• ٣٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الفلاح للمتّقين

السيد حسن النمر الصائغ الموسوي

الفلاح للمتّقين

أورد الله عزّ وجلّ، في كتابه الكريم، مجموعةً من العوامل التي تدعو العباد وتدفعهم إلى تقوى الله تعالى. ولنا أن نذكر في هذا المجال أنّ هناك ما يفوق الأربعين عاملاً، كلُّ واحدٍ منها كفيلٌ بأن يَفرض على الإنسان أن يتقي ربّه فيخشاه ويطيعه وينتهي عن نواهيه.

وهذه العوامل منها ما ذكر على نحو المحرِّض، أو على نحو الفائدة المرجوّة من التقوى، أو على نحو الضرر الواجب دفعه... وهي كلّها تصبّ في سبيل أمر الإنسان – بدواعٍ مختلفةٍ – أو إقناعِهِ بالتزام طريق التقوى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة/ 197).

 

العامل الأوّل: العقل

ذُكر العقل في موارد عديدة – في القرآن الكريم – كعامل رئيس في دفع الإنسان إلى تقوى الله تعالى. ولكن يُلاحظ من سياق الآيات الواردة في هذا العامل أنها كلّها – تقريباً – لا تخاطب الكفّار بذلك. ولعلّ السرّ في ذلك أنّ الله سبحانه لا يَعتبر، كما يستفاد من بعض الروايات، مَن يَكفر به عزّ وجلّ عاقلاً. ولذلك لا معنى لتوجيهه نحو تقوى الله، التي هي أخصّ من الإيمان بالله سبحانه، باعتبار أنّ العقل هو (ما عبد به الرحمن)، فمن لم يعبد الرحمن تعالى لا يكون من العقلاء، ومن ثَمَّ فلا يخاطب خطابهم.

أمّا آيات هذا العامل فنورد منها النماذج التالية:

1-  قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة/ 100). وهي واردة في آيات أحكام الحجّ، وهذا يعني أنّ العاقل الباحث عن الفلاح ليس له أنّ ينال ذلك بغير التقوى، عبر العمل بما أوجب الله تعالى عليه من إلزامات شرعية، كالحجّ وواجباته.

2-  قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا) (الطلاق/ 10). فيا أيها العقلاء الذين دعتكم عقولكم إلى الإيمان بالله، ليس لكم إلا أنّ تتقوه سبحانه.

3-  قوله تعالى: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ) (البقرة/ 197). فيا أيها العقلاء عليكم بالتحلِّي بالتقوى من الله لتجنُّب عذابه، إن لم يدفعكم إلى ذلك حرصكم على مصلحتكم. وذلك باعتبار ما جاء قبلها من قوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى).

 

العامل الثاني: ألوهية الله وربوبيّته وعبوديّة العبد

الطبيعة الوجودية لـ(الله/ الخالق) والطبيعة الوجودية لـ(الإنسان/ المخلوق) تفرضان نوعاً من العلاقة يكون الثاني فيها مسؤولاً أنّ يحفظ مقام ربّه ويراعيه لأنّه (أَهْلُ التَّقْوَى) (المدثر/ 56).

لقد دعا الله الناس إلى تقواه بوجوهٍ عديدةٍ وصياغات مختلفة، ضمن هذا المورد، نذكرها في النقاط التالية:

أوّلاً- الألوهية:

دعا سبحانه الناس إلى تقواه مختاراً من أسمائه لفظ الجلالة (الله). وواضحٌ، كما قرّر العلماء، أنّ ذكر الوصف مُشعرٌ بالعلّية، فاختيار هذا اللفظ من بين أسمائه ليس إلّا بخصوصيّة مدلوله وهي (الألوهية).

وآيات هذا المورد كثيرة جدّاً نذكر منها ما يلي:

1-  قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا) (المائدة/ 108).

2-  قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ) (النساء/ 1).

ثانياً- ربوبية الله وخالقيته:

في آيات هذا المورد يدعو سبحانه الناس إلى تقواه لأنّه ربّهم ولأنّه خالقهم. ونسوق، مثالاً على ذلك، النماذج التالية:

1-  قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم) (النساء/ 1).

2-  قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (الحج/ 1).

3-  قوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا) (الزّمر/ 10).

4-  قوله تعالى: (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ) (الشعراء/ 184).

ويلاحظ من سياق هذه الآيات، ونحوها، أنها تدعو إلى التقوى العامّة المساوقة للإيمان بالله في مقابل الكفر به، سبحانه.

 

العامل الثالث: صفات الذات والفعل

هناك عوامل أخرى ذُكرت – في القرآن الكريم – كعوامل للتقوى مثل:

1-  كونه سريع الحساب:

كما في قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (المائدة/ 4). حيث إنّ سرعة حسابه لا تترك فرصة للإنسان أنّ يعصي، فلعلّ الله سبحانه يعاجله بالعقوبة، والإنسان حريص على دفع الضرر عن نفسه.

2-   كونه شديد العقاب:

كما في قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة/ 2)، فشدة عقابه تُخيف من يَهمّ بالإقدام على المعصية، لعلّ العقاب الشديد يناله، وأنّى له أنّ يتحمل عقابه، فضلاً عن الشديد منه، وهو العبد الضعيف...؟

ولعلّ ما في دعاء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع)، والمعروف بدعاء كميل، ما يصوّر ذلك بدقّة، حيث يقول:

... يا ربّ، وأنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا وعقوباتها وما يجري فيها من المكاره على أهلها. على أنّ ذلك بلاءٌ ومكروهٌ، قليلٌ مكثُهُ، يسيرٌ بقاؤُهُ، قصيرٌ مدتُهُ، فكيف احتمالي لبلاء الآخرة، وحلول (وجليل) وقوع المكاره فيها؟! وهو بلاءٌ تطول مدتُهُ، ويدوم مقامُهُ، ولا يُخفّف عن أهله، لأنّه لا يكون إلا عن غضبك وانتقامك وسخطك، وهذا ما لا تقوم له السماواتُ والأرضُ، يا سيّدي! فكيف بي، وأنا عبدك، الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين!!.

3-   كونه عليماً بما يعمل الناس:

كما في قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة/ 8)، فحرص العبد على الفرار من العقاب، وعلمه بأنّ الله يعلم بجميع ما يصدر عنه يدفعانه نحو تقوى الله بالابتعاد عن معصيته – جلّ وعلا – بترك واجب أو إتيان محظور.

وكذلك الأمر في كون الله، سبحانه، عليماً بذات الصدور، كقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (المائدة/ 7).

أو أنّه سميعٌ عليمٌ، كما في قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الحجرات/ 1).

4-   كونه توّاباً رحيماً:

كما في قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات/ 12)، فهو لأنّه كذلك لا معنى للتمادي في العصيان؛ فأبواب التوبة مشرعة والرحمة لمن أرادها واسعة.

 

العامل الرابع: الحشر إليه تعالى

في هذا العامل آيات عديدة تدعو كلّها إلى تقوى الله والخشية منه لأنّ مصير الناس إليه فـ(إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة/ 156). وإذا كان الأمر كذلك فهل هناك مناص من التقوى حتى نمثل بين يديه جلّ وعلا، وصفحات أعمالنا بيضاء ناصعة؟! ولا طاقة لنا تسمح أنّ نلقاه وقد اسودّت وجوهنا بمعصيته، وهو الله الخالق؟!

نتعرَّف على الجواب ذلك في قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (المائدة/ 96).

 

العامل الخامس: إنعام الله جلَّ وعلا

إنّ إنعام الله سبحانه يجب أنّ لا يُقابَل بالتنكُّر لأوامره أو بعصيانه، ولهذا فإنّه يذكر الإنعام في مقام العلّة للتقوى، فيقول: (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ) (الشعراء/ 132).

إنّ شكر المنعم يفرض على المنعَم عليه شكرَ المنعِم عليه، وذلك بطاعته وامتثال أوامره، وتحقيق رغباته.

 

العامل السادس: الإيمان

يأتي الإيمان ليمثل حلقة مهمة في سلسلة الدوافع نحو التقوى، إذ إنّ الإيمان لا يتحقّق في الواقع بدون أن يتّقي المؤمن ربه، لأنّ الإيمان ليس دعوى فارغةً يُكتفي فيها بالكلام، بل لابدّ من العمل الصالح الذي يرفع الإيمان إلى الله، لأنّ من أركان الإيمان الإقرارَ بالقلب مصحوباً بعمل الجوارح. يقول تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر/ 10). ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) (آل عمران/ 102)، وكأنّ الآية توحي أنّ المطلوب من المؤمنين – بما لهم من هذا الوصف الجميل والمهمّ – ليس تقوى في درجة متوسّطة أو عادية، بل التقوى اللائقة بمقام العزة الإلهية، والآيات الواردة بهذا اللسان كثيرة جدّاً.

 

العامل السابع: حُبّ الله عزّ وجلّ

نختم الدوافع نحو تقوى الله بدافع حبّ الله، وهو العامل الألطف والأدق والأفضل، فالله سبحانه يؤكد في بعض الآيات أنّه يحب المتقين، كقوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 76).

وبالطبع، فإنّ هذا السبب لا يتذوّقه إلّا مَن عرف طعم حبّ الله، وعرف مقام الله جلّ وعلا، وما لمحبيه عنده من المنزلة والدرجة، عند ذلك فقط يندفع نحو التقوى بقوّة قد يصل معها إلى درجة تقرب من عصمته عن الذنوب.

والمتقون وحدهم هم الذين يحبّهم الله عزّ وجلّ. ومن الطبيعي إذاً أنّ يكونوا – وحدهم – المفلحين، كما وصفهم الله سبحانه بقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف/ 157).

وإذا كان غيرُ المتقين غيرَ مفلحين، فلا ملجأ إلّا أنّ نتقيه فنفلح وننال شيئاً يسيراً، وما هو بيسير، مما أعدّه للمتقين، ولم تُعَدَّ الجنّة إلّا للمتقين، قال تعالى: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 133).

 

الصدر: كتاب التّقوى والمتّقون في القرآن الكريم

ارسال التعليق

Top