• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

البناء الحضاري بين إرادة المجتمع وتعاون تياراته

إبراهيم محمود عبدالباقي

البناء الحضاري بين إرادة المجتمع وتعاون تياراته

يرى المفكرون العرب أهمية الإرادة، والإرادة القوية الحازمة على وجه الخصوص، إذ عن طريقها يمكن التغلب على المشاكل التي تعاني منها الأمة[1]، كما أنها السبيل "لتحقيق التصنيع، والتكوين المهني، والتقدم"[2]. فهذه "الإرادة الحديدية" تعمل على نقل الأمة من التخلف الذي تعيشه إلى التقدم المنشود، لكن المثقفين هم الذين يستطيعون نفخ "روح الإرادة" في الأمة[3]. ومن الضروري كذلك توفر هذه الإرادة عند المسؤولين؛ لأن "الإرادة القوية للمسؤولين عن المجتمع، والعزيمة الجبارة لتحقيق النصر والكفاح، تجعل كل صعب ممكناً، وتحقق تقدم الفرد والمجتمع، في مختلف الميادين الاجتماعية، والاقتصادية، والعلمية، والتكنولوجية، والديمقراطية"[4]. فالإرادة القوية من الشروط الأساسية اللازم توفرها في العالم العربي والإسلامي للسير بخطى واسعة وسريعة في طريق التقدم والنمو[5].

من الخطورة، إذن، فقدان الإرادة الجماعية (الحرّة)، ذلك أن افتقاد الأمة الإرادة الجماعية للنهوض هو العائق الأكبر لانطلاقتها الحضارية[6]. وحين يفقد شعب ما مكونات ومقومات الإرادة الجماعية، فإن ذلك سيؤدي به للانتحار الحضاري[7]. كما أنه من الخطأ إحباط رغبة النهوض داخل المجتمع؛ لأن ذلك لن يعني إلا اهتزاز القيم الاجتماعية وتحلل قيمة الانتماء إلى المجتمع[8]. كذلك يوجد ربط ما بين الإرادة والتغيير[9]، ذلك أن "قضية" "التغيير" في المجتمع العربي [...] تتطلب إرادة ذاتية قادرة على استيعاب اللحظة التاريخية، والعمل بمقتضاها. على أن إعمال الإرادة يتطلب تحديد "الهدف". والهدف يتركز في: إنهاء حالة التبعية وردم الهوة الحضارية بين المجتمع العربي والمجتمعات المتقدمة، والخروج من حالة التخلف، واستعادة السيطرة على الموارد والثروات العربية، واستنهاض المجتمع العربي للمشاركة الإبداعية في صنع التاريخ [...]، والتحرّر من القيم البالية العتيقة لإتاحة الفرصة لإحلال حضارة العقل والإنجاز والكفاءة محل القيم التقليدية [...]. فالهدف هو تحقيق "نهضة حضارية شاملة في المجتمع العربي" [...] ولن تكون عدّة الحرب ومنهجية التغيير المجتمعي المستقبلي العميق بغير "التحول الثوري"... هذا التحول الثوري، يُقصد به أن يصل التغيير في عمقه وشموليته إلى حدّ التبديل الجذري لأسس البنية الاجتماعية والسياسية القائمة في المجتمع العربي"[10]. وتتمثل أهمية "إرادة التغيير" في كون "التغيير ضرورة حتمية للنهضة، وهو تغيير اجتماعي سياسي اقتصادي ثقافي هادف. وليس التغيير مجرد تحوّل شكلي في إطار اختيار التراث، أو تغيير قاصر على الرؤية الذاتية، بل إنه يستلزم فهماً لقوانين حركة الواقع، تاريخاً وحاضراً، وصياغة لرؤية مستقبلية"[11]. فلا بدّ لكل عمل تغييري من إرادة وقدرة: وهذه الإرادة تنبعث من الإيمان بالقيم والحماس لها، أما القدرة فتتولد من بناء الإمكانات والكوادر والتي لا تتوفر إلا بتحقيق التخصص في شُعب المعرفة المختلفة[12]. بل إن "إرادة المستقبل، تبقى مشلولة جوفاء، إذا لم تُبن على إرادة التغيير وعلى ممارسته بعقلانية وتخطيط وصبر وأمل. والتغيير يبدأ، أو يجب أن يبدأ، من تغيير طريقة النظر إلى الأمور، من تحليل الواقع تحليلاً يجمع بين النظرة الموضوعية والهدف الاستراتيجي، هدف التغيير وإعادة البناء"[13]؛ كما أن "إرادة السمتقبل" هذه (والمرتبطة بإرادة التغيير)، لا بدّ وأن ترتبط بالوعي بالماضي والحاضر[14]، وبوضوح الرؤية والأهداف[15]. وقد رتّب الله عز وجّل: "كثيراً من سنن السقوط والنهوض، على إرادة وفعل البشر"[16]. ففقر الأمة لا ينتج عن فقرها في المعدات أو المال أو الإمكانيات، بل يكمن في فقر النفوس وعجزها، وضعف الإرادة واضطرابها، ولا بدّ من "التضحية" من أجل الحياة الحرة الكريمة للأمة[17]. إن "إرادة الحياة والخلود" ضرورية لولادة وحياة وتطور كل حضارة[18]، واكتساب الحضارة إنما يكون من خلال الإرادة الحرة للأمة والعودة إلى الذات[19]. والشرط الأهم للإحياء هو إرادة الإحياء[20]. إن الإرادة لتحقيق النهضة بحاجة إلى تعاون كل التيارات المجتمعية العربية، فتعاون القوميين العرب مع الإسلاميين العرب، مثلاً، ضرورة لتحقيق حاجات المشروع النهضوي العربي الإسلامي؛ لأن بينهم أهدافاً مشتركة من مثل: مشروع الوحدة العربية بين الأقطار العربية، ومشروع تحقيق الحريات العامة وتعميق الشورى والديمقراطية في المجتمعات العربية، ومشروع تحقيق العدالة الاجتماعية بين المواطنين، ومشروع تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة والاكتفاء الذاتي (وبخاصة في مجال الأمن الغذائي)، ومشروع التقدم العلمي والتكنولوجي للأمة[21]، ومواجهة الاستبداد والتخلف والاستتباع والاستعمار والصهيونية[22]. لذا، يلزم وضع ميثاق للتفاهم فيما بينهم (بالخصوص بين قوى المجتمع المتغربة، وقواه الإسلامية)[23]. تتجلى أهمية العمل الجماعي والإرادة الجماعية، أكثر ما تتجلى، عندما تكون القضية المطروحة قضية وطنية قومية، مثل النهضة والتنمية... إلخ؛ لأنه لا توجد قوة اجتماعية واحدة (في العالم العربي على وجه الخصوص) قادرة على إنجاز تلك المهام وحدها[24]. هنا، يبرز الحديث عن أهمية "الكتلة التاريخية"، والتي "لا تعني مجرد تكتل أو تجمع قوى اجتماعية مختلفة، ولا مجرد تحالفها؛ بل تعني كذلك التحام القوى الفكرية المختلفة (الإيديولوجيات..) مع هذه القوى الاجتماعية وتحالفها من أجل قضية واحدة. إن الفكر يصبح هنا، جزءاً من بنية كلية وليس مجرد انعكاس أو تعبير عن بنية ما"[25]. هذه الكتلة هي التي يمكنها أن تحقق أهداف وطموحات الأمة العربية في التحرر والنهضة والتقدم، لكن قيامها يتطلب توافر رؤية واضحة للمشاكل المطروحة، وحدّ أدنى من حسن التفهم والتفاهم؛ إذ بدون ذلك لا يمكن الدخول في عمل جماعي مشترك ذي جدوى[26]. لذا، لا بدّ من "قيام كتلة تاريخية تنبني على المصلحة الموضوعية الواحدة، والتي تُحرّك في العمق ومن العمق، جميع التيارات التي تنجح في جعل أصدائها تتردد بين صفوف الشعب"[27]. كما لا بدّ من تحالف المثقفين التقليديين (من أصوليين وسلفيين ووطنيين)؛ لأن ذلك سيعمل على تشكيل الكتلة التاريخية اللازمة لإخراج الأمة من أزمتها[28]. فقد كان جنوح تيارات الأمة للعمل الانعزالي، بدلاً من التعاون والعمل المشترك فيما بينهم، من أسباب تمزق الفكر العربي. وبدون ذلك العمل المشترك لا يمكن خلق قوة فكرية وتنظيمية قادرة على تغيير الواقع العربي المؤلم[29]. فمن الضروري تجاوز كل الخلافات الإيديولوجية والسياسية بين كل فرقاء الأمة، كي لا تخسر الأمة كل أحلامها في التقدم والوحدة والتحضر، ذلك أنها مهددة؛ وفي حالة التهديد والخطر، لا بدّ من توحّد كل الجهود، وإلا كان الهلاك[30]. وهنالك كلام في "الكتلة الحرجة"، وهي التي تصنع التقدم، والمقصود بها: الحدّ الكافي والعدد المطلوب من الباحثين ومعاونيهم للقيام بمهمة نقل التكنولوجيا وتطبيقها واستعمالها. وهذه الكتلة لن تتكون في العالم العربي إلا عن طريق الوحدة العربية؛ لأنها لا توجد في كل قطر عربي منفرد على حدة[31]. والاختلاف بين "الكتلة الحرجة" و"الكتلة التاريخية" هو أن الكتلة التاريخية عامة شمولية، في حين أن الكتلة الحرجة محدودة ومخصوصة بالمثقفين فقط. لذا، "نجاح أي عمل، يتطلب التلازم والتفاعل بين جانبين؛ أولاهما: القدرات: وهي كل المصادر أو المستلزمات او الطاقات والمصادر البشرية والمادية... إلخ؛ والإرادة: وهي عملية الاستفادة والتوجيه والتسخير لتلك القدرات [...]. ومهما كانت القدرات عظيمة وكثيرة، فإنها لا يمكن أن تؤثر إلا بوجود عناصر الاستخدام وعناصر الإرادة الفاعلة. ومشكلة أمتنا، بشكل عام، هي تخلف هذا الجانب وعدم قدرته بعد على توظيف مقدرات الأمة لمصلحة الأمة"[32]. فحضور الأمة العربية الفاعل في العصر إنما يقوم على عدة مكونات، منها امتلاك الإرادة واستقلاليتها؛ والمقصود بالإرادة: الإصرار على البقاء والحياة والعلم والشخصية[33]. والتنمية عبارة عن إرادة وعلم ووجدان[34]. كما تجدر الإشارة إلى أمر مهم هو أن الإرادة بحاجة إلى أن تتحول إلى فعل لتؤدي دورها، ذلك أن "تردي الأمة لا يرجع فقط إلى ضمور في إرادتها للحق والخير والسمو، بل أيضاً إلى تناقص في قدرتها على تحويل الإرادة إلى واقع فعلي"[35]. ويتحدث بعض المفكرين عن أهمية "الاستعداد النفسي"، والذي يرونه ضرورة لازمة لأي عملية تغيير أو تطوير، ولحصول النقلة النوعية المناسبة[36]. في حين يذكر آخرون مصطلح "الروح" نيابة عن "الإرادة"، ويعتبرون أن الأمة بحاجة ماسة لاستعادة الروح الحضارية والتي افتقدتها منذ زمن بعيد، مما سبب اندثارها الحضاري[37]. ويتحدث غيرهم عن أهمية "العزيمة"، التي تُعتبر "مفتاح التطور"[38]. يذكر بعض المفكرين عدة مهام على عاتق قوى البديل الحضاري؛ أبرزها: النضال من أجل توسيع هوامش الفعل الثقافي الحر بخلق المزيد من فضاءات العمل الجمعوي والثقافي المستقل عن هيمنة السلطة؛ والتبني العملي لشعار "ثقافة بلا حواجز"؛ والتصدي لثقافة الغزو الحضاري، ودحض مرتكزاتها القائمة على التبعية، من خلال الحوار البنّاء؛ وتعميم الثقافة البديلة ذات البعد المتحرر؛ والقيام بالمواجهة الفكرية لكل النزعات الهدامة والداعية لتجريد الأمة من مقومات الصمود؛ وصياغة ملامح البديل الحضاري المنشود في مجال الفن (سينما، أدب، مسرح... إلخ)؛ وتحرير مفهوم الثقافة من طابع البرج العاجي وجعلها تنبثق من هموم وهواجس ونبض الشعب[39].

الخلاصة: يتفق المفكرون العرب على أهمية "الإرادة في عملية البناء الحضاري. لذلك يشيرون لضرورة استعادة الروح والإرادة والنفسية الحضارية في العالم العربي من أجل إعادة بناء الحضارة العربية مجدداً. كما يشتركون في رؤية ضرورة تعاون جميع التيارات والاتجاهات والفرق العربية؛ لأن ذلك ضرورة لا بدّ منها لصياغة المشروع الحضاري العربي وبناء الحضارة العربية من جديد، إذ لا توجد فرقة أو تيار عربي واحد قادر على القيام بذلك وحده دون الاستعانة بالآخرين.

 

الهوامش:
[1]- الهلالي، إبراهيم. نحو بناء مجتمع متقدم. ص12. [2]- المرجع السابق، ص61. [3]- المرجع السابق، ص203. [4]- المرجع السابق، ص255. [5]- المرجع السابق، ص445-449. [6]- النجار، عبد المجيد. ندوة: "مستقبل العمل الإسلامي"، موضوع: "النهضة الإسلامية: العوائق والعوامل"، ص443-445. الدريني، فتحي. ندوة: "مستقبل العالم الإسلامي الثقافي"، موضوع: "مقومات وخصائص الثقافة الإسلامية الأساسية وأهدافها في الإسلام"، ج1، ص40. الخطيب، سليمان. فلسفة الحضارة. ص81، ص286. جابر، حسن. "الرؤية الحضارية في فكر الشهيد المطهري"، مجلة المنطلق. عدد 90، 91، ص22. علي، محمد أحمد إسماعيل. "المثقفون العرب والتنمية الذاتية"، مجلة الوحدة. عدد 66، ص110-113. [7]- جلال، شوقي. التراث والتاريخ. ص81-82. [8]- المرجع السابق، ص242. [9]- عبدالله، ثنا فؤاد، "ممكنات التغيير في المجتمع العربي"، مجلة المستقبل العربي. عدد 176، ص36. [10]- المرجع السابق، ص38. [11]- مجلة المستقبل العربي. عدد 176، ص150. [12]- حسنه، عمر عبيد. ندوة: "مناهج التغيير في الفكر الإسلامي المعاصر"، موضوع: "مناهج التغيير ووسائله في ضوء الكتاب والسُّنَّة"، ص339. [13]- الجابري، محمد عابد. المشروع النهضوي العربي. مرجع سابق، ص167. [14]- المرجع السابق، ص189. [15]- المرجع السابق، ص182. [16]- العمري، أكرم ضياء. قيم المجتمع الإسلامي من منظور تاريخي. مرجع سابق، ج1، ص31. [17]- السايح، أحمد عبد الرحيم. في الغزو الفكري. مرجع سابق، ص60. [18]- المرجع السابق، ص114-115. [19]- الأنصاري، محمد جابر. "متطلبات لا بد منها لإحياء المشروع العربي- الإسلامي"، جريدة الشرق الأوسط، عدد 5705 (الثلاثاء 12/7/1994م) ص10. [20]- الأنصاري، محمد جابر. تجديد النهضة. ص21. [21]- الفرحان، إسحاق. ندوة: "مستقبل العمل الإسلامي"، موضوع: "نحو استراتيجية عربية إسلامية مشتركة لمنطقة الشرق الأوسط"، ص364. [22]- شومان، محمد. "ملاحظات أولية حول إشكاليات الإسلامي والناصرية". مجلة منبر الحوار. العددان 23، 24، ص63، ص72. [23]- شفيق، منير. في نظريات التغيير. مرجع سابق، ص138-140. [24]- الجابري، محمد عابد. حوار المشرق والمغرب. لمجموعة من المفكرين العرب، ص39. [25]- الجابري، محمد عابد. العقل السياسي العربي. مرجع سابق، ص355- 356. [26]- الجابري، محمد عابد. وجهة نظر. مرجع سابق، ص12. [27]- المرجع السابق، ص144. [28]- المرجع السابق، ص206. [29]- حتاتة، شريف. إعداد وتقديم: سفعان، إبراهيم. أزمة الفكر العربي. ص45- 46. [30]- أبراش، إبراهيم. "أزمة خليج عربي أم أزمة مجتمع عربي"، جريدة القدس العربي، عدد 515 (الاثنين 31/12/1990م) السنة الثانية، ص11، عمود1. [31]- عوض، عادل. "التعليم العالي والبحث العلمي: مشاكل الباحث العربي"، مجلة الوحدة. عدد 72، ص75- 76. [32]- عليمات، حمود. ندوة: "مستقبل العمل الإسلامي"، موضوع: "الفعل الإسلامي الدولي بين قدرات الأمة وإرادة الحركة"، ص194. [33]- اليافي، نعيم. "النهضة الأوروبية وعلاقتها بالعرب"، مجلة دراسات عربية. عدد 5، 6 (1993م) ص38-39. [34]- عبد العليم، عفاف. التنمية الثقافية. ص49. [35]- صافي، لؤي. ندوة: "مستقبل العمل الإٍسلامي"، موضوع: "الحركة الإسلامية في مرآة أحداث الخليج"، ص229. [36]- عدلوني، محمد أكرم. "توجهات مستقبلية للحركة الإسلامية المعاصرة على مشارف القرن الحادي والعشرين". مرجع سابق. ص64. [37]- البغدادي، أحمد مبارك، "الفكر العربي وحقوق الإنسان"، المجلة العربية للعلوم الإنسانية. عدد 52 (صيف 1995م) السنة الثالثة عشرة، ص175. [38]- سيناصر، محمد علال. "البعد التكنولوجي في الحداثة"، مجلة الأكاديمية. عدد 10 (1993م) ص164.

[39]- جمعية البديل الحضاري، البديل الحضاري. منشورات البديل الحضاري (1)، ص50-51.

المصدر: الخطاب العزي المعاصى (عوامل البناء الحضاري في الكتابات العربية)

ارسال التعليق

Top