• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أسس شرعية تضبط العلاقات وتنظم الحقوق والواجبات

سلوى النجّار

أسس شرعية تضبط العلاقات وتنظم الحقوق والواجبات

◄اهتم فقهاء المسلمين بتسليط الضوء على مختلف الجوانب الفقهية المترتبة على تكوين الأسرة المسلمة في مراحلها وأدوارها كافة، ولا شكّ في أنّ هذا عائد إلى أهمية الدور الذي تلعبه الأسس الشرعية والأحكام الفقهية في حماية كيان الأسرة، وتمكينها من أداء أدوارها المكلّفة بها.

لعب الفقه الإسلامي دوراً مهمّاً في تعريف الفرد والمجتمع المسلم بكيفيّة تكوين أسرة متماسكة، قائمة على قاعدة متينة من القوانين الشرعية، التي وردت في القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهّرة. هذه القوانين والأسس الشرعية التي تضبط العلاقات وتُنظّم الحقوق والواجبات بين أفراد الأسرة الواحدة، قام العديد من فقهاء الأُمّة الإسلامية بتسليط الضوء عليها، نظراً إلى أهميتها الفائقة. وفي ما يلي تُبين إيمان إسماعيل (المشرفة التنفيذية على مشروع الثقافة الإسلامية العالمية) عدداً من أهم تلك الأسس الشرعية ذات العلاقة المباشرة بتنمية الأسرة المسلمة.

وتستهل حديثها موضحةً، أنّ الفقيه المسلم في تناوله لمجال تنمية الأسرة المسلمة ركّز على فقه الأسرة المبني على المودة والرحمة والأسس القائمة على الحقوق والواجبات، وذلك منذ اللحظة الأولى لتكوين الأسرة وفي مختلف مراحل تطورها وبين جميع أفرادها. والسبب الرئيسي لهذا التركيز، يرجع إلى طبيعة الأحكام الشرعية والقواعد الفقهية المؤسسة لبناء الأسرة المسلمة، والتي يشيع في جوانبها شعور بالرحمة والمودة وإحساس بالأمان، حيث أقام الإسلام لها منهجاً فقهياً على أسس الشريعة والإحكام والقوانين التي وردت في القرآن الكريم والسنّة النبويّة المطهّرة.

 

فقه مشروعية الزواج:

إنّ فقه الزواج فرع مهم من فروع الفقه، لأنّ الزواج سُنّة ماضية في الخليقة كلّها، ولابدّ من التقاء الذكر والأنثى استجابة لنداء الفطرة وتحقيقاً لضرورة بقاء النوع، قال الله تعالى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذاريات/ 49). والإنسان هو سيد المخلوقات جميعها، قد أنعم الله تعالى عليه بنعم كثيرة لا تُحصى ولا تُعد ولا تُستقصَى. ومن هذه النِّعم نعمة النكاح والزواج. قال الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الرّوم/ 21). والزواج سُنّة الأنبياء والمرسلين، وهم أكرم الخلق وأفضل الناس، وهو السنّة النبوية في الإسلام أيضاً، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً...) (الرّعد/ 38). وورد في السنّة المطهّرة عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: جاء ثلاثة رَهْط إلى بيوت أزواج النبيّ (ص)، يسألون عن عبادة النبيّ (ص)، فلمّا أُخبروا كأنهم تقالوها وقالوا أين نحن من النبي (ص) قد غفر لهم ما تَقَدَّم من ذنبه وما تأخَّر. قال أحدهم: أمّا أنا فأصلّي الليل أبداً. وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله (ص) إليهم قال: "أأنتم الذين قُلْتُم كذا وكذا أمّا والله إنِّي لأخشاكُمْ لله وأتقَاكُمْ لَهُ لكنِّي أصُومُ وأفطرُ وأصلِّي وأرقُدُ وأتزوَّجُ النِّساء فَمَنْ رَغَب عَن سُنّتي فَلَيْسَ منِّي" (مُتَّفِق عليه). وهنا يوضح لنا رسول الله (ص) الأمر الفقهي في أهمية الزواج وبناء الأسرة بعدما وجدنا العديد من الشبّان والشابات يعزفون عن الزواج، بحاجة أنه إلى ليس من الضروريات، وهذا أمر يتعارض تماماً مع ما جاء به الإسلام.

 

اختيار شريك الحياة:

يتم اختيار شريك الحياة في ضوء مواصفات ومعايير فقهية لا يصح تجاوزها، من أهم تلك المعايير: اختيار الرجل الصالح صاحب الدين والقيَم والمبادئ والمعروف بين الناس بصلاحه وتقواه، وأن يكون صاحب عمل يقدر من خلاله على توفير النفقة الطيبة والعيش الكريم لزوجته وأسرته.

كذلك الأمر بالنسبة إلى اختيار شريكة الحياة، إذ يجب أن يتم وفقاً لمنهج فقهي واضح، لأنّ المرأة الصالحة هي أساس بناء الفرد والمجتمع. ويتجلّى ذلك في قول رسول الله (ص): "تُنْكِحُ المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها: فاظْفَرْ بذات الدِّين تَربَتْ يداك" (صحيح البخاري). وهنا تجدر الإشارة، إلى أنّ الإسلام قدَّر رأي المرأة عند تزويجها، فجعل لها حقّ الاختيار وحقّ الاعتراض والرفض، وإذا أعلنت رفضها وَجَب احترام رأيها وإلا كان العقد باطلاً. فقد روى الشيخان واللفظ للبخاري، عن أبي هريرة (رض) أنّ رسول الله (ص) قال: ".. لا تُنكَحُ الأيْمُ حتى تُستَأمَرَ، ولا تُنْكَحُ البِكْرُ حتّى تُسْتَأذَنَ".. قيل يا رسول الله وكيف إذنُها؟ قال: "أنْ تسْكُت". فما دامت المرأة بالغة عاقلة فعلى الولي ألا يزوجها إلا بعد أن يأخذ إذنها في شريك حياتها، فإذا كانت ثَيِّباً وسبق لها الزواج فليأخذ الولي أمرها، وإذا كانت بِكْراً لم تتزوج فيستأذنها ولّيها.

 

فقه الميراث:

يقول الله تعالى في سورة النساء، التي جعلها الله سبحانه وتعالى باسم النساء لخصوصيتها في الحفاظ على حقوقهنّ الفقهية وتوضيح حقوقهنّ في الشرع والميراث، يقول الله تعالى: (.. لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ...) (النساء/ 32)، حيث قدَّر الإسلام للمرأة حقّها في أن تَرِث وأن يكون لها جزء ممّا ترك الوالدان والزوج وغيره، حسب المسائل الفقهية التي وردت في ذلك، لتعزيز مكانة المرأة المسلمة والحيلولة دون تجاوزها أو حرمانها من حقوقها التي منحها الله سبحانه وتعالى لها.

 

فقه العقوبات:

إنّ شَرع الله تعالى عام للجميع ونداء المؤمنين بطبيعة الحال يشمل المؤمنات، كما أنّ توجيه الخطاب لرسول الله (ص) يكون أمراً للأُمّة بأسرها مَن كان وقت الخطاب ومَن يأتي إلى قيام الساعة. وقد جَمعَ الله تعالى الرجال والنساء في عشر صفات دينية مهمة لأعمال إسلامية، وجعل الجزاء عنها واحداً للرجال والنساء، فقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب/ 35)، والآية الكريمة تُوضح أنّ الجزاء الحسن لكلِّ من الرجال والنساء يُعطى بالتعادل والمساواة، وهذا كرم من الله سبحانه وتعالى على عباده. من ناحية أخرى نجد أنّ الأحكام الشرعية الفقهية الخاصة بكلِّ من الرجال والنساء، في حال ارتكاب المعاصي والمخالفات الشرعية، وكذلك العقوبات الدنيوية والحدود الشرعية، جميعها يتم تطبيقها على الرجال والنساء من دون استثناء متى ثبتت بإقرار أو بينة.

 

فقه المحرمات:

قال الله تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الأخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء/ 22-24)، فإنّ هؤلاء النسوة مُحرَّمات تحريماً مُؤبَّداً. أمّا التحريم المؤقَّت فهو ما يمنع الجمع بينهما، كأخت الزوجة وعمّتها وخالتها. وهذا توضيح كامل وشامل لمعرفة المحرمات الفقهيّة التي وردت في القرآن الكريم.

 

فقه برّ الوالدين:

توضح الآيات الكريمة الإطار العام للإحسان للوالدين وإكرامهما. ومن ذلك قول الله تعالى: (.. إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا) (الإسراء/ 23)، وقول الله سبحانه وتعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا...) (لقمان/ 15). كما تجدر الإشارة، إلى أنّ الأمر بالإحسان إلى الوالدين يأتي مباشرةً بعد الأمر العظيم بعبادة الله تعالى، يقول الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...) (الإسراء/ 23). كما أنّ القيمة العظمَى للإحسان إلى الوالدين، يدل عليها تكرار الأمر بالإحسان إلى الآباء والأُمّهات وباللفظ ذاته: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، الذي ورد في سورة البقرة الآية 83، وسورة النساء الآية 36، وسورة الأنعام الآية 151، وسورة الإسراء الآية 23، فضلاً عن قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) (العنكبوت/ 8)، وقوله عزّ وجلّ: (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا...) (الأحقاف/ 15). في المقابل، نجد أنّ الإسلام حذَّر تحذيراً شديداً من عُقوق الوالدين، جاعلاً إيّاه من أكبر الكبائر، حيث جعله رسول الله (ص) في رتبة بعد الشرك بالله مباشرة، كما جمعه مع قتل النفس واليمين الغموس، إذ قال رسول الله (ص): "ألا أُنَبِّئُكُم بأكبر الكبائر ثلاثاً؟". قُلنا: بلى يا رسول الله. قال: "الإشراكُ بالله وعُقوق الوالدين"، وكان متَّكئاً فجلسَ، وقال: "ألا وقَوْلُ الزُّورِ وشهادة الزُّور"، فما زال يُكرِّرُها حتى قُلْنا لَيْتَهُ سَكَتَ. وفي رواية قال: "الكبائرُ: الإشراك بالله، وعُقوق الوالدين، وقَتْلُ النَّفْسِ، واليَمِينُ الغَمُوسُ".

 

المصدر: مجلة زهرة الخليج/ العدد 1826 لسنة 2014م

ارسال التعليق

Top