك" وقال من رسالة إلى الأشتر النخعي أيضاً: "واعلم انّ الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلّا ببعض ولا غنى ببعضها إلّا من بعض فمنها جنود الله ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل ومنها عمال الأنصاف والرفق ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ومنها التجار وأهل الصناعات ومنها طبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكلاً قد سعى الله سهمه" ثمّ فصل بعد ذلك وظيفة كلّ فرقة.

-         وتمشياً مع قاعدته في تقسيم العمل واختصاص كلّ ما يحسنه رد على من قال له: انك تأمرنا بالسير إلى القتال فلم لا تسير معنا؟ انّه لا يجوز أن يترك مهماته من قضاء وإدارة وجباية ضرائب، وكذلك نصح عمر بألا يخرج للقاء الفرس بنفسه "لأنّ الأمير كالنظام من الخرز يجمعه" ولأنّه إن خرج انتقض عليه العرب من أطرافها.

-         إنّ هذا الإمام المجرب ما كان ليغفل الدعوة إلى الاتعاظ بالتجارب في الحكم فيها هو إذا يقول: "انّ الأمور إذا اشتبهت اعتبر آخرها أوّلها" ويقول في مكان آخر: "استدل على ما لم يكن بما كان" ثمّ يقول أيضاً: "العقل حفظ التجارب" ولست أحمل هذا القول الأخير أكثر مما يحتمل إذا قلت انّه هو الرأي الفلسفي المعارض للرأي القائل بأنّ العقل يتفاوت عند الأشخاص بطبيعته. والذاهب على العكس إلى انّ العقل ليس إلّا عمل التجارب والتهذيب. والدافع لحجة الرأي الأوّل القائلة بإنا لو ربينا أشخاصاً ذوي أعمار واحدة تربية واحدة في بيئة واحدة لنشأوا رغم ذلك مختلفي العقليات، بأنّهم انما يختلفون لسبق تأثرهم بمزاج وراثي مختلف.

-         وتكلم الإمام في رسالته إلى الأشتر عن القضاة كلاماً قال عنه الأستاذ العشماوي أستاذ القانون الدستوري بكلية حقوق القاهرة انّ كلاماً غيره في أيِّ دستور من دساتير العالم لم يفصل مهمة القضاء وطرق اختيارهم مثل ما فعل. قال الإمام: "ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزئة ولا يحصر في الفيء إلى الحقِّ إذا عرفه ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم واصبرهم على تكشف الأمور وأصرمهم عند اتضاح الحكم، من لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء، وأولئك قيل. ثمّ أكثر تعاهد قضائه وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، واعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتياب الرجال له عندك" وهذا دستور حكيم بل هو أحكم ما نعرفه وحسبه انه انتبه إلى وجوب أجزال العطاء المالي للقضاة ليستغنوا بذلك عن الارتشاء وانّه شدد في إعطائهم منزلة قريبة من الوالي ليقطع بذلك الطريق على الوشاة وليعمل القضاء في جو هادئ.

وفي غير هذه الرسالة ذم من يتصدى للحكم وليس أهلاً له قائلاً: "جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشواً من رأيه ثمّ قطع به، جاهل خباط جهالات عاش ركاب عشوات تصرخ من جور قضائه الدماء وتعج منه المواريث إلى الله" وفي موضع آخر يقول: "لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء الا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها". ومعنى هذا انّ على الخواص مهمة هي عدم الصبر على الظلم بل مجاهدته ولو لم يقع عليهم.

-         وتكلم في سياسة الجند وأمر جيشه ألا يتتبع عند الفوز فاراً ولا يهين امرأة وإن سبته فإنّ النساء ضعيفات. وهذا دليل الخصومة الشريفة ونبل الخلق. وقال في عهده إلى الأشتر: "وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراء من خلوف أهليهم حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك، وانّ أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية. وانّه لا تظهر مودتهم إلّا بسلامة صدورهم ولا تصح نصيحتهم إلّا بحيطتهم على ولاة أمورهم وقلة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مودتهم فافسح في آمالهم وواصل في حسن الثناء عليهم وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإنّ كثرة الذكر تحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء الله ثمّ اعرف لكلِّ إمرىء منهم ما أبلى ولا تضيفن بلاء إمرىء إلى أن تعظم من بلائه ما كان ضعيفاً ولا ضعة إمرىء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما".

والآن وقد سرنا في نهج البلاغة شوطاً يغرينا بالاستزادة فلنقف، وإذا كان أمير المؤمنين عليّ (ع) قد نهى قومه عن أن يمدحوه فلا يخافن اليوم اغتراراً وهو بعيد عن حياة الغرور، إن نحن انحنينا أمام عبقريته. لقد حبانا نهج البلاغة فاحسن ما حبانا، فلنطبق عليه قوله: "بقيمة كلّ إمرىء، ما يحسنه".

 

المصدر: كتاب نهج الحياة (مجموعة بحوث ومقالات حول نهج البلاغة)

ارسال التعليق

Top