• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

صياغة الفكر الإسلامي في إطار جديد

علي المؤمن

صياغة الفكر الإسلامي في إطار جديد

دعوات التجديد في الفكر الإسلامي، أو الاحياء والتجديد الديني، لا تزال تتزايد بمرور الزمن. وعلى الرغم من ان هذه الدعوات تتفق على أصل التجديد، إلا أنّها تختلف في الكثير من التفاصيل، بل لعلّ بعضها يختلف حتى في وعيه لمفهوم التجديد، الأمر الذي يجعل حقائق التجديد نسبية في معظم خطوطها. ولكن هناك قواسم مشتركة للنظرة إلى المفهوم، مستقاة من النصوص الإسلامية المقدسة (الأصول)، مما يجعلها تمثل الفهم الحقيقي للتجديد في الإسلام. أما الفهم الذي يتجاوز تلك النصوص، فهو فهم زائف.
إنّ إعمال حركة الفكر في البناء الفكري، يؤدي امّا إلى الابداع والتجديد، أو إلى إعادة الانتاج والتقليد، والتجديد – من جانبه – أما يمثل انحرافاً بنسبة معينة، أو استقامة على الأصول، أي تجديداً أصيلاً. كما انّ التجديد يكون حيناً بمستوى الفهم المتعارف لعصره، وحيناً آخر بمستوى يتجاوز الواقع إلى حدٍ ما، مما يجعله بحاجة إلى جهود مضاعفة ليكون في حدود المقبولية.
والحديث عن حقائق التجديد ودواعيه ومرجعيته ومناطاته وخصائصه، لابدّ أن يسبقه بيان ما نريده من المفهوم الحقيقي للتجديد. ويجب – ابتداءً – أن لا يكون وعي هذا المفهوم مجرداً أو منفصلاً عن حقائق الدين نفسها، بل وعياً دينياً يرتبط بالأصول الشرعية الثابتة، باعتباره إطاراً عاماً لقضية دينية.
التجديد الفكري في الإسلام ليس نسخاً، أو تأسيساً لفكر جديد، أو مجرد إحياء لفكر قديم، بل هو عملية تفاعل حيوي داخل فكر قائم، لإعادة اكتشافه وتطويره، وفقاً للفهم الزمني الذي يعي حاجات العصر، أي انّه لا ينطلق من فراغ، بل له قواعد ومنهجه ومرجعيته وثوابته. وفي النتيجة، يكون التجديد خطاباً نهضوياً، يستهدف البنية الفكرية، لتلبّي جميع حاجات الإنسان المعاصر. وبكلمة أخرى، فإنّه يهدف – في كل زمان – إلى صياغة المشروع الإسلامي الحضاري، الذي يشتمل على عملية استيعاب جميع متطلبات الحياة. أي انّه معلول الحاجات العملية، وليس حركة نظرية مجردة ومنفصلة عن الواقع.
ولا يهدف التجديد في الفكر الإسلامي إلى الانسجام أو التوافق مع الفكر الآخر، ولا إلى درء شبهات التحجر والجمود، أو اختراع نظريات جديدة، تفصّل الشريعة على مقاس العصر، لكي تلاحق تطورات الزمن ولا تكون متخلّفة عنه!!. انّ الشريعة هي المقياس وليس متطلبات العصر، وهذه الأخيرة هي الحاجات، ودور المفكر والفقيه – خلال عملية التجديد – إعادة الاكتشاف والاستنباط من جديد لسد تلك الحاجات. فالتضحية بالشريعة من أجل إرضاء الإنسان الجديد، أو التكيّف مع الأفكار الجديدة (وافدة أو محلية)، أو توظيف النص والتراث لخدمة الواقع، أي اخضاع النظرية للتطبيق، هي – جميعاً – أمور مرفوضة من جانبي العقل والنقل.
وصياغة الفكر الإسلامي في إطار خطاب جديد، ليكون معبّراً عن المشروع الإسلامي المعاصر، سيحول دون اضطرار الإنسان المسلم إلى التشبث بالأفكار والعقائد الوضعية التي تسعى لإعطاء تصور كوني شامل عصري، أو فهم عصري للحياة..
فمن أبرز دواعي التجديد؛ التطور السريع والشامل لجميع جوانب الحياة، وظهور التيارات التي تنسب نفسها إلى الإسلام وتعالج قضايا الفكر الإسلامي والتطور بالافراط، فضلاً عن التفاعل والاحتكاك الثقافي بالحضارات الأخرى، والتي لا يمكن لواقع المسلمين أن يكون بمنآى عنها، فيتطلب ذلك استثمار هذا الاحتكاك، والحيلولة دون تأثيره سلباً على الواقع الإسلامي. وبخلاف ذلك، فإنّ عجلة التطور المرعبة وقسوة الاحتكاك، ستجعلان الفكر الإسلامي في أزمة حقيقية، وستتجاوزان الوجود الإسلامي وتحجراته في زاوية العجز والعزلة. وهو أمر يتقاطع مع قوة الشريعة ومرونتها، وقابليتها الهائلة على استيعاب عمليات التطور والاحتكاك.
إنّ سنّة الله في الخلق، والنصوص الإسلامية المقدسة، تؤكدان عملية التجديد والترشيد في الفكر الديني، سواء كان التجديد إلهياً يشتمل على بعض أسس التفكير الديني ومعظم تفاصيله، كما في التعاقب التكاملي للرسالات السماوية، والذي ينسجم مع مراحل تطور البشرية ورشدها، أم كان بشرياً، يقتصر على المساحات المتحركة في الفكر الديني لرسالة خاتم الأنبياء (ص). أضف إلى ذلك، انّ الإسلام يحمل في ذاته كوامن التجديد ودواعيه ودوافعه. فتأكيد الرسالة الإسلامية – مثلاً – انّ "العلماء ورثة الأنبياء"، وخصهم بالاجتهاد والاستنباط، واعتبارهم العدول الذين "ينفون عن الإسلام تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين"، هذه الأمور – وحدها – تعدّ مؤشراً على دعوة الإسلام لتجديد الفكر الديني واحيائه. يقول الرسول الأعظم (ص): "يبعث الله لهذه الأُمّة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها".
فكان لزاماً على الفقهاء والمفكرين والقادة المسلمين، ممارسة مسؤولياتهم على المستويين النظري والعملي، لمواجهة التحديات الحضارية والمعرفية والفكرية التي تهدد لوجود الإسلامي، ومن ثمّ الانطلاق بالحضارة الإسلامية كبديل عقائدي واقعي، لانقاذ البشرية من معاناتها النفسية والفكرية والسلوكية. وتتطلب هذه الممارسة عقلاً إبداعياً (متحرراً) من الجمود والتقليد، و(منفتحاً) على العالم وتطوراته، من شأنه تحريك الفكر الإسلامي، واعادة بنائه، وتنقيته من بعض الموروثات المفهومية والمنهجية والبحثية، التي تتقاطع مع الفهم الحقيقي للإسلام، وتنمية وتوسيع دوائره لتشتمل على كل قضية – قديمة أو مستجد – من قضايا الإنسان المعاصر.
وعلى الرغم من انّ العقل الذي يتطلّبه التجديد، وهو عقلٌ انتاجيٌّ (متحرر) من التقليد، إلا أنّه ليس مطلقاً في حركته وحريته، بل انّ له مرجعية متكاملة ومحددة. ومرجعية التجديد تتمثل في مصادره، وهي مصادر الفكر الإسلامي نفسها.
مرجعية التجديد الفكري تتكون من ثلاثة أنواع من المصادر:
الأوّل: الأصول المقدسة؛ القرآن الكريم والسُنّة المطهرة، وهي أصول لا يمكن تجديدها أو الاجتهاد في مقابلها، أي انّها "سلطة مرجعية" عليا ثابتة.
الثاني: أدوات فهم الأصول وآلياته، كالعقل والاجماع وغيرهما.
الثالث: التراث الفكري والفقهي، وهو ما توصل إليه الفقهاء والمتكلمون والمفكرون المسلمون من فهم للنصوص، تمثَّل بنظرياتهم وآرائهم في مجالي العقيدة والفقه. ولا يشكّل هذا التراث مرجعية قاهرة، بقدر ما هو مرجعية متحركة للتكامل.
الأصل الأوّل هو القرآن الكريم، دستور الله الخالد الذي بيّن فيه كل شيء يقول تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً) (النحل/ 89). فهو مصدر التشريع والمعرفة الإسلاميين، ومقياس الاستقامة والانحراف، والمرجع عند التعارض والاختلاف في الأفكار التي تنتسب إلى الإسلام. ويبقى التعامل مع النص القرآني لفهمه وإدراك معانيه، بحاجة إلى دقة وعُمق في المنهج والتحليل والتفسير، وهو ما يتعذّر على غير المتخصصين. ويتمثل التخصص هنا بمعرفة قواعد الاستنباط – كدلالة الألفاظ والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه وغيرها – المدوّنة في علم أصول الفقه وعلوم القرآن. وحول مناهج التفسير، يمكن القول انّ التفسير الموضوعي هو الأكثر فائدة في التعامل مع النص القرآني، لاستنباط النظريات والأفكار الجديدة، وبناء فكر قرآني يستوعب الحاجات المعاصرة للفرد والمجتمع والدولة.
والسُنّة المطهرة – فضلاً عن كونها الأصل الثابت الآخر للمعرفة الإسلامية – تعدّ أهم وسيلة لوعي القرآن الكريم وتفسيره. وربما احتاج التعامل معها إلى تخصص أكبر، بسبب ما تعرّضت لعمليات الوضع والتحريف، مما تطلّب استحداث علوم وقواعد أخرى لم يستوعبها علم الأصول، كعلوم الحديث وعلم الرجال وغيرها.
أمّا العقل، كإحدى وسائل المعرفة والتجديد، فيراد به الفعاليات العقلية التي قنّنها القرآن والسُنّة وأقراها، وهي تساهم في بناء صرح الفكر الإسلامي واكتشاف عناصره. ويؤكد القرآن الكريم هذه الفعاليات من خلال التأمل والتفكير والتعقّل: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (يونس/ 101)، (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة/ 242). والعقل هنا يعمل على التكامل مع النص (القرآن والسُنّة)، حيث يوظف طاقاته لفهم النص، وتحويله إلى نظرية وحكم. فالاجتهاد والاستنباط والاكتشاف في مجال النظريات والمفاهيم العقائدية والكلامية والفلسفية من جهة، والأحكام الشرعية ومختلف قضايا الفقه من جهة أخرى، هي من ثمار تعامل العقل مع النص، أي انّ العقل هنا لا يمارس دور المشرّع إلى جانب النص، بل يقتصر دوره على الادراك والكشف.
المصدر الأخير هو التراث الفكري والفقهي الذي خلّفه الفقهاء والمفكرون المسلمون، في إطار المدارس الكلامية والمذهبية المختلفة، طيلة القرون الماضية. هذا الإرث العظيم كماً وعطاءً، هو محصلة جهود متواصلة تراكم معرفي هائل، مما يجعله قاعدة ومنطلقاً للتجديد. وبالتالي، فهو محور التجديد وساحته الطبيعية.
وهنا يمكن القول بأنّ السِمات والخصائص التي تُميّز الفكر الإسلامي عن الفكر الآخر، هي – في الوقت نفسه – الدوافع الذاتية لحركة التجديد فيه، ومن أبرز هذه الخصائص:
1- المرجعية: وهي مصدر الانتاج والتجديد، وملاك انتسابهما للإسلام (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام/ 153).
2- الوحدة: الفكر الإسلامي وحدة مترابطة، وكلٌّ لا يقبل التبعيض، أجزاؤه يكمّل بعضها البعض الآخر، فالعقيدة غير منفصلة عن السياسة، والاقتصاد يتكامل مع حركة المجتمع، والعبادة مع الجهاد، والتزكية لصيقة بالعلم. الأمر الذي يفرض تحولاً في الفكر بأجمعه، بعد حصول أيّ تطوّر في بعض أجزائه.
3- الشمولية: أي سعته وفاعليته التي تجعله قادراً على استيعاب جميع نواحي الحياة، بما فيها النواحي التي تستجد بمرور الزمن.
4- الأصالة: وتشتمل على المصدر والمنهج والمحددات. وهذا الشكل المتكامل من الأصالة يضمن عدم حصول أي نوع من المواءمة والتوفيق بين الفكر الإسلامي والأفكار الأخرى، في المقدمات والاطر والنتائج، ويحصّن الأفكار الأساسية التجديدية من الانحراف أو التلفيق، عند الاحتكاك بالفكر الآخر. ومن الناحية العملية، فإنّ أصالة الفكر الإسلامي ضمنت له بقاءه وسلامته منذ أبعد المراحل، وخاصة المراحل التي بدأ فيها الفكر الآخر بدخول المجتمع الإسلامي من خلال الترجمة، كما حصل في حقلي الفلسفة والكلام.
5- التوازن: يتعامل الفكر الإسلامي مع مختلف القضايا بصيغ متوازنة، سواء أكانت في الموضوعات أم في المناهج، كالتوازن بين العمق والوضوح، والدين والدنيا، والنظرية والتطبيق.
هذه الخصائص والسمات حفظت للفكر الإسلامي مكانته في الفكر الإنساني، وضمنت للدين الخاتم حاضره ومستقبله..

المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 68 لسنة 1993م

ارسال التعليق

Top