• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

النظام الإجتماعي وعلاقته بمشكلة المرأة العربية

حليم بركات

النظام الإجتماعي وعلاقته بمشكلة المرأة العربية

مقدمة :
تتبع غالبية الدراسات حول مكانة المرأة في المجتمع العربي، منهجاً وصفياً يروي لنا بعض الحقائق والأقوال والآراء والمفاهيم وغيرها، ولا منهجاً تحليلياً يفسر لنا لماذا هذه المكانة بالذات. وحين تنزع هذه الدراسات نحو المنهج التحليلي يأتي تحليلها مثالياً، فيشدد بالدرجة الأولى على الثقافة والتراث والتنشئة، ويتجاهل البنى الاجتماعية وعمليات الإنتاج وتوزيع أو تقسيم العمل،  وتشدد بعض الدراسات على الإستمرارية التأريخية، أو التنشئة في العائلة، أو على المعتقدات الدينية، أو على تغلب الأعراف القبلية على القيم والمقاييس الدينية، أو غير ذلك على صعيد الثقافة.
من أجل التدليل على طبيعة المنهج المثالي، نورد هنا بعض التحليلات حول علاقة الدين بمكانة المرأة: هناك الرأي الديني الذي يقول: " أنما المرأة خلقت من ضلع عوجاء " والرأي الذي يغلب عليه إعتبار الدين عن فرض النظام الأبوي، والرأي الذي ينزه الدين من مسؤولية استعباد المرأة، ويؤكد العكس،  أنّه حررها وساواها بالرجل، والرأي الذي يقر بأنّ الدين ثبت الفروقات الطبيعية .
يتمثل الرأي الذي يقول بفرض الدين للنظام الأبوي بدراسة مهمة بالإنكليزية  للكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي التي ترى أنّ النظام الأمومي الذي كان معروفاً لدى بعض الجماعات والقبائل في شبه الجزيرة العربية، انتهى بظهور الإسلام، فرسخ النظام الأبوي، وأبقى على إمتيازات الرجل، ويتمثل الرأي الذي يقول أنّ الإسلام حرر المرأة، بمقالة للكاتبة المصرية أمينة السعيد التي أكدت أنّ الدين الإسلامي جاء بمثابة أضخم ثورة إجتماعية في تأريخ الأوضاع النسائية، لا عندنا وحدنا بل في الدنيا بكاملها، فقبل مجيئه..  لم تكن المرأة في أي ركن من العالم أكثر من كائن حي، لا حقوق لها ولا إحترام لأدميتها، ثم إذا بالدين الذي ظهر في منطقة صحراوية جرداء يسكنها ناس خشنون على الفطرة، يقلب الوضع رأساً على عقب، ويعترف للمرأة بكامل أدميتها،  ويسلحها بالإستقلال الإقتصادي في أوسع معانيه، ويحررها من ولاية الرجل عليها، فيما يتصل بجواهر الحقوق، مثل التعليم والبيع والشراء والعمل والتجارة، بل واشركها أيضاً في تدبير شؤون الدين والسياسة .
ويتمثل الرأي الذي يقر أنّ الدين ثبت الفروقات الطبيعية بكتابات وأقوال عدة فتذكر مجلة الفكر الإسلامي أنّ الإسلام ساوى بينها وبين الرجل فيما يمكن التسوية فيه..  وفاضل بينهما، فيما لا يمكن التسوية فيه، فأوجب على الرجال الجهاد.. والسعي على العيال، وخفف عن المرأة ذلك، مراعاة لأمكاناتها الجسدية، وظروفها الشخصية وتكاليفها العائلية  .
مقابل هذا المنهج المثالي، هناك منهج إجتماعي يفسر مكانة المرأة في المجتمع العربي بأنّها تعود في الأساس لموقعها في البنى الإجتماعية ، وتقسيم العمل المعتمد في المجتمع ودورها في عمليات الإنتاج، وهامشيتها في النظام العام السائد. رأى قاسم أمين ( 1865- 1908 ) في مطلع القرن، إنّ وضع المرأة هو جزء من الوضع العام الذي يقوم بسيطرة القوي على الضعيف،  وأشار إلى علاقة إضطهاد المرأة بأشكال الإضطهادات الأخرى. فنبه بقوله:  انظر إلى البلاد الشرقية تجد إنّ المرأة في رق الرجل، والرجل في رق الحاكم،  فهو ظالم في بيته، مظلوم إذا خرج منه  وبعدما بدأ القرن العشرون، تقول لنا خالدة سعيد في لغة الإغتراب، إنّ المرأة العربية كائن بغيره لا بذاته، فتحدد هويتها بالنسبة لكونها  زوجة فلان أو بنت فلان أو أم فلان أو اخته، وأنّ وضعها يرتبط بالنظام الطبقي، فحيث تكون العلاقات علاقات بين سيد ومسود،  يصعب أن تجد فيه المرأة الحرية الحقيقية وأن تستعيد فيه إنسانيتها، فتعاني بذلك إغترابين، إغتراباً طبقياً وإغتراباً على صعيد البنية التحتية في نطاق الاسرة، فهي عبدة العبد  .
وتتضح علاقة وضع المرأة بالنظام العام من إستنتاج نوال السعداوي " إنّ تحرير المرأة، لا يمكن أن يحدث في مجتمع رأسمالي، وإنّ مساواة المرأة بالرجل لا يمكن أن تحدث في مجتمع يفرق بين فرد وفرد وبين طبقة وطبقة،  ولهذا فأنّ أول ما يجب أن تدركه المرأة إنّ تحريرها هو جزء من تحرير المجتمع كله من النظام الرأسمالي".
ورغم أهمية تأكيد العلاقة بين مكانة المرأة والنظام السائد، فأنّ هذه الدراسات الإجتماعية لم تتمكن بعد من تقديم نظرية متكاملة منهجية تربط بين النظام العام والثقافة، والعوامل النفسية والعقلية، ومكانة المرأة الدونية هذه بعد أن تشدد نوال السعداوي على النظام العام والمسببات الإقتصادية والإجتماعية تعود لتشدد على العوامل النفسية والشخصية فتقول لنا أنّ عدم نضج المرأة وعدم نضج الرجل هو السبب الرئيسي وراء معظم الإنحرافات والمشاكل الإجتماعية والنفسية والجنسية، فيتحول إحساس الرجل بإيجابيته إلى مبالة في السيطرة وميل إلى الأنانية والسيادية (الرغبة في الإيلام) وتزيد من إحساس المرأة بسلبيتها لتصبح مبالغة في الخضوع والماسوشية (الرغبة في إستشعار الألم).
وفي ضوء هذا المنظور الإجتماعي، سنبحث طبيعة علاقة مكانة المرأة الدونية بالبنى الإقتصادية والإجتماعية وتوزيع العمل والمشاركة في عمليات الإنتاج.

أولاً : أنماط المعيشة: موقع المرأة في البادية والريف والمدينة
تجرد مختلف أنماط المعيشة في المجتمع العربي ( البادية، الريف، المدينة) وأشكال توزيع العمل المعتمدة فيها المرأة من حقها، بتحمل مسؤوليات الجهاد، والسعي وتأمين الرزق والنهوض بأعباء الوطن. وعلى الرغم من تشديد القبيلة في البادية على العصبية، وقرابة الدم والمساواة والبساطة في توزيع العمل،  فأنّها حُرمت المرأة من المشاركة على قدم المساواة بالرجل في القتال والغزو الذي شكل تأريخياً المصدر الأساسي للدخل في البادية .
وفي سبيل ترسيخه لعملية إضعافها، اعتبر المجتمع إنّ المرأة فصيحة اللسان،  ومصدر الكيد والفتنة، وقال إنّها "رضعت وإبليس من ثدي واحد" وإنّها سبب العلة والمسؤولة عن الخطأ. وأشترط الرجل البدوي على زوجته ليلة زفافه قبل كل شيء أن تحترم والديه وتخدمهما وتطيعهما. وفيما عدا الحرب فأنّ المرأة تعد جميع وجبات الطعام، وتهتم بإنزال وترتيب ونقل جميع مقتنيات العائلة بما فيها الخيمة، كما تهتم بالرعي، وحلب وسقاية الإبل والحياكة، وقد تذهب إلى الأسواق فتبيع وتشتري، ولكن الرجل يصطاد ويذبح الحيوانات ويسلخها فقط ويحارب ويدرس ويعمل لقاء أجر ويخدم في الجيش والحرس الوطني،  بسبب هذه المسؤوليات، يتمتع الرجل بالإضافة إلى ما ذكرنا بأنّه يأكل ويشرب القهوة قبل النساء، ويعيش حياة متنوعة خارج الخيمة .
ويخالف دور المرأة في الريف أنّما ليس نوعياً، وللحد الذي يجعلها مشاركة في مسؤولية الإنتاج. تقتضي مهمات العمل الزراعي في الريف أن يعمل جميع أفراد الأسرة، الرجال والنساء والكبار والصغار معاً، وتتعدى مهمات المرأة الأعمال المنزلية إلى الإهتمام بالمواشي والمزروعات وجني المحاصيل والبيع والتبضع في الأسواق والحياكة والخياطة والإحتطاب وجلب المياه (حيث لا تصل إلى المنازل) وغيرها من الأعمال التي لا تتقاضى لقاءها أي أجرغير أنّنا بدأنا نلمح بعض التطورات في إتجاه تقاضي الأجور بعد هجرة الرجال للعمل في المدينة أو خارج البلاد .
ولا تزال المرأة محرومة في الواقع من حق توارث الأراضي وتملكها، ولا تزال عرضة لجرائم الشرف والزواج دون موافقتها، والعقاب حين لا تتقيد بالتقاليد المتبعة، وهي لا تزال مضطرة للتظاهر بعدم إمتلاك السلطة حتى حين تملكها.  أنّها في الوقت الحاضر تستمد مكانتها الخاصة ليس من مسؤولياتها ومشاركتها النادرة في العمل الإنتاجي، بل من كونها أماً وابنةً وأختا،ً ولكنها مثل الأرض رمز للخصب فتعطي أكثر بكثير مما تأخذ. وحتى الوقت الحاضر لا يزال يصدق القول القديم إنّ " الرجل نهر والمرأة سد " فهي ليست المصدرفي عرف المجتمع،  وفي الأذهان أنّها تحصد وتجني، أنّما ليس لنفسها.
وحرمان المرأة من المسؤولية والأجور لقاء أعمالها في البادية والقرية، ربما فاق حرمانها في المدينة، رغم ما أسبغ على المرأة من مظاهر التحرر، وكانت نساء الطبقات الفقيرة وما زلن يعملن لقاء أجور زهيدة، وتكاثر عدد نساء الطبقات المتوسطة المنبثقة العاملات في التعليم والإدارات العامة والخاصة.  أما نساء الطبقات الغنية، فكن وما زلن مترفات دون مشاركة في الإنتاج، منصرفات للتسلية والرياضة والسفر وتبادل الزيارات وإقتناء الجواهر والأزياء الحديثة ورموز الثراء. وفي جميع الحالات المرأة هامشية في مراكز النفوذ السياسي، والنشاط التجاري والحرفي والعبادة. ثم إنّ عملها خارج المنزل هو امتداد لعملها داخله فيغلي عليه طابع الخدمة كما في التعليم الإبتدائي والتمريض والسكرتارية والإدراة والخياطة والحياكة وحفظ المواد الغذائية .
ويبقى عمل المرأة على الرغم من تزايده مسانداً لعمل الرجل، وبضغط من غلاء المعيشة، وتأمين السكن والحصول على المستوردات الإستهلاكية والتخفيف من أعباء العائلة أو تحسين أوضاعهما بالتنافس مع العائلات الأخرى. في أوساط العائلات الفقيرة، تسلم المرأة العاملة راتبها للرجل،  المسؤول الذي يعيد إليها جزءاً صغيراً منه، مصروفاً خاصاً،  كما لو أنّه يمنحها إياه من جيبه الخاص، وفي حالة الطبقات الوسطى، تعمل المرأة لتساعد أهلها أو زوجها ولشراء ما تحتاج إليه من ثياب وحلي وأدوات زينة وغيرها مما تزداد الحاجة إليها. وترتفع أثمانها في مجتمع تنافسي إستهلاكي. ولا يزال هناك ميل واضح بين نساء الطبقات الغنية نحو التعالي عن العمل و اللهو في عالم جاد
.
ثانياً:النظام الطبقي :
يصعب جداً أن لم نقل يستحيل تحرير المرأة في المجتمعات الطبقية  أكانت رأسمالية أم شبه رأسمالية، أم إقطاعيه أو شبه إقطاعية، فتوزيع العمل في العائلة هو جزء من نظام توزيع العمل في المجتمع ككل إنّ علاقات الإستغلال والسيطرة هي ذاتها في المجتمع ومؤسساته ومنظماته. وتتصف بها علاقات طبقة بطبقة، والرجل بالمرأة والحاكم بالمحكوم والأمة القوية بالأمة الضعيفة، ليست هذه العلاقات أشكالاً منعزلة، بل إنّها على العكس متداخلة يرسخ بعضها البعض، وتشكل نظاماً هرمياً لا إنسانياً ينمي في الإنسان البشاعة لا الجمال والظلم لا العدالة والشراسة لا المحبة .
يزداد كل شكل من أشكال الإستغلال والسيطرة مناعة بإزدياد مناعة الآخر، كما يضعف بضعفها، وينهار بإنهيارها. إنّ إضطهاد الشعب والمرأة والصغار والفقراء... إلخ، هو وجوه متعددة لحقيقة واحدة. ثم إنّ عملية الإضطهاد سلسلة متصلة، فالرجل المضطهد في العمل يضطهد زوجته وأولاده في المنزل، والمرأة المضطهدة من قبل زوجها تضطهد زوجات أبنائها، والابن المضطهد يضطهد أخاه الأصغر منه أو إخواته، وهم جميعاً يضطهدون خادماتهم حين تتوافر لهم ذلك، في جميع هذه الحالات هناك تناقض في المصالح، وتنافس في الحصول على النفوذ والثروة والمكانة ومعتقدات عامة متوارثة تسوغ هذا الواقع .
إنّ النظام الطبقي الهرمي السائد في المجتمع العربي يتصف بالعلاقات التالية في مختلف المجالات :
1- الإستغلال : الذي لا يحد من تفاقمه سوى ضوابط قليلة واهية، في الوقت الذي تسوغه من ناحية معاكسة معتقدات وترتيبات بنيوية عديدة، فتنعم القلة بالثروة والنفوذ والجاه، فيما تتحول الغالبية من الشعب إلى جماعات تعسة في صلب حياتها، تمارس على بعضها البعض ما يمارس عليها، وتعاني ليس الحرمان المادي فحسب، بل تعاني فقدان الكرامة، ويتعذر عليها في هذه المناخات تحقيق إمكاناتها وتنمية مواهبها. وبذلك يكون الإستغلال الإقتصادي أيضاً إستغلالاً سياسياً واجتماعياً وعملية إفتقار روحي وفكري في سبيل أن تشبع القلة جشعها الذي لا يشبع، فتعيش على حساب المجتمع في فساد وفراغ يجتاز حدود السقم إلى الموت الداخلي .
2- السلطوية : التي تقوم على القهر والإذلال في شتى نواحي الحياة. إنّ الكادح المسحوق والمغلوب على أمره، لا يختلف عن الفتاة التي يجبرها أهلها على الزواج من رجل لا تحبه، وكلاهما لا يختلف عن الطفل الذي يصفعه والده ، والوالد الذي يصفعه المحتل أمام أولاده، والعسكري الذي ينفذ الأوامر قبل أن يتساءل، بل أنّ عملية التعليم التي لا تحصل إلاّ بالإقناع والنقاش الحر تتم في أجواء تسلطية، ولذلك أليس من الطريف أن تشير الخادمة إلى سيدتها بمعلمتي، والمتدرب إلى صاحب الحرفة بمعلمي، لذلك نجد مؤسسات التربية ، مؤسسات تدريب في خدمة النظام، لا مؤسسات تعليم في سبيل معرفة الحقيقة والنمو بها .
3- التغريب : الناتج عن الإستغلال والسلطوية والفراغ المعنوي مما يحيل الشعب، وخصوصاً الكادحين والنساء والصغار والخدم والموظفين إلى جماعات عاجزة تعسة في صلب حياتها .
4- العدائية : التي تقوم على الحسد والنفاق والتفاخر والتشاوف والتنافس والتزييف والتقنع. وكل عدائية تسمي نفسها دفاعاً عن النفس، وغيرها إعتداء عليها. وبذلك يتحول المعتدي إلى ضحية فيسمي المحتل المقاوم إرهابياً،  والرجل الظالم امرأته داهية، ورب العمل العامل ناكراً للجميل .
5- الفقر : الذي يجر الفقر والعنف الذي يولد عنفاً مضاداً والإذلال الذي يقود إلى مزيد من الإذلال، فلا يكون للمضطهدين من مخرج سوى بالإنتظام في حركة ثورية تحررهم من العبودية .
6- التعصب : الذي تبديه الجماعات المتحكمة ضد الجماعات المحكومة،  فتسود الثقافة العامة ايديولوجية متكاملة تبرر التحكم. إنّ الأيديولوجية الطبقية النخبوية التي تتهم الطبقات الكادحة بالكسل والجهل والغوغائية والسوقية هي نفسها الأيديولوجية التي تسوغ سيطرة الرجل وتتهم المرأة بقصور العقل والعاطفية، والكيد والفتنة والثرثرة والضعف وغير ذلك مما يردد علينا في كل لحظة. وفي صميم هذه الأيديولوجية إنّ الكادحين والمرأة هما مصدر الفتنة في المجتمع وكما يقال إنّ النخبة تمثل العقل والعقلانية، فيما يمثل الشعب العاطفة الغوغائية، يقال أيضاً أنّ الرجل يمثل العقل، فيما تمثل المرأة القلب .
إنّ الأيديولوجية عينها تقول بحتمية عدم المساواة لأسباب غيبية وطبيعية وبالتفاوت الطبيعي في المواهب والطموحات، وبالتكامل والإنسجام بدلاً من التناقض والصراع، وبذلك تستمر الطبقية التي تعني إنّ المجتمع هو في خدمة الأقلية على حساب الأكثرية، والجنسية التي تعني إنّ المرأة في خدمة الرجل على حساب نموها وكرامتها، أنّ هذه الأيديولوجية العامة تستغفل كل شئ بما فيه العائلة والدين، لقد استعمل الدين ويستعمل بإستمرار بالتعاون مع رجال الدين والمؤسسة الدينية كأداة في تسويغ تسلط الرجل على المرأة وإستغلال طبقة لطبقة. وهنا لابد من الإشارة إلى ضرورة معرفة الأسباب التي تجعل المؤسسة الدينية تسكت عن التفسيرات المحافظة اليمينية حتى ولو كانت خاطئة،  وتثور ضد أي محاولة تفسر الدين تفسيراً تحررياً ولو كان صائباً
.
ثالثاً : النظام الأبوي:
إنّ العائلة العربية عائلة أبوية هرمية (تماماً كالمجتمع العربي الطبقي) يقوم التمايز وتوزيع العمل فيها على أساس الجنس والعمر، فيتسلط الذكر على الأنثى، والكبير على الصغير. إنّها في صلب التنظيم الإجتماعي، وصورة مصغرة للمجتمع، فتشكل حولها وحدة المجتمع الإقتصادية والإجتماعية فيتوارث فيها الأفراد والجماعات هوياتهم وانتماءاتهم الطبقية والدينية والثقافية
عرف المجتمع العربي مختلف التجمعات العائلية في مراحل تطوره التأريخي.  يظن أنّ الإقتصاد كان يقوم في المراحل الأولى على إلتقاط الأثمار والصيد وكانت الملكية جماعية والعلاقات تعاونية تتصف بالمساواة بين المرأة والرجل.  أما في المراحل التالية حين أصبح الإقتصاد يقوم على تدجين المواشي والرعي والزراعة، فقد ظهرت الملكية الخاصة وجرى توزيع العمل،  بحيث يكون الرجل مسؤولاً عن السعي والجهاد في تأمين الرزق، والمرأة مسؤولة عن الشؤون المنزلية. ونشأ النظام الأبوي وخسرت المرأة مساواتها، وليس واضحاً متى تم ذلك تماماً ؟ وما هي العوامل التي أدت إلى هذا التحول،  ولكن بعض الدراسات تشير إلى إستمرار النظام الأمومي عند بعض القبائل في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام مباشرة. ويذكر عالم الإجتماع اللبناني زهير حطب أنّ المرأة في العصر الجاهلي كانت المرجع الوحيد والحقيقي بسبب عدد الأبناء المولودين من أزواج متعددين فنسبوا إليها،   وظفرت بالإحترام والطاعة وأصبحت صاحبة السلطة في العشيرة، وأنّ القبائل بأكملها إنتسبت إلى امرأة كبني ظاعنة وبني طهية، وأنّ أنواعاً عدة من الزواج والإنتساب كانت معروفة قبل الإسلام. ومن رواسب نظام الأمومة المصطلحات التي بقيت في اللغة (مثل أمة وبطن ورحم وحمولة ومرأ.. إلخ) والإنتساب للأم في التراث الديني. 
وبسيطرة النظام الأبوي، أصبح الرجل هو المعيل، وأصبح بقية أفراد العائلة عيالاً مهما كانت درجة مشاركتهم في العمل ومهما كانت علاقة الإعالة والإعتماد متبادلة (مصطلح عائلة مشتق من عال، يعيل، إعالة، معيل، عيال..  إلخ) وقد أخذ يطلق على الزوجة ألقاباً تلفظ بفخامة ولكنها تعني التحقير لأنّها ملحقة بالرجل مثل عقيلة وقرينة، فيما يشار إليه بألقاب ربّ الأسرة وبعل مما يوحي بالإلوهية التي فرضها على أفراد الأسرة التي يفترض أن تتأثر وتتضامن وتتناحر وتتعاون. وعندما تتحول المرأة إلى قرينة وعقيلة لا تعود تملك نفسها وخصوصيتها ولا حتى شرفها الذي أصبح شرف الرجل. وبذلك تصبح أسيرة الرجل ومفهومه لها على أنّها للإنجاب وتربية الأولاد وتدبير شؤون المنزل والسهر على تلبية حاجات زوجها والخضوع لأوامره والسبيل لنيل رضاه بالطاعة والتنافس مع غيرها من النساء للحصول عليه .
وترينا دراسة (مطلع الخمسينات في بيئة تقليدية في أهوار العراق  الجبايش لشاكر سليم) أنّ الرجال يأكلون قبل النساء وعلى حدة " فأنّ من الخزي على الرجال أن تأكل النساء معهم " وإنّ للأب مطلق الحرية في التصرف.. وله الحق بأنّ يطرد أو أن يطلّق زوجته في أي وقت ولأي سبب.. مع إحتفاظه بحق إبقاء أطفاله منها.. وله الحق في أن يضرب زوجته حين يشعر إنّ ذلك مناسب أو لازم. وللأب أن يقبل أو يرفض تزويج ابنته لأي رجل وبإستطاعته أن يستولي على مهرها كله ..
ويعتقد الرجال في الجبايش إن منح الزوجة أي إحترام أو النظر إليها نظرة مساواة مع الرجل أمر يتنافى والرجولة. يحصل كل ذلك رغم أنّ النساء يشاركن بالأعمال كافة بالإضافة إلى العناية بالمنزل والأطفال وإعداد الطعام وحياكة الحصر ونقل المحاصيل، وجمع العلف للحيوانات ولكن بعض الأعمال مثل حرث الأرض مقتصرة على الرجال .
جعل هذا النظام التقليدي الرجل مركز السلطة والمسؤولية والإحترام والإرث والإنتساب.إنّه رأس العائلة وسيدها وربّها يملي أوامره وإرشاداته وتهديداته دون أن يتوقع من أفراد أسرته بما فيهم الزوجة نصائح هو بغنى عنها. وخصوصاً إذا ما تعلقت بتصرفه، وما دام يؤمن حاجات العائلة المادية، لا يعيبه شيء، ويبدأ الرجل يفقد هذه الإمتيازات ويتبدل موقفه من زوجته وأولاده عندما تبدأ المرأة تشارك في العمل خارج المنزل لقاء أجر تسهم في تأمين حاجات العائلة الضرورية.

خاتمة : تحرير المرأة
لقد فشل حل التطور الطبيعي التدرجي المسالم. فيظن البعض أنّ مشكلة المرأة تحل نفسها تدريجياً وتلقائياً بتطور المجتمع، ويذكرنا هذا البعض أنّ تبدلاً حقيقياً قد حصل خلال القرن الآخير المنصرم مستشهدين بالإنجازات العديدة التي تمت مثل نزع الحجاب، وإرتداء الملابس الحديثة والإختلاط بين الجنسين، والنسبة المتزايدة لإقبال النساء على العلم والمشاركة الفعلية للحياة العامة خارج البيت. وإذا قيل لهؤلاء إنّ ما حدث هو تطور كمي وليس تطوراً نوعيا،ً أجابوا بأنّ التطور الكمي يقود مع الوقت إلى حدوث تطور نوعي .
ماذا نعني بالتطور النوعي ؟ بكل بساطة نعني أن تتحول المرأة من وظيفة ودور وموضوع جنسي وإنجابي إلى إنسان، فيكون لها الحقوق وعليها الواجبات والمسؤوليات لفرض ذاتها التي للرجل دون تمييز بين التحولات النوعية. إذن، أن تكون المرأة أولاً وآخراً إنساناً لا جسداً، وأن تشترك في جميع الميادين العامة، وأن تتساوى مع الرجل في الحقوق وبخاصة في أطار الأحوال الشخصية، وأن تكون كائناً بذاتها لا بغيرها، ثم إنّ المرأة لا تزال محرومة حتى على صعيد التطور الكمي .
وفشل أيضاً الحل الإصلاحي الذي يشد على إجراء تغييرات جزئية ضمن الإطار العام السائد ودون التعرض إليه، وبين الإصطلاحات المحضة التي طرحت لحل مشكلة المرأة تعميم التعليم والتعليم المختلط، وفتح مجالات العمل أمام المرأة، وتصحيح الأفكار الخاطئة حول المرأة والجنس، ومنح المرأة حق الإنتخاب.. إلخ .
ضمن هذا الإطار الإصلاحي طالب فرح أنطون كما طالب قاسم أمين قبله بتربية المرأة وقال : " إنّ تربية النساء أهم من تربية الرجال في الهيئة الإجتماعية  إذ إنّه  يجب أن يكن عظيمات وفاضلات ليكون الرجال عظماء وفضلاء وذاك لأنّ الرجال يكونون كما تريد النساء،  ثم يسأل فرح أنطون  ما هي وظيفة المرأة ؟  ويجيب إنّ وظيفتها أن تكون زوجة وأماً لهذا خلقت في هذه الحياة لا لأمر سواه، فتربيتها إذن يجب أن تعلمها واجبات الزوجة والأمومة.. ومقام الزوجة والأم هو في المنزل ".  التربية في هذه الحالة ليست في سبيل تحرير المرأة، بل في سبيل ترسيخ دورها التقليدي والتشديد على أنّها لم تُخلق من أجل ذاتها، بل من أجل دور محدد تؤديه في خدمة الرجلوالأولاد.
 
هنا يمكن أن نضيف بأنّ الحركات السياسية والثورية لم تحرر هي نفسها كي تتحرر المرأة وقد شجع هذا الواقع على قيام قناعة جديدة في بعض الأوساط النسائية تقول بعزل قضية المرأة عن قضايا التحرر السياسي. وإنّ تجزئة قضية المرأة وعزلها عن قضايا المجتمع الأخرى ليست خطوة إلى الأمام في رأي. بل هي إندراج بوعيها في تيار الإصلاح الذي أعلنا إفلاسه. إنّ الحل الثوري هو الحل الذي يرى إنّ مسألة قهر المرأة مرتبطة بمسألة النظام العام بما في ذلك مسألة القهر القومي ومسألة القهر الطبقي. وكما تستلزم هاتان المسألتان قيام وعي تحرري، والإنتظام في حركة سياسية شعبية تعمل في سبيل إقامة نظام جديد، كذلك تستلزم مسألة تحرير المرأة قيام وعي جديد والإنخراط في حركة ثورية شاملة .
إنّ التحرير لا يتم بالفراغ، أو العزلة، بل في الكفاح والمشاركة، لذلك يكون موضع حركات التحرير النسائية رغم كل شئ ضمن حركات تحرير المجتمع وليس خارجها، إنّ التحرر لا ينمو فجأة ولا يهبط على الإنسان كالوحي، بل يتكون من خلال ممارسة العمل الثوري. وعندما تشكل النساء قوة داخل الثورة وفيها لا بمعزل عنها لا يكون تصرفهن مجرد ردة فعل للقمع بل يتحررن ضمن الثورة كما يتحرر الرجال .

المصدر: المرأة ودورها في حركة الوحدة العربية

ارسال التعليق

Top