• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الآداب الفنية للتفسير

د. محمّد حسين الصغير

الآداب الفنية للتفسير

◄هي مجموعة الفنون والعلوم والطاقات التي يتذرع بها المفسر لخوض لجج التفسير، فهي أدواته وآلاته، وهي قدراته وملكاته. وقد أورد السيوطي اختلاف الناس في تفسير القرآن، فهل يجوز لكلّ أحد الخوض فيه؟ قال قوم: لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن، وإن كان عالماً أديباً متسعاً في معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار، وليس له إلّا أن ينتهي إلى ما روي عن النبيّ (ص) في ذلك، ومنهم مَن قال: يجوز تفسيره لمن كان جامعاً للعلوم التي يحتاج إليها المفسر.

والرأي الأوّل: يقضي بأن يكون التفسير توقيفياً يختص بالنقل عن الأثر النبويّ، وهذا يعني حجز الفكر، وإيقاف عملية الاستنباط، وهو معارض بالأثر نفسه؛ قال ابن مسعود: "مَن أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن".

وتثوير القرآن يعني التدبُّر فيه والتنقيب عن معارفه، وفي هذا دعوة إلى الجد والاجتهاد وإعمال الفكر، وجميعها من غير المأثور، وقد ورد عن أبي الدرداء أنّه قال: "لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتى يجعل للقرآن وجوهاً".

الرأي الثاني: وهو القائل بجواز تفسير القرآن مع مَلكة الفنون، وقد ذهب إليه جملة من الأوائل.

فيقول الزركشي: "ويجب أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسر، وأن يتحرز في ذلك من نقص المفسر عما يحتاج إليه من إيضاح المعنى المفسر، أو أن يكون في ذلك المعنى زيادة لا تليق بالغرض، أو أن يكون في المفسر زيغ عن المعنى المفسر، وعدول عن طريقه حتى يكون غير مناسب له، ولو من بعض أنحائه، بل يجتهد في أن يكون وفقه من جميع الأنحاء، وعليه بمراعاة الوضع الحقيقي والمجازي، ومراعاة التأليف، وأن يوافق بين المفردات وتلميح الوقائع، فعند ذلك تنفجر له ينابيع الفوائد".

وقد أورد السيوطي اشتراط جملة من العلوم على المفسر، فمن فسّر القرآن بدونها كان مفسراً بالرأي المنهي عنه، وإذا فسّرها مع حصولها لم يكن كذلك، وهذه العلوم هي: اللغة، النحو، التصريف، الاشتقاق، المعاني، البيان، البديع، القراءات، أصول الدين، أصول الفقه، أسباب النزول والقصص، الناسخ، المنسوخ، الفقه، الأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم.

وما اشترطه يجب أن يقترن بالذائقة الفنية، وجودة الاختيار، وحُسن التأمُّل والتتبع، ونفاذ البصيرة والقريحة، فيتصرّف تصرّف الناقد الخبير عند تدافع الإشكالات وتزاحم الإيرادات، وتوهم التداخل في النصوص، أو ادّعاء التناقض في الآيات كما يزعم ذلك جملة من المبشرين وحفنة من المستشرقين، فينظر النص في دلالة سياقه، والجملة وما يتصل بها من شرط أو خبر أو جزاء، وظاهرة التجوز والنقل عن المعاني الأولية إلى المعاني الثانوية، ورد الألفاظ إلى ضدها أو نظيرها أو مرادفها للاستعانة على كشف معانيها، وسبر النص في منطوقه ومفهومه، ووجه الخطاب في لحنه وفحواه، وكلّ أولئك إمكانات ولفتات لابدّ من توافرها ليكون عطاء المفسر خصباً، وحديثه مرناً، بعيداً عن الجمود والقوقعة، والاستقلال في الاستنباط.

وهذه العلوم يجب أن تشق طريقها في التفسير مبينة له دون طغيانها عليه، فلا ضرورة لذلك، بل ولا ينبغي أن يكون التفسير مشحوناً بها بمناسبة وغير مناسبة، فيعود مضماراً لها، ويتجنى من خلالها على التفسير، وإنما المفروض أن تكون دلائل وإمارات يتوصل معها إلى فهم القرآن، لا أن تكون كلّ شيء في تفسير القرآن.

والملاحظ تقارب آراء العلماء في هذا الجانب حتى نقل الخلف عن السلف؛ فالشروط الفنية تكاد تكون واحدة عن الجميع، إلّا أنّها تتفاوت تأكيداً واستحساناً. بقي أن نقف مع اللغة والبلاغة وقفة متأنية، لأنّهما العلمان اللذان يفتقان ما في القرآن من خصائص ومميزات وإشارات، ولأنّهما يقربان المنهج الموضوعي بعيداً عن التأثر الجانبي.

اللغة لم تكن هملاً دون ضوابط، وقيمتها الجمالية ليست مجهولة المعالم، وقد جاء القرآن فكان حدثاً جديداً في تطوير هذه اللغة، يخطط لمستقبلها، ويدعو إلى نموها وصقلها والحفاظ عليها، ومن هنا اتّجهت آراء العلماء إلى جعلها لغة علمية يحددها الضبط، وكان النص القرآني حافزاً لهذا الاتّجاه فنشأت مدرستان عن ذلك:

الأولى: تقول أنّ اللغة وفروعها إنما اتّسعت للحيطة على القرآن من الألحان فيه، والاحتراز من الوقوع في الخطأ اللفظي أو المعنوية عند تبينه، فيكون عمل اللغة ضابطاً وقائياً للعرب عن اللحن والخطأ، ولغير العرب عن التبديل والتحريف.

والثانية: تقول أنّ التحقيق في اللغة والضبط لها قد عاد ضرورة لا للاحتراز عن اللحن والخطأ بل لفهم القرآن فهماً أصيلاً بعد أن دخل غير العرب في الإسلام فتكون اللغة هدفاً أساسياً وتعليمياً في وقت واحد لفهم النصوص القرآنية.

وفي كلا الأمرين يبدو للباحث أثر القرآن الكريم في حفظ اللغة، وأثر اللغة في ضبط القرآن، وتحيل النحو الصدارة في هذا المقام من بين علوم اللغة فارتبط بالقرآن من حيث صحّة القراءة وشذوذها، واتّصل بعلم القراءات المختلفة ووجوه تصحيحها ورفضها، فكان دوره المهم في بيان موقع مفردات القرآن، مضاهياً بل متفوقاً على دور اللغة في التأصيل والاشتقاق، وقد حققا معاً علاقات النظم القرآني وأصول التاليف في ربط ما تقدم من الآيات بما تأخر وبالعكس، واتّحدا في إنجاز معرفة الجذور الأولية للألفاظ وكيفية محلها من الجمل والتراكيب، فاقترنت الظواهر اللغوية بالظواهر الفنية، واتّسع الملحظ النصي لشمول الملحظ الجمالي، وقد شارك هذا في تيسير قراءة القرآن وضبطها على الوجه الأصح والأفصح، وساعد في الكشف عن طاقاته وتأثيرها في النفس الإنسانية، فكان شأن النُّحاة كشأن المعجميين واللغويين من الواعين بهذا إلى تفسير القرآن في حدود اللغة.

ومما تقدم يبدو لنا مدى حاجة المفسر إلى الدراسات التخصيصية الدقيقة، والفنون العلمية المتشعبة التي تمهد له الطريق ليكون عمله في التفسير متسماً بالدقة، وجهوده مقاربة للسداد، فلا تغيب عنه شاردة بالأعراض، ولا يفرّ منه موروث بالتلكؤ، لتلتقي عنده اللغة بالأسلوب، والفكر بالخصائص، والفن بقرائن الأحوال.

وفي هذا الضوء تتحدد مسؤولية المفسر العلمية في ضوء موسوعته الفنية، فمَن لم تتوافر له الإمكانات المتعدّدة في جملة العلوم الإسلامية والعربية وما هو بإطارها وفي سياقها، فإقدامه على التفسير عملية انتحارية لا مسوّغ لها فنّاً، كما لا مبرر لها شرعاً، فالعدة والأداة مثلاً زمان لتفسير القرآن العظيم، العدة في العلوم المتعدّدة، والأداة في الذائقة الفنية التي تضع التأويل موضعه المناسب دون تجوّز أو تزيّد، فلا يدخل فيه ما ليس منه إلّا ضرورة، ولا يخرج منه شيء حتى مع الضرورة، لهذا وسواه فالأمر صعب مستصعبٌ، وخوضه إقدام جريء، وقد يقصّر المفسّر حينئذٍ، ولكنّه مأجور إن عمل بعلمه المتشعب، واستخدمه بحسب طاقته في التفسير.►

 

المصدر: كتاب المبادىء العامّة لتفسير القرآن الكريم.. بين النظرية والتطبيق

ارسال التعليق

Top