• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الرجاء بخالق الخلق

السيد عبدالحسين القزويني

الرجاء بخالق الخلق
    الخوف من الله عزّ وجلّ، لا يعني الهرب منه، بل الهرب إليه، لأنّنا نفرّ من غضب الله وعقابه، إلى رحمته وثوابه، نتقي معاصيه لنجلب مراضيه.

إنّ من طبيعة النفس البشرية، أن تَفرَّ من مصدر الخوف والألم، إلى حيث الأمن والسلامة، فالتخويف من العذاب، هو – في الحقيقة – دعوة إلى الرحمة والرأفة، مثلنا مثل الطفل الذي يخاف إغضاب والديه، ويتجنب ذلك، ليستقر في أحضان حبّهما وعطفهما، فهو يخاف منهما ولكنه في نفس الوقت، يرجوهما ولا يرجو غيرهما.

روي أنّ النبيّ (ص) كان في بعض مغازيه، فبينما هم يسيرون، إذ أخذ بعضهم فرخَ طير، فأقبل أحد أبويه، حتى سقط على يد الذي أخذ فرخه..

فقال (ص): "ضعهنّ عنك، فوضعهنّ، وأبت أمُهنَّ إلّا لزومَهُنّ"!!

فقال النبيّ (ص) لأصحابه: "تعجبون لرحمة أمِّ الفراخ على فراخها؟" قالوا: نعم يا رسول الله.

قال (ص): "فوالذي بعثني بالحقِّ نبيّاً، للهُ أرحم بعباده من أُمّ هؤلاءِ الأفراخ بفراخها"!

إنّ رسول الله (ص)، يريد أن يكرّس معنى الرجاء في أذهان أُمتِهِ، فيرجون الله بحجم ما يخافونه فلا يكونون في خوف دائم، بل يتخلل ذلك نور الأمل والرجاء.

واعلم أنّ الرجاء محمود إلى حدّ، فإن تجاوز إلى الأمن فهو خسران، قال تعالى: (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف/ 99)، وكذا الخوف، محمود إلى حدّ، فإن جاوز إلى القنوط فهو ضلال، قال تعالى: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ) (الحجر/ 56)، أو إلى اليأس فهو كفر، قال تعالى: (ِإِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف/ 87).

وعن الصادق (ع)، قال: كان أبي يقول: "انّه ليس من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وُزِن هذا لم يزد على هذا، ولو وُزِنَ هذا لم يزد على هذا".

انّه (ع)، يعبّر عن الخوف بالنور، وعن الرجاء أيضاً بالنور، لأنّهما متصلان بالله تعالى وما كان متصلاً بالله لا يكون إلا نوراً، ولأنّهما من أهم عوامل هداية البشر، وإصلاح ذاته... انّ الخوف من غير الله لو اعترى النفس أورثها تعتيماً وظلمة، ولكنه لو كان من الله عزّ وجلّ استنارت النفس به، وأخذت بالحيطة والحذر، يضاف إلى ذلك نور الرجاء فتحيى النفس سعيدة راضية هانئة.

وعن أبي عبدالله الصادق (ع) أيضاً، قال:

"إذا أراد أحدكم أن لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه. فليقطع رجاءه من الناس، وليصله به فإذا علم ذلك منه، لم يسأله شيئاً إلا أعطاه".

وقال أمير المؤمنين (ع) لأصحابه: "إن استطعتم أن يشتدّ خوفكم من الله، ويحسُنَ ظنكم به، فاجمعوا بينهما، فإنما يكون حسن ظن العبد بربه على قدر خوفه منه، وإن أحسنَ الناس ظناً بالله، أشدهم خوفاً منه...".

إنّ المؤمن يسمو إلى الله عزّ وجلّ بجناحين، هما: الخوف والرجاء، فإذا استويا بلغ مراتب الإيمان العالية، والقربَ من الله عزّ وجلّ، وإذا انفرد أحدهما دون الآخر، فقد انكسر أحد الجناحين واضطربت النفس، ومالت ذات اليمين، وذات الشمال..

عليه أن يُطعِّمَ قلبه من الرجاء بحجم ما يستقر فيه من الخوف، ويعاين من عفو الله ورحمته وكرمه عند لقائه، بمقدار ما يتوقع من عذابه ونقمته.

يقول القرآن الكريم: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ) (الحجر/ 49-50).

روي أنّ سبب نزول هذه الآية الكريمة: إنّ رسول الله (ص)، مَرَّ بقوم يضحكون فقال: أتضحكون؟ فلو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً! فنزل جبرائيل بهذه الآية.

إنّ النصوص الواردة في إبراز مفهوم الرجاء بالله عزّ وجلّ، وتأكيده لهي أكثر بكثير من تلك التي وردت في الخوف والتحذير، ففي القرآن الكريم – مثلاً – أعطى الله عزّ وجلّ مساحة أكبر وأوسع للرحمة والأمل ممّا أعطى للخوف والخشية!! روي عن أُم سلمة أنها قالت: سمعت رسول الله (ص) يقول:

"إنّ الله ليعجب من يأس العبد من رحمته، وقنوطه من عفوه، مع عظيم سعة رحمته".

وروي أنّ عليّ بن الحسين (ع)، مرَّ برجل يضحك، وقد خولط في عقله. فقال: ما بالُهُ؟ فقالوا: هذا لحقه من قتل نفس، فقال (ع): "والله لقنوطه من رحمة الله أشد عليه من قتله"!!

وقال أمير المؤمنين (ع): "الثقة بالله، وحسن الظن به، حصن لا يتحصن به إلّا كلّ مؤمن، والتوكل عليه نجاة من كلِّ سوء، وحرزٌ من كلِّ عدوّ".

وقال الصادق (ع): "واللهِ ما أعطي المؤمن خير الدنيا والآخرة، إلا بحسن الظن بالله، ورجائه له، وحسن خلقه والكف عن أعراض الناس، فإنّ الله لا يعذب عبداً بعد التوبة والاستغفار، إلا بسوء ظنِهِ وتقصيره في رجائِهِ وسوء خلقه...".

 

المصدر: كتاب رحلة إلى أعماق النفس

ارسال التعليق

Top