• ٢٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العطاء الإيجابي للفنان المسلم

صالح أحمد الشامي

العطاء الإيجابي للفنان المسلم

إنّه الإنسان الموهوب السوي الملتزم.
تلك سمات ثلاث لابدّ من توفرها حتى نكون أمام "الفنان المسلم".
فالأولى منها هي السمة التي لابدّ من توافرها في الإنسان حتى يكون فناناً. والثانية والثالثة سمتان ضروريتان لتحقيق معنى الإسلام.

1- الإنسان الموهوب:
أمّا "الموهبة" فهي المنحة التي يمنحها الله إنساناً من الناس بحيث يرهف حسُّه، وترق مشاعره، وتنفذ بصيرته..
إنّها قضية غير مكتسبة ولكنها "هبة".
يقول الأستاذ محمد قطب:
"والفنان شخص موهوب، ذو حساسية خاصّة، تستطيع أن تلتقط الإيقاعات الخفية اللطيفة التي لا تدركها الأجهزة الأخرى في الناس العاديين، وذو قدرة تعبيرية خاصة تستطيع أن تحول هذه الإيقاعات – التي يتلقاها حسه مكبرة مضخمة – إلى لون من الأداء الجميل يثير في النفس الانفعال، ويحرك فيها حاسة الجمال.
إنّه كجهاز الاستقبال اللاسلكي الدقيق، الذي تحس صماماته بالموجات الدقيقة الخفية فتلتقطها وتكبرها، ثمّ تحولها إلى صوت ونغم، صاف جميل يهز الأسماع..".
وإذا كانت هذه "الموهبة" هي السمة المميزة للفنان، فلابدّ – حتى تؤتي ثمارها – أن تستند إلى أرض صالحة ثابتة، حتى تأخذ طريقها سوية مستقيمة، منتجة للظل الوارف، والثمر الطيب، والأريج الفياح، والمنظر الجميل.. وإلا كانت نيتة طفيلية، تشوه المنظر، وتعرقل نمو الطيب من النبات، وتؤذي بشوكها ورائحتها..
ولهذا كان الحديث عن هذه السمة يستلزم بالضرورة الحديث عن السمة الثانية؛ إنّها:

2- الإنساني السوي:
إنّه الإنسان المتوازن، الذي توفرت له الصحة النفسية الكاملة، وهذه السمة هي نتيجة تلقائية عادية للتربية الإسلامية التي يسهم فيها البيت المسلم، والمدرسة المسلمة، والمجتمع المسلم.
والتوازن يجعل الفرد ذا عطاء إيجابي في جميع الميادين. وفي كل الاتجاهات، ذلك أنّ الوئام يخيم على حياته. إذ كل من عقله وجسمه وروحه يعمل بتناسق تام بحيث لا يطغى جانب على آخر، والفرد في مجتمعه كل منهما يكمل الآخر...
إنّ الفنان قبل أن يكون موهوباً، ينبغي أن يكون إنساناً سوياً، يأخذ التوازن أبعاده في كيانه، له تصور كامل عن الكون والإنسان والحياة، يدري غايته وهدفه في هذه الحياة.. لا تعيش نفسه خلف جدار من إشارات الاستفهام التي لا يدري لها جواباً،.. فهو واضح في كل شيء، ينبع وضوحه من وضوح منهجه..
تلك هي النفس التي يهيؤها الإسلام في كل إنسان، وحين تظهر الموهبة على هذا السطح، الثابت الأركان، يمكن أن تكون إيجابية فعالة معطاءة في سبيل الخير والجمال، ذلك أن ثقلها وضغطها لن يؤثر على ثبات القاعدة، فلن يختل توازنها.
وتعاليم الإسلام ومنهجه يكفلان هذا الثبات المتوازن.
إننا إذن بحاجة إلى الإنسان السوي الموهوب لنكون أمام النظرة الثاقبة، والتعبير الأخاذ، والسلوك الصحيح..
وحين لا يتاح "للموهبة" ذلك السطح، فإنّها لابدّ أن تعبر عن وجودها، ولكنها ستكون متأثرة بنوعية تلك التربة، ومتأثرة باهتزازات القاعدة التي تزلزلها الشكوك والأوهام، فيبدو "الإنتاج" وعليه آثار تلك الاضطرابات.
إننا حينئذ سنكون أمام "موهبة" ولكنها تسير على غير هدى، لا تعرف الغاية، كما لا تعرف الباعث، إنّها موهبة، انطلقت على أرضية غير معدة فغاصت في جانب من النفس ليرتفع الجانب الآخر معلناً عن الخلل الذي أصابه.
إننا نريد إنساناً فناناً، ولا نريد فناناً، مرض الإنسان فيه وبقي الفنان، فبات تعيساً لا يدري مصدر تعاسته.
إنّ الخلل النفسي بات ظاهرة متكررة في حياة الفنانين، مما دعا علماء النفس لبحث هذه الظاهرة.
جاء في كتاب مشكلة الفن،
"إنّ حياة معظم الفنانين قلما تخلو من سخط وتعس ودراما، حتى لقد وقع في ظن البعض أنّ الحظ السيء لابدّ من أن يلازم الفنان العبقري، ولكن السر في شقاء الفنانين ليس هو حظهم السيء، أو مصيرهم البائس، بل هو نقص الجانب الشخصي في حياتهم البشرية العادية.. ولما كانت القدرة الإبداعية التي تسيطر على الفنان لابدّ من أن تؤدي إلى تركز طاقته الحيوية في تجاه معيّن، مما يترتب عليه حدوث فراغ في جانب آخر من جوانب حياته، وهكذا ينمي الأنا الشخصي للفنان شتى الخصال السيئة كالقسوة والأنانية والغرور وما إلى ذلك من رذائل..".
والظاهر أنّه لابدّ للعباقرة من أن يدفعوا ثمناً باهظاً لتلك المنحة الإلهية التي يتمتعون بها، ألا وهي شعلة الإبداع..".
ذلك هو رأي عالم النفس "يونج" الذي اعتبر الانحراف نتيجة للإبداع، بينما يذهب "فرويد" إلى اعتبار الانحراف هو العلة في إبداع الفنان.
وبغض النظر عن مناقشة الرأيين، فإنّهما متفقان على أنّ الفنان إنسان غير سوي. الأمر الذي يذهب إليه "يونج" بصراحة ووضوح، حين لم ينسب إلى الفنان حياة عادية سوية كغيره من عامة الناس، بل هو يقرر أنّ الشخص المبدع لابدّ أن يحمل في أعماق نفسه ثنائية حادة تعبر عن تناقض القدرات فيه..
إنّنا إذا ذهبنا نستطلع حياة كثير من فناني العصر الحديث وجدنا مصداق ما ذهب إليه "يونج".
إنّ "بيكاسو" فنان ملأت سمعته الأفاق.. أما حياته.. فهي عجب من العجب، وإذا أتيح لك أن تقرأ ما كتب عنه وجدت نفسك مدفوعاً لمتابعة القراءة.. لما فيها من غرائب وهمجية وخيال..
ولعل أهم ما يستوقفنا ونحن نتحدث عن الفن والجمال ذلك التناقض العجيب في ذوق بيكاسو الفني الجمالي.. فهو صاحب اللوحات..؟! ومع ذلك تقول زوجته الرابعة في مذكراتها: ".. وما زلت أذكر أوّل ثوب اشتراه لي، وكان من الصعب أن يجد أقبح منه، لكنني أثبت له بارتدائه أنني فوق التفاهات النسائية مثل حب الظهور أو خشية ما يستوجب السخرية..".
وأين إذن النظرة الجمالية لدى الفنان الكبير، إنّ الثوب الذي اختاره لا يفقد الجمال وحسب ولكنه يجمع القبح ويثير السخرية..؟!
ورأينا كيف أن "سيزان" لم يشارك في جنازة أُمّه، لأنّه آثر الذهاب إلى المرسم!! والسؤال، أين جمالية العواطف، وصلة القربى؟ وأين جمالية السلوك الاجتماعي؟..
ونتساءل أين العقل السوي لدى "فان جوخ" وقد صلم أذنه؟
وأمثلة وأمثلة لا تكاد تنتهي.. منها ذلك الرتل الطويل من الفنانين والعباقرة الذين آثروا أن ينهوا حياتهم بطريقة الانتحار..
إنّ الفنان مصدر لإنتاج الجمال ونشره في حياة الناس ودنياهم بما حباه الله من موهبة، وهذا يعني أنّه يشيع السعادة فيما حوله.. وهذه أوليه مهمة في شخصيته، وإلا فما فائدة أن يخط الجمال بقلمه أو ريشته أو إزميله... ثمّ يعجز أن يخطه بسلوكه، أو يكون ممن يثبت المتناقضات بذلك السلوك؟!
وكم في دنيا الناس من هؤلاء.. لقد تحدث "سانت بيف" عن واحد منهم وهو "سان بيير" فقال، إنّه أشد الأمثلة قدرة على بعث خيبة الأمل بسبب عدم التوافق بين حياته وعلمه... فإنّه لم يكن متصفاً بالحساسية العاطفية التي صورها، بل كان مجازفاً، مليئاً بالشكوك والنفاق، محباً للعراك متصفاً بخشونة الطبع.. كم أريد أن أمحوه من مخيلتي..
وإذا كان الاتفاق يكاد يقوم في العصر الحديث على ملازمة النفس غير السوية للفنان، فما الذي يضمن أن ما يصدر عن هذه النفس هو فن سوي؟!
ألا نستطيع بناء على هذه الظاهرة، تفسير ذلك العبث والخلل العريض الذي أصاب الفنون فتضخم الهوس تحت عناوين مختلفة من مدارس واتجاهات..
إنّ الفنان إنسان سوي وزيادة.. هذه الزيادة هي الموهبة.. وهي حينئذ امتداد طبيعي.. أما حين توجد هذه الزيادة في إنسان غير سوي فهي انتفاخ الورم الذي يظنه الرائي شحماً.
إنّ التربية الإسلامية التي بَنَت الإنسان السوي في الفنان، جنبته تلك المنزلقات التي وقع فيها الآخرون، فباتت حساسيته الخاصة ازدياداً في رقي العواطف، وارتفاعاً في السلوك، وجمالاً في الأداء، فهي ارتقاء متوازن قام على قاعدة سوية متوازنة.
ويحسن بنا هنا أن نذكر بما قلناه لدى حديثنا عن خصائص الفن الإسلامي، حيث بيَّنا أن تصنيف "الفن" في قسم التحسينات، وهو قسم لابدّ أن يعتمد بالضرورة على قسم أولي قبله وهو قسم الضرورات.. ونقول هنا إنّ "الفنان" في الإنسان هو من قسم التحسينات التي ينبغي أن يسبقه وجود "السوي" في هذا الإنسان.

3- الإنسان الملتزم:
وإذا كنا بصدد الحديث عن الالتزام فينبغي أن نفرق بينه وبين الإلزام.
فالالتزام اتجاه ينبع من حرِّية الفنان، حيث يختار ذلك المسلك بملء إرادته، تدفعه إليه رغبته، فهو التعبير عن حرِّية الفنان.
وأما الإلزام فهو موقف سياسي أو اجتماعي تتخذه طبقة أو حزب ثمّ تفرضه على من هو تحت سيطرتها، فإن كان الفنان في هذه الحالة يعمل بدافع من قناعته بذلك الموقف فهو "ملتزم" وإن كان يعمل تحت عامل القهر والإكراه فهو "ملزم".
ويتجسد "الإلزام" واضحاً جلياً في المذاهب الاشتراكية، والماركسي منها بشكل خاص. إذ إنّنا "حين نستقصي حقيقة الالتزام في الفكر الاشتراكي أو الشيوعي من حيث واقعها الحياتي نجدها تعني الانتساب إلى هذا الفكر والالتزام بمبادئه ولو عن طريق القوة. وهو لذلك لا يعني الالتزام وإنما يعني الإلزام، وليس أدل على ذلك من اضطهاد كبار كتّاب السوفييت لأنّهم عبروا عن أفكارهم بحرِّية، من هؤلاء "باسترناك" كاتب رواية "الدكتور جيفاكو". فالأدب الشيوعي يعيش في جو من الإرهاب السياسي والقمع البوليسي.. مما يحفز هذا الأدب إلى ترويج المفاهيم الشيوعية دون اقتناع بها..".
على أنّ قضية الإلزام ليست أمراً جديداً، فقد سبقت إليه الكنيسة منذ عهد بعيد، وهذا ما يذكرنا بما حدث عام 787 حيث أصدر مجمع نيقية الثاني بصفة رسمية قراره التالي: "إنّ مادة المشاهد الدينية لا ينبغي أن تترك حرة تحت تصرف إبداع الفنانين، بل ينبغي أن تستمد من المبادىء التي وضعتها الكنسية الكاثوليكية والتقليد الديني.. فالفن وحده ملك للفنان، وأمّا تنظيمه وتنسيقه فهما ملك لرجال الدين".
وقد وضعت لذلك قواعد خاصة تنظم عمل الفنان، وتوضح الفرق بين الفن والمادة – كما ذكر ذلك الأستاذ لييمان – بل تجاوزت ذلك لتفرض شكلاً معيناً لبعض اللوحات لا ينبغي للفنان تجاوزه.. وخاصة فيما يتعلق بلوحات الصلب.
ومهما يكن من أمر، فإن طبيعة الإلزام واحدة لا تتغير، فهو قاس دموي شرس.. قد يتغير فيه الأسلوب من مذهب إلى آخر ولكن حقيقته تظل ثابتة، فمحاكم التفتيش الكنسية تعاد ذكرياتها في صحراء سيبيريا الروسية.

المصدر: كتاب الفن الإسلامي التزام وابتداع

ارسال التعليق

Top