• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

خضوع نظام الأسرة المسلمة للمنهج الربّاني المحكم

أحمد حسن كرزون

خضوع نظام الأسرة المسلمة للمنهج الربّاني المحكم

◄المصدر الرئيسي للتشريع الأسري في الإسلام هو تعاليم الإله الحكيم الخبير الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وخلق فسوّى فجعل منه الزوجين، الذكر والأنثى، وأرشده للتي هي أقوم بنور القرآن الكريم وهدي النبيّ الأمين (ص) الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحي يوحى والذي أرسله الله شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.

ومن كمال نِعَم الله وفضله أن جاءت جميع أحكام الشرع الحنيف مناسبة للفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، وتضمّنت من الضوابط المحكمة ما يُحقِّق للأسرة المسلمة حياة كريمة طيِّبة، فسعد المسلمون بتطبيق هذا المنهج الربّاني الأقوم وتخلّصوا من ظلمات الجاهلية حين اهتدوا بنوره وبلغوا سُبُل السلام وسلكوا به الصراط المستقيم.

وقد أخبر القرآن الكريم عن هذه الفضائل في قوله سبحانه: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة/ 15-16).

لهذا كان خضوع نظام الأسرة المسلمة للمنهج الإلهي المحكم أعظم مزية فيه، بل هو أصل المزايا ومنبع الفضائل والجامع لمعاني الخير والسعادة والباعث على روح المودة والرحمة، "ويشعر الإنسان أنّ كل صغيرة وكبيرة في نظام الأسرة تنال عناية الله ورقابته، وأنّ كلّ صغيرة وكبيرة فيه مقصودة كذلك قصداً لأمر عظيم في ميزان الله، وأنّ الله يتولى بذاته تنظيم حياة هذا الكائن والإشراف المباشر على تنشئة الجماعة المسلمة تنشئة خاصّة تحت عينه وإعدادها للدور العظيم الذي قدّره لها في الوجود وأنّ الاعتداء على هذا المنهج يُغضب الله ويستحق منه أشدّ العقاب".[1]

- الفضائل الناتجة عن خضوع نظام الأسرة للمنهج الربّاني:

وقد تميّز خضوع نظام الأسرة المسلمة للمنهج الربّاني بتحقيق الفضائل التربوية والخصائص التشريعية، نذكر أهمّها:

أوّلاً- طاعة الله تعالى والاستجابة لأمره: لأنّ الواجب على كلّ مسلم أو مسلمة الالتزام بتطبيق المنهج الإلهي بجميع أحكامه، وهذه الطاعة ينال بها المسلم الأجر والمثوبة ويتحقق بها سعادة الأسرة وسلامتها وترابط المجتمع وقوته.

وقد أوضح القرآن الكريم هذا الواجب الإيماني، بالاستجابة لحكم الله والإخلاص في طاعته وعبوديته وما يناله المسلم بها من فضائل، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) (النساء/ 174-175).

وقد حذّر القرآن الكريم من مغبة مخالفة أوامر الله تعالى والتمرد على طاعته والخروج عن منهجه المحكم في قوله سبحانه: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور/ 63).

ويُعلِّق سيِّد قطب (رض) على هذه الآية بقوله: "لأنّ العبودية من الناس لله وحده وهي الطاعة من البشر لله وحده وهو الاتباع لمنهج الله وحده لا شريك له، والله وحده هو الذي يختار للناس منهج حياتهم، والله وحده هو الذي يسنّ للناس شرائعهم، والله وحده هو الذي يضع للناس موازينهم وقيمهم وأوضاع حياتهم وأنظمة مجتمعاتهم وليس لغيره، أفراداً أو جماعات، شيء من هذا الحقّ، لأنّ هذا الحقّ هو مقتضى الألوهية والربوبية"[2].

ثانياً- اعتماد تطبيق المنهج الربّاني على التربية الإيمانية والتهذيب الخلقي: مع رعاية سلطان القضاء عند الحاجة، إذ يربي هذا المنهج الأمثل المسلم على تقوى الله والشعور بمراقبته والخوف من عقابه والترغيب بثوابه مما يجعل ضمير المؤمن يقظاً في محاسبة نفسه وحملها على حُسن الأداء والعطاء والتحلي بالفضائل الخلقية وحُسن المعاشرة الزوجية والتجمّل بالحلم والأناة في حلّ المشكلات الأسرية وفي الشعور بالمسؤولية الكاملة في تربية الأولاد ورعايتهم وفي برّ الوالدين. وتعتبر يقظة الضمير الإيماني هي الضمان الرئيسي لحُسن تنظيم الأسرة والسبيل الأقوم لاستمرار العلاقات الزوجية الطيّبة في أجواء من السكينة والمودّة والرحمة وتأتي سلطة القضاء عند الحاجة إليها مكملة كزاجر دنيوي يتطلبه واقع النفوس المريضة لإجبارها على مراعاة أحكام الله وإنفاذها لشرعه العادل، وبذلك يتميز المنهج الإلهي للأسرة في جمعه بين الوازع النفسي والتربية الإيمانية والخلقية من جهة، وبين الرادع الجزائي والتأديبي من قبل ولي الأمر الراعي لمصالح المسلمين من جهة أخرى.

ثالثاً- خلود المنهج الربّاني لنظام الأسرة: في تشريعه مع استقرار أحكامه وصلاحية تطبيقه وعدالة مواقفه بعيداً عن التغيرات المضطربة للتجارب البشرية وتعسف الأهواء المنحرفة وتناقض الأنظمة الوضعية باختلاف الزمان والمكان.

وقد خاطب القرآن الكريم الرسول الأمين (ص) بوجوب الحكم بكتاب الله والحذر من اتباع الأهواء، فقال سبحانه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) (المائدة/ 48).

ويُوضِّح سيِّد قطب (رض) معناها بقوله: "لقد كمل هذا الدِّين وتمّت به نعمة الله على المسلمين ورضيه لهم منهج حياة للناس أجمعين ولم يعد هناك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى، وعلم الله حين رضيه للناس أنّه يسع الناس جميعاً، وأنّه يُحقِّق الخير للناس جميعاً وأنّه يسع حياة الناس جميعاً إلى يوم الدِّين".[3]

رابعاً- ترابط أحكامه وتكامل ضوابطه ووحدة منهجه وسمو أهدافه: مما يؤكد عظمة نظام الأسرة المسلمة ومزاياه الفريدة، فكلّ حكم من أحكامه، صغيرها وكبيرها، يؤدي دوره في سلامة المنهج وإقامة العدالة الإلهية وإيجاد روح المودّة والمحبّة، وأي تساهل في تطبيق جزئية من أحكامه ذريعة للفساد وإخلال بالسلامة وفتنة للأسرة، كما أنّ أي تجاوز لأحكامه وضوابطه في مجالات تبرج النساء واختلاطهنّ أو عرقلة سبيل الزواج أو سوء اختيار الزوجين أو التعسف في أداء الحقوق الأسرية أو التهاون في الرعاية التربوية وغيرها هو البدء بهدم وحدة الأسرة وتماسكها وهو الطريق للتحلل الخلقي وانتشار الفواحش وفساد المجتمع.

- موقف الأنظمة الجاهلية:

ونعني بالأنظمة الجاهلية تلك التي تمرّدت على شرع الله الأقوم واتجهت نحو تحكيم الأهواء المتقلبة والمصالح الخاصّة والعقول البشرية القاصرة "فالناس في أي زمان وفي أي مكان إمّا يحكمون بشريعة الله ويقبلونها ويسلِّمون بها تسليماً فهم إذن في دين الله، وإمّا إنّهم يحكمون بشريعة من صنع البشر ويقبلونها فهم إذن في جاهلية، ومَن ذا الذي يجرؤ على إدعائه أنّه يشرع للناس ويحكم فيه خيراً مما شرع الله ويحكم فيهم"[4]، وصدق جلّ جلاله: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة/ 50).

ومن أبرز مواقف الأنظمة الجاهلية المضطربة وتصرّفاتها الجائرة في مجال نظام الأسرة "أنّ المرأة كانت عند اليونان كسقط المتاع تباع وتشترى في الأسواق وهي مسلوبة الحرّية والمكانة ومحرومة من الميراث ولا تملك التصرّف في مالها وجعلوا للرجل الحقّ المطلق في فصم عُرى الزوجية دون ضوابط.. وعند الرومان كان لربّ الأسرة أن يدخل في أسرته من الأجانب مَن يشاء ويخرج من أبنائه مَن يشاء عن طريق البيع، وكانت سلطة ربّ الأسرة على بناته وأبنائه وزوجته وزوجات أبنائه حتى وفاته تشمل البيع والنفي والتعذيب وله وحده حقّ التملك ويتولى تزويج أبنائه وبناته دون إرادتهم.. وعند اليهود كانت بعض طوائفهم تعتبر البنت في مرتبة الخادم ولأبيها حقّ بيعها قاصرة.. وجاء رجال المسيحية ليقرّروا أنّ الزواج دنس يجب الابتعاد عنه وأنّ العزب عند الله أكرم من المتزوج وأنّ المرأة باب الشيطان وسلاح إبليس للفتنة والإغراء.. واستمر احتقار الغربيين للمرأة وحرمانهم لحقوقها طيلة القرون الوسطى، فهي بنظرهم قاصرة لا حقّ لها في التصرّف بأموالها دون إذن زوجها وكان القانون الإنجليزي حتى عام 1805م يبيح للرجل أن يبيع زوجته.. وعندما قامت الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر وأعلنت تحرير الإنسان لم تشمل بحنوها المرأة، فنصّ قانونها على أنّ المرأة ليست أهلاً للتعاقد دون رضى وليها إن كانت غير متزوجة واستمر حتى عام 1938م حتى عدلت هذه النصوص لمصلحة المرأة، ولا تزال بعض القيود على تصرّفات المرأة المتزوجة.. وفي جاهلية العرب قبل الإسلام، وجدت المرأة مهضومة في كثير من حقوقها، فليس لها حقّ الإرث وليس لها على زوجها أي حقّ وليس للطلاق عدد محدود ولا لتعدد الزوجات حد معيّن ولم يكن لها حق اختيار زوجها، وكانت بعض القبائل تتشاءم من ولادة الأنثى أو تدئها خشية العار أو خشية الفقر".[5]

- توجيه وتحذير:

إلى الشباب والشابات في العالم الإسلامي وهم في طريقهم إلى الصحوة المباركة، أدعوهم للتعرّف على الأهداف التربوية للأحكام الشرعية في نظام الأسرة المسلمة ليعرفوا منها المنهج الربّاني وفضله العظيم في تنظيم حياة الأسرة المسلمة من الناحية التربوية والاجتماعية والسلوكية ويعتزوا به ويحرصوا على الالتزام به في جوانبه المتنوعة وأوامره الرشيدة وخاصّة عند إقدامهم على بناء أسرتهم الفاضلة وفي أسلوب المعاشرة الزوجية وفي واجب تربية الأولاد وفي حال معالجة المنازعات الزوجية الطارئة وغير ذلك، وليحذروا بكلّ يقظة ووعي سُبُل الغواية الضالة وخطوات الشيطان المفسدة ونزوات الأهواء المنحرفة.

وليذكروا دائماً قول الله تعالى في محكم تنزيله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام/ 153).►

 

المصدر: كتاب مزايا نظام الأسرة المسلمة

  

[1] - في ظلال القرآن، 1/ 236.

[2] - المصدر السابق نفسه، 2/ 596.

[3] - المصدر السابق نفسه، 2/ 902.

[4] - المصدر السابق نفسه، 2/ 904.

[5] - من كتاب المرأة بين الفقه والقانون للدكتور مصطفى السباعي باختصار، ص13-22.

 

ارسال التعليق

Top