• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإعجاز القصصي

الإعجاز القصصي

◄يقال في اللغة قصَّ قصّاً وقصَصاً: تتبَّعه (وهو أصل المعنى) وقصَّ الخبرَ: أعلَمَ به وحدَّث.

والقَصَصُ: الخبرُ المقصوص، والقِصَصُ جمع القصة التي تكتب، وجمع الجمع أقاصيص.

والقصة: الحديث والخبر والأمر، ويقال في رأسه قصَّة أي جملة من الكلام، ويقال اقتصصتُ الحديثَ أي رويتُه على وجهه وقصصتُ الرؤيا على فلان إذا أخبرته بها.

ويقال استقصَّ فلاناً أي سألهُ أن يَقُصَّهُ خبراً أو أثراً، والقصّاص هو الذي يعمل بالقصّة أي محترف القصة.

والقاصُّ: الذي يأتي بالقصة على وجهها كأنّه يتتبع معانيها وألفاظها، وجمع القاصّ قُصَّاص. وفي الحديث: "لا يقُصُّ إلا أميرٌ أو مأمورٌ أو مختال".

أي لا يقوم بذلك إلا أميرٌ يعظُ الناسَ ويُخْبرهم بما مضى ليعتبروا، أو مأمورٌ فيكون حكمُهُ حكمَ الأمير، أو مختالٌ يفعل ذلك تكبّراً على الناس بقوله وعمله بحيث لا يكون وعظُه وكلامُه حقيقةً.

وفي الحديث (القاصُّ ينتظِر المقتَ)، لما يعرض في قِصَصِهِ من الزيادة والنقصان. وفي الحديث أخيراً: (إنّ بني إسرائيل لما قصُّوا هلكوا).

 

- الإعجاز:

الإعجاز أن تضعفَ القُدَرةُ الإنسانيةُ في محاولةِ المعجزة، واستمرارُ هذا الضعفِ على تراخي الزَّمنِ وتقدّمهِ، فكأن العالم كلَّهُ في العجزِ إنسانٌ واحدٌ، ليس له غيرُ مدّتهِ المحدودة، بالغةً ما بلَغَتْ.

 

- الإعجاز القصَصيّ:

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يوسف/ 3).

أن نقلِّبَ صفحات التاريخ ونقرأ أخبار الماضي فهذا شيءٌ مفيد ندركُ به كثيراً مما سلف ونتعلّمُ منه تجربة لما قد يحدثُ ولكنَّ ذلك يقتضينا العديد من المؤلفات وكتب التاريخ، أما أن نُقَلِّبَ صفحات الزمن ونقع على كثير مما حدث ووقع منذ بدء الخلق وضمن كتابٍ واحدٍ فهذا إعجاز قائم بذاته في القرآن الكريم.

وإعجاز القرآن ليس آتياً من حيث إنّه احتوى أروع القصص وأحسنها لبلوغه النهاية في الفصاحةِ وحسن المعاني وعذوبة الألفاظ مع التلاؤم المنافي للتنافر، والتشاكل بين المقاطع والفواصل وحسب، بل لأنّه قد أتى ذكر الأُمم الماضية، وأخبار الكائنات الآتية، وجميع ما يحتاج إليه العباد إلى يوم القيامة من المعارف والمنافع بأعذب لفظ وتهذيب، وفي أحسن نظم وترتيب. وهذه القصص القرآنية تتضمّنُ من الإعلام والدلائلِ، والمعارفِ، واللطائف والعِبَر ما لا تتضمنه قصصُ العالم بأسره بحيث لو تتبَّعتَ أيها القارىء الكريمُ ما جرى في هذه القصص من أحداث ووقائع وما تخلّلها من حوار ونقاش وما تضمنته من ظروف وملابسات، لوجدتَ أنّ الله سبحانهُ وتعالى أرادَ أنْ يُعطيك الصورةَ الإنسانيةَ الكاملَةَ، مختاراً ثُلّةً من عباده الصالحين وذلك بتدرج وتطور متنافسين؛ حابكاً ما جرى معهم خلال عصور متباعدة بنسجٍ بلاغي فريد، مخرجاً للبشرية دقائقَ الأحداث التي كان لها الأثر الكبير على استمرارية الوجود بأسمى وأروع وأحسن القصص.

ويتجلى الإعجازُ القصصيُّ للقرآن الكريم بدءاً بأبينا آدم (ع) وانتهاءً بسيدنا محمد (ص) حين يُرينا كيف بدأ الوجودُ الإنساني وكيف تمّ تكوينُهُ على سطح الكرة الأرضية،، بأسلوبٍ هو بحدّ ذاته معجزة المعجزات، إذ وضع الإنسان أمام الخيار المطلق، فإمّا أن ينصاع لأوامر خالقه ويبقى في الجنّة فلا يأكلُ الثمرة المحرَّمة، وإمّا أن يَسْتَغْويَهُ مخلوقٌ آخر فيغفلَ عن الذات التي أراده الله بها فيهبط إلى الأرض، حيث تدور قصة الصراع بين الخير والشر، تلك القصة التي رافقت الحياة على كوكبنا الأرضي، وما زالت إلى يومنا هذا وحتى قيام الساعة. وفي خضمّ هذا الصراع وفي دورانه المستمر يقصُّ علينا القرآن الكريم: بناء السفينة وفورَ التنور، وبْدْءَ الطوفان.

وسلب النار خاصيتها لتكونَ برداً وسلاماً..

وانحباس عيون الماء، وانفلاق البحر حتى أصبح كلّ فِرْقٍ كالطود العظيم.

وتسخير الجبال والطيور والأشجار للترتيل والتسبيح بأصوات لا تضارَع بحسن نغمها.

وتسخير الجان والريح وفهم أصوات الطيور والحشرت وغيرها من المخلوقات.

والقدرة على إحياء الموتى وشفاء الأبرص والأكمه بإذن الله.

وإخضاع البلاغة وانقيادها وسجودها أمام ما جاء به سيد المرسلين وخاتم الأنبياء محمد (ص).

وبعد هذا الكمال المطلق الذي صوَّره القرآن الكريم فأبدع في التصوير للوقائع، وقصَّ علينا فكان ما قصَّه من أروع الحقائق، ماذا تروم أيها الإنسان من قوي البرهان في أجلى بيان؟ وكيف تريد أن تتصوَّر نفسك؟.

لا إخالك مستطيعاً أن تضفيَ شيئاً من تصوراتك يزيد في الروعة على ما جاء به القرآن الكريم حتى ولو كان تصوُّرك في عالم الخيال؛ ماذا تريد؟

أتريد أن تتصوَّر نفسك مقيماً في الجنّة فهذا هو سيّدنا آدم (ع) أم ماذا؟ أتقول أنا إنسان واقعي وحياتنا الحاضرة بعيدة عن الخوارق والمعجزات، وإنسانيتنا تقوم على المثل العليا للوصول إلى تحقيق أعلى المستويات؛ فهذا هو سيدنا يوسف (ع) تآمر عليه إخوته فأبعدوه عن أمّه وأبيه بالتضليل ورموه (في بئر) فأنقذته قافلة مرَّت به وضمَّته إلى متاعها وباعته بثمنٍ بخسٍ! دراهم معدودات، فقيَّض الله له أن يعايش أهل القصور ويرى ما هم عليه من مهانة وفجور، ثم دُعي للتخلي عن المُثُل العليا فتشبَّث بها فأدخل السجن ولبث فيه عدد سنين لا لشيء إلا لأنّه أبى عيش الفسق والفجور، وانتهاك حرمات الآخرين مع أنّه كان في ريعان الشباب، ومن أجمل خلق الله في عصره حتى ضُرب المثل في حُسنِ يوسف وجماله، فظلَّ صاحب فكر ثاقب وعلى مستوى كبير من الثقافة، ولم يستغل معطياته وقدراته لتحقيق مآرب خاصّة، أو إشباع شهوات فانية كما يحاول أن يفعل الكثيرون في كلِّ زمان ومكان، لأنّه أخضع كلّ ما أعطاه الله من مزايا وإمكانيات لرفع القيم الإنسانية والمحافظة على المُثُل، فوصل إلى أعلى المراتب في هذه الحياة وفي الآخرة هو عند الله من المكرمين.

أم تتوخّى أيها الإنسان أن تكون قائداً منقذاً، أو مصلحاً اجتماعياً، أو ثائراً على الظلم والاستعباد، فهذا موسى (ع) قد رحل بقومه عن الفراعنة المتربّبين ليخرجهم من الظلمات إلى النور ومن العبودية إلى الحريّة.

أم تريد أخيراً أن تقف موقف من يعمل لإنقاذ الإنسانية المعذبة فهذا سيّدنا محمد (ص) خاتم الأنبياء الذي يحمل لواء الإنسانية كلها كي يخلّصها من عبادة الأوثان، ومن جميع الأدران والشوائب التي علقت بها ومن ثمّ ليرسي قواعد الإسلام على أسس المحبة والأخوة والسلام.

ومن إعجاز القصص في القرآن الكريم أنك أيها القارىء ترى قصة كاملة تامة الفصول ضمن سورة واحدة كقصة يوسف (ع) ثمّ ترى قصة أخرى في عدد من السور القرآنية كقصة موسى (ع) فتكون قصة يوسف ذات طابع فريد من نوعه ضمن القرآن الكريم، لأنّ قصص الأنبياء ترد في حلقات تناسب كلّ حلقة منها موضوع السورة واتجاهها وطرفها ومناخها. أما القصَص الذي ورد كاملاً في كثير من سور القرآن الكريم كقصص لوط وعاد وثمود فإنّه ورد مختصراً مجملاً، إلا قصة يوسف (ع) فإنها وردت مفصَّلة بتمامها في سورة واحدة اختصَّت بها دون غيرها.

ولا تجد في سور القرآن الكريم تفصيل قصة من القصص سواها، بل تلاحظ أنّه لم ترد أية إشارة لأحداث وقعت ليوسف (ع) في القرآن الكريم في غير تلك السورة المباركة.. هذا هو الإعجاز العظيم في القرآن الكريم بحيث يروي قصة مفصلة كاملة في سورة واحدة ومن ثمّ يروي قصة في عدة سور، مفهومة في كلِّ مكان وردت فيه، مصيبة الهدف الذي أنزلت من أجله. وإذا كنّا نبغي التسهيل واختصار الوقت للقارىء فإنّ جهدنا سوف ينصبُّ على محاولة التنسيق فقط، فالنبيّ نوح (ع) مثلاً، تجد في القرآن الكريم سورة باسمه (سورة نوح) تتحدث عنه فقط، ولكنك تكتشف أنّ جوانب كثيرة من حياته وردت في سُورٍ أخرى، ولذا فإنّ قراءة سورة نوح (ع) لا تعني أننا عرفنا كلّ ما أورده القرآن الكريم عن النبي نوح (ع) لا تعني أننا عرفنا كلّ ما أورده القرآن الكريم عن النبي نوح (ع) كما هو الحال في سورة يوسف (ع).. وقد وجدنا – من أجل التسهيل على القارىء – أن نجمع وننسّق كلّ ما ذكر عن أنبياء الله في القرآن الكريم مخصِّصين مكاناً لكلِّ نبي على حدة، مقتصرين على الأحاديث النبوية وبعض الصحابة الكرام الذين كانوا يدورون في فلك النبوَّة، لأنّ رسول الله (ص) جاء مبيّناً للقرآن الكريم، مبعدين الإسرائيليات التي تربَّعت على عرش القصّة القرآنية أمداً طويلاً من قبل بعض المفسرين.

وأنت تتساءل معي أيها القارىء الكريم: ألم يَأنِ للإسرائيليات أن تزول من رؤوس المسلمين والعالم المفكّر؟.

ارسال التعليق

Top