• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تكوين آدم وتكريمُه

عفيف عبدالفتاح طبّاره

تكوين آدم وتكريمُه


- ظهور آدم:
تبدأ قصة خلق آدم بتلك المحاورة بين الله والملائكة: فالله سبحانه يخبر الملائكة بأنّه سيجعل في الأرض خليفة هو آدم وذريته، وأن سيمكنهم في الأرض ويجعلهم أصحاب السلطان فيها، ولكن الملائكة تعجبوا من هذا النبأ، فالذي سيكون خليفة لله في أرضه لن يستطيع أن يقيم ملكوتاً يساوي ملكوت السماء رحمة وطهراً، فقد خلق الله بشراً قبل آدم فأفسدوا في الأرض، فقال الملائكة مخاطبين ربهم: أتجعل في الأرض بشراً يفسدون فيها بالمعاصي ويسفكون الدماء بينما نحن نزهك عما لا يليق بجلالك ونمجدك شكراً لك! قال الملائكة لربهم ذلك لأنّهم رأوا أنفسهم أفضل من هذا المخلوق الذي سيُجعل خليفة، وأنهم أولى منه بخلافة الأرض، ولكن الله أجابهم بالسر المغيب عنهم والحكمة التي اختص بها في خلق آدم وهي أنّه يعلم مالا يعلمون.
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 30).

- منزلة آدم:
وبعد أن خلق آدم علّمه أسماء الأشياء وحقائقها وخواصها ليتمكن في الأرض وينتفع بها حق الانتفاع.
ثمّ أراد الله أن يُري الملائكة رأي العين انّ هذا الكائن الجديد الذي صغروا من شأنه هو أكثر منهم علماً وأوسع معرفة، ولهذا سألهم أن يخبروه بأسماء أشياء معيّنة وخواصها إن كانوا مصيبين – في ظنهم – وأنهم أحق منه بخلافة الأرض.
ولكن الملائكة عجزوا عن الإجابة وخاطبوا ربهم معتذرين: إننا ننزهك يا ربنا التنزيه اللائق بك، ولا نعترض على مشيئتك إذ لا علم عندنا إلّا الذي وهبتنا إياه وأنت العليم بكل شيء، الحكيم في كل أمر تفعله.
ويدعو الله سبحانه آدم ليكون معلماً للملائكة ويقول له: يا آدم أخبر الملائكة بما سألتهم، فيجيب آدم، ويظهر فضله عليهم، وهنا خاطب الله الملائكة: ألم أقل لكم إني أعلم ما في السماوات وما في الأرض مما لا يعلمه غيري وأعلم ما تظهرون من أقوالكم وما تخفون في نفوسكم.
(وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة/ 31-33).

- تكريم آدم:
ويخبرنا القرآن عن المادة التي خلق الله منها آدم:
(إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ) (ص/ 71).
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (الحجر/ 26).
(خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) (الرحمن/ 14).
سوى الله آدم من طين أسود على هيئة إنسان حتى إذا جف إلى حدّ أنه إذا نُقر سمع له صوت، غيّره طوراً بعد طور، ثمّ نفخ فيه من روحه فإذا هو إنسان من لحم ودم وعصب يتحرك بإرادة ويفكر.
ثمّ يأمر الله الملائكة بتكريم آدم بأن يسجدوا له سجود تكريم لا سجود عبادة، لأنّ الله لا يأمر أحداً أن يتوجه بالعبادة إلى سواه.
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (الحجر/ 28-29).
ففي هذه الآية ثلاث مكرمات خص الله بها آدم:
أولاً: خلقه بيده.
ثانياً: نفخه فيه من روحه.
ثالثاً: أمره الملائكة بالسجود له.

- سجود الملائكة وامتناع إبليس:
سجد الملائكة كلهم لآدم – امتثالاً لأمر الله – باستثناء إبليس الذي أبى أن يسجد إستكباراً وعناداً، ولقد سأله الله تعالى – وهو أعلم – عن السبب الذي منعه من السجود لآدم بعد أن أمره به فاحتج بأنّه أفضل منه تكويناً، فهو قد خلق من نار، بينما آدم قد خلق من طين، والنار في رأيه أفضل من الطين وأبدى غاية التكبر، عندئذ طرده الله من الجنة، ولعنه لعنة دائمة إلى يوم القيامة بسبب كبريائه.
(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) (ص/ 73-78).

* آدَمُ وإبليس:
- طرد إبليس من الجنّة:
كان جزاء إبليس على عناده وكبريائه وتمرده عن السجود لآدم هو الطرد من الجنة ذليلاً مهانا.
وطلب إبليس من ربه أن يمهله حيّاً إلى يوم القيامة فأجب الله طلبه لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى، وعلّل طلبه قائلاً: بسبب حكمك عليّ يا رب بالهلاك أقسم لأحاولنَّ جهدي أن أضل بني آدم واصرفهم عن طريقك المستقيم متخذاً في سبيل ذلك كل وسيلة ممكنة، وسآتيهم من كل جهة استطيعها مترقباً كل غفلة منهم وضعف حتى أصل إلى إغوائهم وإفسادهم، واجعل أكثرهم غير شاكرين لك.
ولكن الله نهره قائلاً: أخرج من الجنة مذموماً مطروداً من رحمتي وأقسم أني سأملأ جهنم منك وممن يتبعك من بني آدم أجمعين. وهذا ما ذكره الله تعالى بقوله: (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأعراف/ 13-18).
وتارة يصور القرآن عزم إبليس على إغواء آدم باستثناء عباد الله الصالحين: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا) (الإسراء/ 61-65).
والمنى: إنّ الله قال للملائكة حيّوا آدم وكرموه بالإنحناء له، فامتثلوا لأمره إلا إبليس امتنع وقال منكراً: كيف اسجد لمن خلقته من طين؟. اخبرني يا رب عن هذا الذي كرّمته عليّ حين أمرتني بالسجود له، لِمَ فضلته عليّ مع أنّي خير منه؟ ولئن أخرت موتي إلى يوم القيامة لأهلكن ذريته بالإغواء والضلال إلا القليل منهم ممن عصمته وحفظته. فقال الله مهدداً إياه: امض لشأنك الذي اخترته لنفسك فمن اطاعك من ذرية آدم فإن جهنم جزاؤك وجزاؤهم، وهو جزاء وافر كامل. ويمضي الله سبحانه في وعيده قائلاً: استخف وأوقع في معصية الله من استطعت منهم وافرغ جهدك في جميع أنواع الإغراء وشاركهم في كسب الأموال المحرمة وصرفها في المعاصي، وتكفير الأولاد واغرائهم على الفساد، وعدهم المواعيد الكاذبة الباطلة. ثمّ يستدرك الله فيقول: إن ما يعد الشيطان اتباعه انما هو غرور وتمويه، أما المخلصون من عباد الله المؤمنين فليس لإبليس عليهم سلطة ولا قدرة لأنّهم توكلوا على ربّهم، وكفى بالله نصيراً.

- خلق حواء:
أمر الله آدم أن يسكن الجنة مع زوجته، واختلف العلماء في الوقت الذي خلقت زوجته فيه، فقيل: إنّ الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة واسكن فيها آدم بقي فيها وحده وما كان معه من يستأنس به، فألقى الله تعالى عليه النوم، ثمّ اخذ ضلعاً من أضلاعه من شقه الأيسر ووضع مكانه لحماً وخلق حواء منه فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة قاعدة فسألها: من أنت؟ قالت: امرأة، قال: ولِمَ خُلِقتِ؟ قالت: لتسكن إليّ. وفي القرآن الكريم إشارة لذلك، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (النساء/ 1)، (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا...) (الأعراف/ 198).

- إغواء إبليس لآدم:
لما اسكن الله آدم وزوجته الجنة أباح لهما أن يتمتعا بكل شيء فيها فيأكلان ما يشتهيان من ثمرها، ولم ينههما إلا عن شجرة واحدة، وأمرهما أن لا يقرباها وأن لا يذوقا من ثمرها، وأنهما إن فعلا ذلك يكونان من الظالمين لنفسيهما بمخالفة أمر الله، وما يترتب على ذلك من العقوبة.
سُرّ إبليس في قرارة نفسه لأنه وجد في ذلك النهي منفذاً ينفذ فيه إلى آدم وزوجته، فأخذ يحدثهما ويغريهما ليأكلا من ثمر تلك الشجرة ليكون عاقبة ذلك كشف ما سُتر وغطي من عوراتهما.
وقد بالغ إبليس في إلحاحه وخداعه فأوهمهما أنّ الله منعهما من الأكل من تلك الشجرة لكي لا يصيرا ملكين، ولا يخلدا في الجنة ذات النعيم، وأقسم إنّه لهما من الناصحين. قال تعالى: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف/ 19-21).

- خطيئة آدم:
نسي آدم وحواء أن إبليس هو عدوهما، ووقعا في حبائل الفتنة، وأكلا من الشجرة، فلما ذاقا طعمها، انكشفت لهما عوراتهما، وكانا قبل ذلك لا يرى كل منهما عورته ولا عورة الآخر، ومن فرط حيائهما اخذا يجمعان بعض أوراق الشجر ليغطيا به ما انكشف. وناداهما ربهما مؤنباً أياهما على ذنبهما: ألم انهكما عن الأكل من تلك الشجرة، واخبر كما إنّ الشيطان لكما عدو مبين؟
وشعر آدم وحواء بمبلغ ما اقترفا من إثم في معصيتهما لله، فندما أشد الندم وتضرعاً إلى ربهما قائلين: يا ربنا إنّنا ظلمنا أنفسنا بعصيانك ومخالفة أمرك فاغفر لنا وارحمنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا بفضلك لنكونن من الخاسرين.
(فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف/ 22-23).

- العفو عن آدم وإخراجه من الجنة:
قَبلَ الله توبة آدم (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة/ 37).
ولكن الله أنزل آدم وحواء من الجنة إلى الأرض، وأخبرهما إنّه سيكون لذريتهما عداء فيما بينهم، وإنّهم سيقيمون في الأرض يعمرونها ويتمتعون فيها تمتعاً موقوتاً إلى حين إنتهاء آجالهم، وأنه سبحانه سيمدهم بالهدى والرشاد، فمن تبع هدى الله فلن يقع في المآثم في الدنيا ولن يشقى فيها.
(قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٢٤)قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) (الأعراف/ 25).
(قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) (طه/ 123).

- الجنّة التي اسكن الله فيها آدم:
اختلف العلماء في الجنة المذكورة في القرآن التي أسكن الله فيها آدم والتي أمره بالهبوط منها هل كانت في الأرض أو في السماء.
والرأي الراجح إنّ هذه الجنة كانت في الأرض لأنّ الله سبحانه خلق آدم في الأرض كما في قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/ 30)، ولم يذكر الله أنّه نقله إلى السماء.
ثمّ إنّ الله تعالى وصف الجنة الموعودة في السماء (جنة الخلد) ولو كانت هي ذاتها التي اسكنها لآدم لما تجرأ إبليس أن يقول لآدم: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى) (طه/ 120).
وجنة الخلد دار للنعيم وليست بدار تكليف وقد كلف الله آدم وحواء بأن لا يأكلا من الشجرة.
كما إنّ جنة الخلد التي في السماء وصف الله من يدخلها (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) (الحجر/ 48)، (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا) (هود/ 108)، بينما أخرج آدم وحواء من الجنة التي أدخلا فيها فتعين أن تكون تلك الجنة غير الموعود في القرآن للمؤمنين الصالحين يوم القيامة.
ووجه آخر أن إبليس لما امتنع عن السجود لُعِنَ وأخرج من الجنة فلو كانت هذه جنة الخلد فإنّه لا يقدر مع غضب الله أن يصل إلى جنة الخلد ويوسوس فيها لآدم وحواء.
يتبين مما ذكرنا إنّ الجنة التي أسكنها الله لآدم هي غير جنة الخلد التي هي في السماء، ولا يمنع أن تكون الجنة التي اسكنها الله لآدم مرتفعة عن سائر بقاع الأرض ذات أشجار وثمار وظلال ونعيم، وهي التي وصفها الله بقوله: (إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) (طه/ 118-119).
أي هذه الجنة لا تجوع فيها ولا تتعرى من اللباس ولا يمس باطنك حرّ الظمأ ولا ظاهرك حرّ الشمس، ولكن لما أكل آدم وحواء هبطا إلى أرض الشقاء والتعب والإبتلاء والإمتحان.
وأما من احتج بأن آدم وحواء كانا في جنة الخلد التي في السماء وأمرهما بالهبوط إلى الأرض بدليل قوله تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا...) (البقرة/ 38)، فقد رُدّ على ذلك بأنّ الهبوط يأتي بمعنى الإنتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله تعالى: (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ) (البقرة/ 61)، وكما قال سبحانه عن نبيه نوح حين أمره بمغادرة السفينة (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) (هود/ 48).
المصدر: كتاب مع الأنبياء في القرآن الكريم

ارسال التعليق

Top