• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

عين بكت من خشية الله

عبد العزيز كحيل

عين بكت من خشية الله

طغت المادة وتبرّجت الدنيا وانتشرت الشهوات وقست القلوب وأصبح الطرف الدامع أعزّ من بيض الأنوق وأندر من الكبريت الأحمر... يحدث هذا والمسلمون يقرؤون القرآن ، وفيه:
(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (التوبة/82)
(أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ) (النجم/59-61)
(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (مريم/58)...نعم يسجدون عند هذه الآية أي يؤدون الحركة البدنية لكن الحسن البصري يقول لهم: "هذا السجود فأين البكاء؟"
كان هذا في عصر التابعين فكيف لو عاش حتّى رأى هذا الانغماس الكامل في شؤون الدنيا وكأن الناس في دار الخلود ليس أمامهم موت ولا قبور ولا قيامة ولا نشور؟
(قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) (عبس/17)
يحدث هذا والمسلمون يقرؤون سنة نبيّهم (عليه الصلاة والسلام) وفيها:
• عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت ساهرة في سبيل الله (رواه الترميذي)
• ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين (...) قطرة دموع من خشية الله وقطرة دم تهراق في سبيل الله (رواه الترميذي)
• لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتّى يعود اللبن في الضرع (رواه الترميذي)
• (من السبعة الّذين يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظل إلاّ ظلّه: رجل ذكر الله خاليّاً ففاضت عيناه) (متّفق عليه)
نعم، نؤمن بالقرآن الكريم والسنة ونحبهما لكن استفحال التوجه المادي وتمكن الدنيا من القلوب أفقدنا الرشد فتصلبت المشاعر وجفت المآقي... فينا من يبكي من شدة الفرح أو لدغة الحزن، فينا من يبكي من فرط اللذة أو الألم... هذه أمور يشترك فيها الناس فأين البكاء من خشية الله تعالى الذي لا يحسنه إلا المؤمنون؟
كيف لا يذرف المؤمن الدموع إذا خلا بنفسه وتفكر في حاله؟ ها هي نعم الله تعالى تحيط به من كل جانب ظاهرة وباطنة، والعناية الإلهية تكلؤه بينما هو غافل عنها، يستمتع بالنعمة وينسى المنعم، بل يبذل النعمة في معصية المنعم. ينظر فيرى نفسه سابحاً في لجة من العطايا الربانية والآلاء السماوية، وهو مقصر في حق الله تعالى، فيتذكر قول الله عز وجل : (أََنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) (الزمر/56)، فالجدير به أن يبكي لعل دموعه تطفئ ناراً تلظى تتربص به.
يخلو المؤمن بنفسه في محرابه أو اعتكافه أو زاويته المنفردة ويذكر مصيره: أليس أمامه قبر سيؤويه؟
(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (البقرة/281)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة/254)
فكيف لا يبكي من هذا حاله؟ أم كيف يستمرأ ما عليه دنيانا من تغافل عن الآخرة وانخراط في حياة الشهوات والغرائز واللعب واللهو؟
ألم يأن للمؤمنين أن يتحرروا من سطوة الإعلام الذي حول الوجود إلى ساحة للغناء والرقص والضحك والقمار والتفاهات؟
ذلك هو بيت القصيد..... لو خشعت القلوب لانهمرت العيون بالعبرات بكاء على النفس الأمارة بالسوء وخوفاً من الجليل وطمعاً في جنة لا يدخلها (إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/89)
ومشكلة القلب والعين مشكلة تربية، وقد قال بعض الصالحين، "'عوّدوا أعينكم البكاء وقلوبكم الخشية".
إنّ البكاء الذي وراءه إيمان وسيلة تربوية فعالة، فانظر في قلبك أيها المؤمن أفيه خشية وخشوع وتعظيم لله وتأنيب للنفس، وانظر في طرفك الجافّ وعوّدة دموعاً صادقة تثقّل ميزانك يوم المعاد والحساب والجزاء، وعلّم كل هذا أبناءك وطلاّبك فإنه من أنجح وسائل الاستقامة، وإياك والغفلة فإنها تجارة ضعيفة.

ارسال التعليق

Top