• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحضارة مقولة ثقافية.. نظرية قرآنية

حيدر موسى عبدالعظيم

الحضارة مقولة ثقافية.. نظرية قرآنية
في كثيرٍ من الأحيان يبدو لنا وكأنّ التاريخ يُعيد نفسه. ولكنها في الحقيقة سنن التاريخ وقوانين الحياة تتكرر كلّما توفرت الظروف المشابهة والأسباب المحددة، وتتخلف تاركة الساحة لأحكامٍ أخرى كلما تغيرت الظروف واختلفت الأسباب. ولكننا الآن نتكلم عن نظرية الحضارة في القرآن؟ في الواقع، فإنّ هنا ملاحظة تععلق بمسألة التكرار والتخلف في سنن التاريخ والحياة. فحينما انهارت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، فإنّ انهيارها في الواقع كان انحناءً للعاصفة العاتية. كان كل شيء هناك يدعو إلى اليأس. أكثر المدن الألمانية كانت غارقة في الدماء والأنقاض. ربع مساكن ألمانيا كان قد دُمر أو أصيب بأضرارٍ جسيمة. أما الإقتصاد وحركة المواصلات كانت منهارة ومشلولة تماماً. وأدى ذلك إلى نقصٍ تام حتى في أبسط الأمور الضرورية. أما الشعب الألماني فكانت ملايين منه في الأسر، وملايين فقدت منازلها، وملايين أخرى شُردت عن ديارها. وجاءت القوى السياسية المنتصرة لتزيد إلى محن ألمانيا محنة اجتماعية نفسية جديدة، بتقسيم الشعب الواحد إلى قسمين، وإنقسام ألمانيا إلى شرقية وغربية، وأصبح "جدار برلين" رمزاً لهذا الإنقسام. ولكن ألمانيا استطاعت وفي فترة قياسية أن تستعيد عافيتها، وأن تصنع لنفسها أقوى اقتصاد في القارة الأوروبية، وأصبح الأمر وكأن المارك الألماني بدأ ينافس أو يصارع الدولار الأميركي، الذي كان قبل قليل قد ساعد ألمانيا في النهوض من كبوتها الإقتصادية. هذه القصة كانت قد "تكررت" إلى حدٍ ما قبل عدة قرون بالنسبة للدولة العباسية. كانت الدولة العباسية – مثل ألمانيا – دولة ذات إمكانات علمية واقتصادية وبشرية هائلة (مع مراعاة الخصوصيات ومنطق التطور الزمني). انهارت الدولة العباسية إثر الغزو المغولي، ودخول "هولاكو" بغداد، واستسلام الخليفة العباسي الذي قُتل على يد المغول. (ألمانياً هي الأخرى دخلتها جيوش الحلفاء – لأسباب مختلفة – وفي 8 مايو/ أيار من عام 1945، قام الأميرال "دونيتس" الذي عينه "هتلر" خلفاً له في وصيته، بالتوقيع على وثيقة الإستسلام الكامل دون قيد أو شرط. وكان مصيره أن ألقى الحلفاء المنتصرين القبض عليه بعد ذلك بقليل). انتهى بالغزو المغولي الحكم العباسي. وانتهى باحتلال جيوش الحلفاء أراضي ألمانيا الحكم النازي. تعرض العالم الإسلامي – بسبب ذلك – إلى نزيفٍ بشري (ارتكب المغول مجازر دموية رهيبة في طول الأراضي التي احتلوها) وعلمي (ألقى المغول الهمج مئات الألوف من الكتب العلمية في كافة المجالات في نهر دجلة، حتى أصبح لون الماء أزرقاً كما يقول التاريخ، وصنعوا من هذه الكتب جسراً تعبر عليه خيولهم من ضفةٍ إلى أخرى! وبالإضافة إلى ذلك فإنّهم قاموا بقتل العلماء) واقتصادي (قام المغول بإفساد كل شيء كان يقع تحت أيديهم). (ألمانيا هي الأخرى تعرضت لهذا النزيف: بشرياً فملايين الشعب الألماني كانت بين قتلى وأسرى وجرحى ومشردين. علمياً، كانت القوتان الكبريان (الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة) "أعقل" من المغول. لم تدمرا التراث العلمي ولم تقتلا العلماء الألمان، ولكنهما قامتا "بسرقتهم" إلى ديارهما. واقتصادياً، كان كل شيء يبعث للحسرة هناك). ولكن ألمانيا – بعكس الدولة العباسية – استطاعت، وفي فترةٍ قياسية، أن تستعيد صحتها وتقف على رجليها وتبني نفسها من جديد، وكأن شيئاً لم يحدث. أما العالم الإسلامي فلم تقم له بعدها قائمة. ألمانيا انحنت للعاصفة حتى مرت "بسلام". أما العالم الإسلامي يبدو وكأن العاصفة العاتية أنهت فيه كل شيء. ما هو السبب؟ لماذا ماتت الأُمّة الإسلامية إثر الإحتلال المغولي، ولماذا انبعثت ألمانيا بعد احتلال الحلفاء لأراضيها من جديد؟ السبب أنّ ألمانيا فقدت في الحرب كل شيء، وباستثناء شيء واحد هو فاعليتها الحضارية. أما بالنسبة للعالم الإسلامي فقد كان الغزو المغولي رصاصة الرحمة بالنسبة لهذه الفاعلية. الفاعلية كانت قد تجمدت منذ أمدٍ، والغزو المغولي كان إعلاناً صريحاً لهذا الجمود. كل ما فعله هذا الغزو أنّه أزاح الستار فبانت الحقيقة. وهذه هي بالتحديد نظرية القرآن في الحضارة. ولنكن أكثر وضوحاً. كل النظريات التي استعرضناها كانت تُعالج مشكلة التخلف من عنصر مشترك: الواقع الموضوعي. رغم أنها تختلف في التفاصيل. النظرية الاقتصادية كانت تقول: إنّ مشكلة التخلف ناتجة من خللٍ في المسألة الاقتصادية. في البنية الاقتصادية في وسائل الإنتاج. في علاقات التوزيع. في نقص الرساميل الممولة... إلى آخره... وباختصار: في الواقع الاقتصادي القائم. نظرية "التكنولوجيا" هي الأخرى كانت تعتقد بأنّ مشكلة التنمية في العالم الثالث ونقطة الضعف فيه هو في افتقارها إلى التكنولوجيا الحديثة. في منع الدول المتقدمة في عالم الشمال التكنولوجيا عن عالم الجنوب. والتكنولوجيا – حسب تقرير "الهيئة المستقلة لمسائل التنمية الدولية" – مهمة ليس للنمو فحسب، بل وللقدرة على النمو أيضاً. نظرية "المؤسسة" أو "البطل" كانت ترمي مسؤولية التخلف على واقع المؤسسات في العالم الثالث. نظرية "الحرِّية" كانت ترى أنّ العقبة الكأداء أمام موجة التحضر في العالم المتخلف هي الديكتاتوريات ومصادرة الحريات. وأخيراً كان هناك من يتهم حركة الاستعمار بأنها وراء تخلفنا الحضاري. إذن، في كل هذه النظريات، هناك واقع موضوعي يقف وراء التخلف في العالم الثالث. القرآن الحكيم يعتقد أنّ الواقع الموضوعي لا يستطيع أن يصنع حضارة، ولا يستطيع أن يجعل من شعب متخلف شعباً متقدماً. الواقع الموضوعي (الأجهزة، الظروف، الأشخاص) قد يساعد، ولكنه لا يمكن أن يكون البديل عن فعالية الإنسان ما لم يتغير ما بنفس الإنسان. فإنّ ما بخارجه لن يتغير. ورغم أنّ هذه المسألة قد تكون واضحة للكثير (أحد جوانب الإعجاز في القرآن أن أطروحاته تنبع من فطرة الإنسان، ولذلك فهي واضحة) إلا أنها تنطوي على برامج عميقة وجادة. وإني آسف أن أقول إنّ العالم الثالث بذل تضحيات سخية لتغيير واقعه المتخلف دون أن يغير ما بنفس مجتمعاته وشعوبه. وإني آسف أن أقول مرّة ثانية: إنّ التخلف ليس فقط لم يتوقف بل تعمق. لقد راح العالم المتخلف يبحث عن حضارته الضائعة في الوجه الناعم من الحضارة الغربية، في البيت الجميل والأثاث الوثير والسيارة المريحة، دون أن يكلف نفسه حتى مجرد عناء البحث عن الوجه الصعب والخشن لهذه الحضارة، وجه العمل والتضحية والمعاناة. العالم الإسلامي لم يستطع أن ينهض من جديد بعد الغزو المغولي، لأنّ فاعليته الحضارية كانت قد وصلت إلى نهايتها. والشعب الألماني استرد عافيته بعد الحرب العالمية الأولى لأنّ فاعليته لم تكن تزال حية. وحتى تلك الآيات التي تتكلّم عن سلبيات الإنسان، عن جهله وفساده، فإنّها تشير إلى أنّ العقبات التي تقف أمام حضارة الإنسان، عقبات ذاتية وليست موضوعية. (أتذكر أنني ذات مساء فتحت نقاشاً مع بعض "المتدينين" حول هذا الموضوع (موضوع التخلف في العالم الإسلامي)، وأتذكر أنني قلت أننا يجب أن نتجاوز القضايا الهامشية، ونُعالج القضايا الملحة في واقعنا الاجتماعي والثقافي، الذي هو جزء من واقع العالم الثالث المتخلف. وفوجئت بأحد "المؤمنين" يقول لي: "العالم الثالث" اختراع غربي. أنت مسلم لماذا تجعل الكفار يخدعوك؟! قلت: فلنترك المصطلحات، ولكن أولسنا نحن المسلمين متخلفين؟ قال: لا! قلت: ولكن الملابس التي نلبسها والسيارات التي نركبها والبيت الذي نجلس فيه، كل ذلك لم يصنعه أنت أو أنا أو جدي أو جدك، "الكفار" هم الذين صنعوا ذلك. وأضفت: أنّ النبي (ص) يقول: اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى، والإمام عليّ يقول: احتج إلى من شئت تكن أسيره. واستغنِ عمن شئت تكن نظيره. وامنن على من شئت تكن أميره. وصُعقت عندما قال لي: هذا ليس دليلاً على التخلف!! وعندها لم أجد شيئاً غير أن أنسحب ضاحكاً. وشر البلية ما يضحك. وللأسف فإنّ الله لم يجعل للمتخلفين قروناً حتى نميزهم عن غيرهم!). هل رأيتم كيف أن مشكلتنا في أنفسنا، وبتعبيرٍ آخر في ثقافتنا؟ ما معنى هذا الكلام؟ معناه أن ثقافتنا بلغت حداً لا تستطيع معه حتى مجرد إحساسنا بمشكلتنا الرئيسية فضلاً عن التفكير في حلها. مشكلتنا في الدرجة الأولى في ثقافتنا. هل وقعت في التسطيح الذي تورطت فيه النظريات السابقة؟ سوف أحاول أن أشرح هذه الفكرة بقدرٍ كبير من الوضوح، من خلال معرفة معنى الثقافة وكيف صنعت لنا ثقافتنا المتخلفة واقعنا المتخلف. وكيف تتغير الثقافة. لماذا نجد هنا ثقافة متخلفة، ونجد هناك ثقافة الحضارة. في إحدى المرات، قال الحكيم يصف بعض الناس في الحياة على صورة مثل طريف: يا أعرابي! إنّ الطريق تسير فيه ليؤدي بك إلى مكة يوصلك إلى تركستان!. قد يمكن لنا أن نستلهم من هذا المثل طبيعة الثقافة. الثقافة هي القناة التي توجه فعاليات المجتمع المختلفة في إتجاهٍ محدد، وهي في نفس الوقت الصاعق الذي يفجر ويفرز هذه الفعاليات. وربما يكون الإيمان والعمل الصالح (الذي يتكرر في القرآن الحكيم) إشارة إلى هذه الحقيقة. فالإيمان هو المحرك (الصاعق)، والعمل هو الفعالية، والصلاح هو الوجهة (القناة). فإذا كان المجتمع البريطاني يصب طاقاته في قناة المحافظة، وإذا كان الجتمع الأميركي يصب طاقاته في الإتجاه البراجماتي؛ فإنّ المجتمع الإسلامي يصب طاقاته في قناة الصلاح. وبتعبيرٍ آخر: إذا كانت صبغة المجتمع البريطاني المحافظة، وإذا كانت صبغة المجتمع الأميركي هي البراجماتية، فإنّ صبغة المجتمع الإسلامي هي المنفعة القيمية (معيار الصحة والصلاح في الأفكار والسلوك هو تحقيق المنفعة للناس في إطار القيم الفطرية)، وهو تعبير آخر عن العمل الصالح، فالعمل هو المنفعة والصلاح هو القيمة. أخشى أن أكون قد تورطت في تعقيدات الفلسفة! سوف أحاول أن أشرح الفكرة من خلال مثل من الإقتصاد من واقع العالم الثالث. في العالم الثالث نحن نقوم (الدولة والتجار) بإفتتاح البنوك، في نفس الوقت تقوم شركات هنا وهناك، تصنع المؤسسات (مؤسسات الدولة) والشركات مئات من الخبراء والأيدي العاملة الفنية. تبدأ هذه جميعاً باستيراد الأجهزة المختلفة من الخارج لتسيير أعمالها. كل هذه الجهود من أجل أن نستورد سيارة أو تلفزيون. أي أنّ كلّ هذه الجهود تصب في قناة الإستهلاك، بينما نفس الجهود يبذلها الشعب الياباني ولكن في قناة الإنتاج. هذا هو – ببساطة – أحد الفارقين بين العالم المتخلف والعالم المتقدم: وجهة العمل. والفارق الآخر هو في العمل نفسه: في مقدار الجهد والتضحية. والثقافة هي مجموع هذين العنصرين. إذن فالفارق بين الشعب المتخلف والشعب المتقدم هو في مقدار العطاء والتضحية وتحمل المسؤولية و... و... ثمّ في اتجاه هذه الفعاليات. هذه هي التي تصنع الاقتصاد المتطور أو اقتصاد الكفاف، والتكنولوجيا الحديثة أو المجتمع البدائي، وحتى الحرية أو الديكتاتورية، والمؤسسة الصالحة والمؤسسة الفاسدة. ومشكلة العالم الثالث – إذا شئنا أن نرجع لمثل الحكيم – أنّه يرغب أن يصل إلى "مكة" ولكنه يسير على طريق يؤدي به إلى "تركستان" وعلى ظهر ناقة عرجاء! (أرجو أن نكون قد لاحظنا مشكلة الثقافة لا تحل بالشهادات العلمية، وأنّ الثقافة لا تتوقف عند حدود المهنة. فالثقافة تلف مختلف المهن وتصبغ كافة المستويات العلمية بصبغة واحدة). فإذا انتقلنا بعد هذا من معنى الثقافة إلى واقع الثقافة في العالم المتخلف، فإنّ الصورة سوف تصبح واضحة جدّاً. وإنني هنا سوف أقتصر على العالم الإسلامي، رغم أنّ الواقع هنا بعمومياته لا يختلف عن الواقع هناك في بقية شعوب العالم المتخلف. أصبحنا جميعاً نردد تلك المقولة الخطيرة: "عليك نفسك"، وهي تحريف لفظي نابع من إنحراف في الفكر لقوله تعالى: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) (المائدة/ 105)، التي تجعل من الفرد مسؤولاً عن المجتمع كله. بدأ الفرد يجد ذاته في مصالحه، وأصبحت الأُم تغذي وليدها هذا الشعور منذ أن يفتح عينيه، وحينما يشب يكون واحداً من جيل أصبح تكراراً للأجيال السابقة. وأصبح المسلم الذي كان جزءاً من خير أُمّة أُخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، لا يعنيه من أمر واقعه شيء. وبعد أن كان يخرج عن ربقة الإسلام عند إهماله شؤون المسلمين (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم) أصبحت مجرد الدعوة إلى تحمل مسؤولية دعوة إلى إلقاء النفس بالتهلكة، حرمها الله في كتابه العزيز! باختصار: أصبحت الأُمّة الشاهدة على الناس أمة بلا قضية. (كلما ذكرت هذا الواقع المأساوي للأُمّة الإسلامية، تذكرت في مقابله حدثاً كنت سمعته من أحد الأخوة. يقول: كنت في زيارة لأحد المتاحف في عاصمة أوروبية، وبينما كنتَ أتجول في أرجاء المتحف، دخل مجموعة من الأطفال في حدود السابعة والثامنة من أعمارهم بصحبة رجل. عرفت أنّهم طلبة في الصفوف الأولى من الإبتدائية جاؤوا هنا في جولة مع مدرسهم. لاحظت أنّ بيد المدرس عصا طويلة، وسرعان ما أخذ هو والطلبة أماكنهم أمام خريطة ضخمة للعالم ملونة بألوان متعددة. ولم يطل الإنتظار فقد أخذ المدرس العصا وأشار بها إلى بقعة واسعة من الخريطة ملونة بلونٍ واحد، وسأل تلامذته الأطفال: - هل ترون هذه البقعة؟ - نعم. - هل تعرفون لماذا صُبغت بلونٍ واحد؟ - لا. - إنّ هذا اللون يغطي الأراضي التي استعمرها أجدادكم! ثمّ انتقل إلى بقعةٍ أخرى ولون آخر: - هل ترون هذه البقعة. - نعم. - هل تعرفون ما هي؟ - لا. - إنها المنطقة التي استعمرها أبناء عمومتكم!. ثمّ انتقل إلى بقعةٍ ثالثة ولون ثالث، وأعاد عليهم نفس السؤالين، ثمّ قال لهم: إنها البلدان التي استعمرها جيرانكم. ثمّ انتقل إلى مساحة فارغة على الخريطة، لم تلون بلون. وقال لهم: هل تعرفون لماذا ظلت هذه المساحة غير ملونة؟ إنها مناطق لم يستعمرها أحد، لا أجدادكم ولا أبناء عمومتكم ولا جيرانكم. إنها تنتظركم، إكبروا بسرعة، حتى تحققوا ما لم يحققه أجدادكم من قبل). وهكذا أصبحت اهتماماتنا على هامش الحياة. ولم يكن العلماء أوفر حظاً من عامة الناس، كانت اهتماماتهم تختلف بحكم اختلاف "المهنة"، ولكنها لم تكن تتجاوز – سواء هنا أو هناك – هامش الحياة. ورغم أنّ القرآن الحكيم يؤكد في كثيرٍ من آياته أنّ معيار صحة الفكرة هو مقدار هدايتها للناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، إلا أنّ علماء عصور التخلف كانوا قد فهموا "النور" في حدود اهتماماتهم: هامش الحياة أو قضايا التاريخ السحيق أو ما بعد الحياة. ولأنّنا عجزنا أو تعاجزنا عن مواجهة الواقع أصبح الماضي هو البديل، ورحنا نتغنى بأمجاد الآباء وعنتريات الأجداد. والرجوع إلى التاريخ في مجتمعٍ فاعل ومتحرك قد يكون تأصلاً إيجابياً، ولكنه في مجتمع جامد ومتخلف تعبيرٌ عن عجز. وهكذا بدل أن يكون التاريخ معبراً وعبرة للحاضر والمستقبل أصبح سجناً يلفنا بقضبانه ويعزلنا عن الواقع، وبدل أن نواجه مشاكلنا الملحة وقضايانا الحادة، رحنا نعبث بملفات التاريخ لعلها تسعفنا بمشاكل معقدة تملأ علينا أوقات فراغنا الطويلة، وبدل أن نواجه المخاطر التي تحدث بنا جميعاً، ورطنا أنفسنا في خلافات تاريخية. وباختصار: أصبحنا وكأنّ التاريخ هو قضيتنا الكبرى، وبدل أن يكون معبراً أصبح مقبراً. ولأنّ الإنسان كلما ضاق به واقعه اتسعت له أحلامه، أصبحنا نصبح على الأحلام ونمسي على الأحلام. في الوقت الذي كنا نتلو فيه قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ...) (النساء/ 123)، ونقرأ: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11). الأخطر من كل هذا هو الفهم المشروع والممسوخ للدين: الدين الذي تجد فيه ألف مسألة في الخلاء وألف حكم في الجنابة ولا تجد فيه مسألة واحدة تبحث عن قضايا الأُمّة. والدين الذي يتسع لمشاكل تاريخية ولكنه لا يُعالج مشكلة واحدة في الحاضر. والدين الذي يخوض طويلاً في شؤون ما بعد الحياة ولكنه لا يتعرض لشأن واحد من شؤون الحياة. أمام هذا الواقع وبحكم منطق سيطرة القوي على الضعيف، كان لابدّ للعالم الإسلامي أن يقع تحت سيطرة قوى خارجية، وهذا ما حدث بالفعل. وفي البدء واجهنا ذلك بهستيريا القضاء والقدر (الفهم المشوه للقضاء والقدر) فالله هو الذي "قدّر" أن نكون نحن ضعفاء، و"قدّر" أن يكونوا "هم" أقوياء، وهو الذي "قدّر" أن يحتلوا أراضينا ويسرقوا ثرواتنا. (أتذكر أنني قلت لأحد الناس: لماذا لا تزرعون أراضيكم وتستغنوا عن الآخرين؟ فأجابني على الفور: "ما في بركة. الأبراك راحت!" قلت له: ولكن الأجانب زراعتهم مزدهرة، لماذا نحن المسلمون بالذات زراعتنا ما فيها بركة؟ قال: لا أدري، لكن ما في بركة!). ثمّ جاء عصر الإستقلال، وكانت له أحلامه الخاصة به. كنا قد فتحنا أعيننا للتو على الحياة، وكان أول شيء التقت به عيوننا هو الأشكال والمظاهر، شكل الحضارة ومظاهرها الخلابة. وهكذا أصبنا بوباء العشق! عشق المظاهر والحرص إلى درجة القلق على الشكليات. وهكذا رحنا نبحث عن حضارتنا الضائعة في مظاهر خدّاعة وليس في روح خلاقة، وبذلك لم نعرف من الحضارة غير وجهها الحريري الناعم وصورتها النهائية الناجزة، وفاتنا أنّ الوجه الحريري كان نتيجة منطقية لوجهٍ آخر للحضارة لم نلتفت إليه هو الوجه الخشن، مليء بالوعي والمعاناة والجهد. ولكننا أردنا أن نفصل النتائج عن أسبابها ومقدماتها، ونقيم الهيكل بعيداً عن ركائزه، وبذلك رحنا نقتني "أشلاء" الحضارة، لعل الإضافات الكمية تنتهي بحالة كيفية، كما تقول الفلسفة الديالكتيكية! واقتنينا الشوارع الجميلة والبنايات الشاهقة والأجهزة المتعددة. كنا في سباقٍ مع الزمن لصناعة حضارة المونتاج. ولم تكن الطبقة المثقفة أو المتعلمة معافاة من هذا الوباء: قسم منها أصبح حضارياً ببنطلونات "الجينز" وبموسيقى "الروك اندرول". والمرأة أصبحت حضارية بالمكياج واقتناء آخر الأزياء التي تخرجها دور "الموضة" في باريس، وبتغيير أثاث بيتها كل سنة. والقسم "الأعقل" أصبح حضارياً بقصاصات ورق اسمها "الشهادة" التي عادت إلى الوطن لتبحث عن بيتٍ جميل وسيارة جميلة مع أطنانٍ من الكسل والتهاون والروح اللامسؤولة. وعندما جئنا إلى قضية التنمية لم نكن قد تخلصنا بعد من مخدر المظاهر ومورفين الشكليات، أعطينا الأولوية للمظاهر، وتركنا البنى الاقتصادية – كما هي – خراباً يباباً. وحينما جئنا إليها (البنى الاقتصادية) لازمنا جرثوم المظاهر ومنطق السهولة والراحة، فبدل أن نستثمر الإنسان آثرنا صناعة المونتاج السهلة والمريحة. وإنني أتذكر هنا مقابلة أُجريت مع البروفسور "سي. إن. يانغ" الحائز على جائزة نوبل، تنفع كثيراً أصحاب منطق السهولة والمظاهر في عالمنا الثالث. فقد سُئل هذا البروفسور، وهو أميركي الجنسية من أصل صيني، في مقابلة أجرتها معه مجلة "الصين الجديدة" في خريف عام 1975، عن مدى سرعة تطور العلم في الصين، فأجاب: إنّ أسرع طريقة للحاق بالعالم الحديث وإثارة إعجاب الزوار الأجانب هي إقامة مختبر عملاق وإستيراد كل المعدات من الخارج، ثمّ الإستعجال في تدريب كادر من الخريجين وأخصائيي البحوث، للإنكباب على العمليات نفسها التي تجري في أماكن أخرى من العالم. لكن الصين ترفض هذا الأسلوب لأنّه لا يكون سوى عملية استعراض لا صلة لها بالتنمية الشاملة في البلاد. لقد دخل هذا في إدراكي بوضوح صباح ذات يوم من عام 1973، وعندما كنتُ أقوم بزيارة مختبر لأشعة الليزر في إحدى جامعات "هونغ كونغ"، حيث أُدخلت إلى غرفة مكيفة، وهناك شاهدت أنبوبة هائلة لليزر مستوردة ملساء جدّاً، جيدة الصناعة وجيدة التغليف. لقد كانوا يقومون بأبحاثٍ متقدمة مما أثار إعجابي. ومساء ذلك اليوم نفسه وبعد أن اجتزت الحدود إلى الصين، أُخذت إلى مختبر البطاريات في جامعة "زونك شانغ"، وقد تجولت في غرف الليزر غرفة غرفة، وشاهدت الأسلاك الناتئة من هنا وهناك، والتمديدات الزجاجية المنتشرة في كل اتجاه. لقد كان كل ما هنالك فوضى، وكان التمايز مدهشاً. فأنابيب الليزر لم تكن ناعمة جداً. ولم تكن هناك مادة "الكروم" الضرورية لهذه الصناعة، بل كانت هناك كل أنواع المشاكل. وكان واضحاً لي أنّ جيلاً من علماء الليزر الذين يعرفون كل شيء في هذا المضمار، والذين يعرفون السبب الفعلي للمشاكل التي تجري دراستها في الخارج سوف ينشأ في هذا المرفق، وليس في ذلك المرفق (جامعة هونغ كونغ). وأعتقد أنّ هذه هي الفلسفة التي ستجلب المنافع للتنمية العلمية والتكنولوجية في الصين. (ألا يذكرنا هذا الوضع في "هونغ كونغ" بحالة كثيرٍ من دول العالم الثالث. حيث يسود منطق الإستعجال والسهولة والمظاهر الخداعة. فنحن نستورد الأجهزة والآلات والمواد والخبراء، ثمّ نكتب على المنتوج أنّه من صنع محلي، ونوحي لأنفسنا بعد ذلك أننا أصبحنا متحضرين، هذه هي عملية "الإستعراض" التي أشار إليها البروفسور "يانغ". عملية التطور الحقيقية تأتي كنتيجة طبيعية لتطور ونضج ثقافة القاعدة الاجتماعية. والتعامل مع الحياة، بمنطق السهولة والراحة، التي تطبع الكثير من مظاهر الحياة في الشعوب المتخلفة، خطير جدّاً. فبمنطق السهولة والراحة، رحنا نستورد آخر ما تنتج المصانع الغربية، دون أن نفكر في النتائج والعواقب. وبمنطق السهولة والراحة اتجهنا نحو قطاع الخدمات ونسينا الإنتاج، بحثاً عن كسبٍ سريع وليس عن إنجاز كبير. وبمنطق السهولة والراحة ترك أهل الريف حقولهم، وراحوا يبحثون عن الوظائف السهلة والمكاتب المريحة. وبمنطق السهولة والراحة رحنا نفتش عن الأفكار التبريرية المريحة لا تكلفنا شيئاً، وليس عن الثقافة التي تطالبنا بالتغيير). وبسبب وباء المظاهر والشكليات رحنا نقلد الآخرين في حاجاتهم وأذواقهم وهواياتهم، وباختصار في تقمص شخصيتهم وهويتهم، ودون وجود أي مبرر منطقي أو ثقافي، ودون أن نلتفت إلى أنّ هؤلاء ابتدعوا وسائل لإشباع حاجاتهم، أما نحن فأصبحنا مجرد مستهلكين لحاجات لم تفرزها ثقافتنا ولم تنتجها أيدينا. وأمام موجة الإعلام الغربي أصبنا بحالة فقدان الثقة بالذات، واقتنعنا بسبب فرط الدعاية الأجنبية أنّ الله خلقنا في الحياة من أجل أن نكون مستهلكين لا منتجين، وأننا لا نستطيع أن نقدم أو نؤخر شيئاً بدون معونة الغربيين. وفي مقابل هذه الجماعة التي فقدت ذاتها وضيعت شخصيتها، ترسخت الفئة التي ترفض التغيير وتقدس العادة والمألوف والمعروف والمعهود. وهكذا لم نعرف ماذا نريد. ولعدم جديتنا في العمل تفتحت لدينا شهوة الكلام. ثمّ جئنا نطالب بحقوقنا الضائعة، وتجاهلنا واجبتنا المهملة. بعد ذلك كلّه، يحق لنا أن نتساءل: من هو المسؤول عن تخلفنا؟ نقص الرساميل والإستثمارات، وافتقار التكنولوجيا المتقدمة، أم الإنسان والثقافة الاجتماعية المتخلفة؟   المصدر: كتاب الإنسان وفلسفة التنمية (أزمة مجتمع)

ارسال التعليق

Top