• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العمل للقاء الله

العلّامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله

العمل للقاء الله

◄- وعي الإنسان لمسؤوليته أمام الله:

يريد الله تعالى للإنسان أن يحسم أمره في تقرير مصيره فيما ينتظره في المستقبل عندما يلتقي في الآخرة مع حساب الله، ويريد للإنسان أن يكون واقعياً في وعيه لمسؤوليته، ولكلِّ ما يعانيه في حركة المسؤولية. ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (العنكبوت/ 5-6)، فإذا كان الإنسان يرجو لقاء ربِّه، لأنّه يؤمن بالله واليوم الآخر، ويرى أنّ لكلّ مخلوقٍ أجلاً لابدّ أن يبلغه صاحبه فيما قُدِّر له، فإنّ عليه أن يستعدَّ ويتهيّأ لأجله، ويوحي لنفسه على الدوام عندما يُصبح ويُمسي بأنّ أجل الله لآت. فالأجل قد يأتيه صباحاً أو مساءً، وقد يأتيه نائماً أو في حالة اليقظة. ولذا، عليه ألّا ينسى أجله، لأنّه إذا نسيه أطال أمله ونسيَ عمله. والإنسان الواعي لمسؤولياته أمام الله، يعرف أنّ هناك حساباً ينتظره، وأنّ هناك عقاباً أو ثواباً سيناله، أمّا الإنسان الذي ينسى الموت والآخرة، فإنّه يترك العمل ويفكّر في العمر والأمد الطويل، ويؤخّر عمل اليوم إلى الغد، وعمل الغد إلى ما بعد الغد.

وعلى هذا (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ) في أيّ وقت (فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ) وهذا الأجل يضيع وسيأتي فيما قدّره الله (وَهُوَ السَّمِيعُ) الذي يسمع كلَّ كلماتكم (الْعَلِيمُ) الذي يعلم كلّ نيّاتكم وأعمالكم وعلاقاتكم. وإذا كان سبحانه يسمع كلّ شيء، فكيف تتكلّمون بكلامٍ لا يرضاه؟

وإذا كان سبحانه يعلم كلّ شيء، فكيف تفكّرون فيما لا يرضاه وتعملون ما لا يرضاه؟

(مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ) فعليه أن يستعدَّ للقائه لأنّ أجل الله سيأتي، ومَن كان يعرف أنّ لله هو السميع العليم، عليه أن يتحفّظ في أفكاره وأعماله وخطواته وعلاقاته، ولا يُقدم على أيّ أمر لا يُرضي الله سبحانه وتعالى (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ)، فمن جاهد في عمله ونشاطه وفكره وعبادته، فإنّ عليه ألا يمنّن ربَّه في ذلك، بل عليه أن يعتبر أنّ عمله الذي يعمله، فإنّ مردوده لنفسه وعلى نفسه (فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (الزمر/ 41)، فإذا جاهدت في الخير والعبادة والعلم فإنّك تجاهد لنفسك، وحاول أن تزداد مما تعمل لتزيد حصة نفسك من ثواب الله ورضوانه (إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)، فالله لا يحتاج إلى صلاتكم لتزيد صلاتكم في ملكه، ولا إلى حجّكم وصومكم ليرفع ذلك من شأنه، ولا إلى زكاتكم وخُمْسِكم ليزيد ذلك في ماله. فالله تعالى خلقكم وخلق ما تُرزقون وما تنتجون، فكلّكم لله وكلُّ ما عندكم لله، فما حاجة الله بكلِّ ما تقدّمونه؟ فالإنسان ما يعمل من خير أو شرّ يراه، فهو يجني خيره ويجني شرّه، وهو يحمل على ظهره جنّته حيث يصنعها من خلال عمله، ويحمل على ظهره ناره من خلال ما يُحرق به حياته بسبب العمل الذي يُقدم عليه.

- ثواب الله ورضاه:

وينطلق الخطاب القرآني بالبشرى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) (العنكبوت/ 7)، أيّها الناس آمنوا بالله، فالإيمان بالله هو حقيقة الحقائق، واعملوا صالحاً، فإنّ العمل الصالح هو معنى الحياة ومعنى المسؤولية فيها، فإذا آمنتم بالله كما يجب الإيمان، وعملتم الصالحات كما يحبُّ الله، أتعرفون ما الجائزة (لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) ويغفرها لكم باعتبار أنّ العمل الصالح يطرد السيِّئ، وزيادة على ذلك (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) ليضاعف لهم أجرَهم وثوابهم (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) (الأنعام/ 160). وعلى هذا، فلماذا يزهد الإنسان في ثواب الله، ويرغب في ثواب عباد الله؟ وما قيمة ثواب العباد؟ إنّ ثواب الله هو الذي يخلد، فلماذا يرغب الإنسان في الفاني ويترك الخالد الباقي؟

ويوجّه القرآن الكريم الإنسان لرعاية والديه (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (العنكبوت/ 8)، فأحسن لوالديك كما أحْسَنَا لك وبرّهما كما برّا بك، وأعطهما الحنان والعاطفة والرعاية، كما أعطياك ذلك كلّه.. ولكن هناك مسألة، وهي أنّ هناك فرقاً بين الإحسان وبين الطاعة، فالطاعة هي لله، فإذا أمرك والداك بطاعة الله فأطعهما بطاعة الله، أو أمراك بما لا معصية لله فيه، فلك أن تُحسن إليهما، وتقدّم لهما ما لا يجب عليك شخصياً وليس محرّماً. ولكن إذا أمراك بأن تعصي الله لتفعل محرَّماً هنا ومحرَّماً هناك، أو أن تعيّن ظالماً وتؤيّده وتخذل مؤمناً وتحاربه، أو (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) لتنطلق للإشراك بالله، بحيث تطيع ظالماً أو كافراً بمعصية الله، أو تطيع طاغية في الإضرار بعباد الله (فلا تُطعْهُمَا) لأنّه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق. وإنّك عندما تقول: يا رضا الله ورضا الوالدين، فبشرط أن يكون رضا الوالدين في رضا الله، أمّا إذا كان رضا الوالدين في معصية الله، فإنّ عليك أن تُغضب والديك، خصوصاً إذا كانا يتأذيّان من صلاتك وصومك وحجّتك وبَذْلِك ما عليك من حقّ الله، لأنّ القضية هي أن يرضى الله، والأمر عندما يدور بين الوالدين وبين الله، فالله أولى أن يرضى، لأنّه ربّنا وربّ والِدَيْنَا.

(إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ستقف أيّها الإنسان أمام الله، وكذلك سيقف والداك وستُجزى بعملك، ولن يدافع عنك أبواك ولن تدافع عنهما (لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا) (لقمان/ 33)، وعند الوقوف بين يديّ الله، فإنّه سبحانه يقدّم للناس كلّ ما فعلوه من سرٍّ أو جهر، لأنّه مطلعٌ على كلّ ما يعملون (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) (العنكبوت/ 9)، إذا أطعتم الله وعملتم صالحاً فسيدخلكم الله في مجتمع الصالحين، ونحن نعرف أنّ مجتمع الصالحين هو مجتمع أهل الجنّة، فأيّة جائزة تنالها في نهاية المطاف على كلِّ أتعابك وصبرك وإيمانك، أعظم من جائزة الدخول إلى الجنّة، التي عرضها عرض السماوات والأرض أعدّت للمتقّين؟

- يهربون عند الشدّة ويعودون عند المكاسب:

ويحدّثنا الله تعالى عن بعض الناس الذين يدخلون مجتمع المؤمنين، ولكنّهم من الذين لم يثبت الإيمان في قلوبهم، فيقول سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ) (العنكبوت/ 10)، وهذا النوع من الناس بمجرد أن يُؤذى في جنب الله بسبب إيمانه، أو يُضغط عليه ويُحاصر، يجعل فتنة الناس كعذاب الله، ويحاول أن يعظِّم البلاء الذي وقع فيه بسبب محاصرة الناس، كما لو أنّ عذاب الله وقع عليه، وكما أنّه يهرب من عذاب الله، فإنّه يهرب من عذاب الناس، فيقدّم التنازلات ويعصي الله.. وذلك ككثير من الذين ينطلقون في خطّ الإيمان، فإذا ما ابتُلوا بسبب انتمائهم للإيمان، وحدثت بعض الخسارات في أوضاعهم، فإنّهم يتركون الإيمان جانباً ليحافظوا على هذه الأوضاع. وهؤلاء ينحازون ويلجأون إلى المؤمنين من جديد في اللحظة التي يكتب فيها الله تعالى النصر للمؤمنين على كلّ الذين حاصروهم وسبّبوا لهم المتاعب (وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) أتى وقت الانتصارت، وعندها (لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) في وقت الشدّة والمواجهة يتنكّرون للمؤمنين، أمّا في وقت النصر فيعلنون انتماءهم إلى خطِّ الإيمان.. ولكن على مَن يضحكون؟ (أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ) الله تعالى يعرف المنافق تماماً، ويعرف من يحمل ازدواجية في شخصيته ومواقفه، ومَن يعيش في قلبه خالص الإيمان، ومَن هو مُكدَّر الإيمان..

وإذا انطلت حِيَلُ هذا المنافق على الناس، واستترت عنهم خفاياه وأسراره، فإنّها لن تنطلي على الله تعالى (وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ) (العنكبوت/ 11)، فهو تعالى يميّز ويعرف حقائق الأشخاص، ولذلك يعلمُ المنافقَ حتى ولو ظهر بأوضح صور الإيمان، ويعلم الله المؤمن حتى لو لم يظهر من أمر إيمانه شيءٌ للناس.

ويقف الكافرون للمؤمنين بالمرصاد ليزلزلوا إيمانهم (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (العنكبوت/ 12)، امشوا في طريقنا، ونحن نحمل على ظهورنا كلّ خطاياكم وذنوبكم وسيِّئاتكم، أنتم خائفون من يوم القيامة، نحن يوم القيامة.. هذه كلماتٌ سيتحملون مسؤولياتها، هم أضعف من أن يحملوا خطاياهم، وأضعف من أن يهربوا من عذاب الله (إنَّهُمْ لَكَاذِبُون) يحاولون إغراءكم وإيقاعكم في الخطيئة، فإذا وقعتم في الخطيئة ووقفتم أمام حساب المسؤولية هربوا من كلّ ما تعهدوا به، فهم لا يقدرون أن يضمنوا أنفسهم، فكيف يمكن أن يضمنوكم؟

ولأنّهم يسيرون في طريق الضلال (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (العنكبوت/ 13)، فعلى أيّ أساس تحمّلتم المسؤولية، ومَن أنتم حتى تضمنوا على الله؟ فقضية العقاب والثواب بيد الله تعالى وحده. وما هي قيمتكم وموقعكم عنده سبحانه، وكيف لكم أن تكفلوا الناس أمام الله؟

وهذه المسألة يجب أن نعيَها جيِّداً في حياتنا، وذلك عندما نريد أن ننطلق في أيِّ موقع، فيأتينا إنسانٌ لا يملك أيّ أساسٍ للثقة، وأيّ موقع للاطمئنان ليدعونا للسير معه مدعياً تحملّه لكافة المسؤوليات، علينا أن نرفض ذلك، لأنّنا مسؤولون عن أنفسنا أمام الله يوم القيامة فيما أخذنا به.. إنّنا لا نستطيع الدفاع عن أنفسنا يوم القيامة إلّا إذا كّنا نملك الحجة أمام الله، ولذلك، لنوفّر على أنفسنا ذلّ يوم القيامة عندما لا نستطيع جواباً عند السؤال.►

 

المصدر: كتاب من عرفان القرآن

ارسال التعليق

Top