• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الذنب يحجب الدعاء

سيد هاشم الرسولي المحلاتي

الذنب يحجب الدعاء
الأخلاق هدف الإسلام الكبير: "إنّما بُعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق"، وهو الساحة الكبيرة الهامة التي يحتاج إليها المسلمون أيّما إحتياج، وهو الساحة التي تجمع المذاهب الإسلامية على صعيدها، وتوحِّد بين قلوبهم وأعمالهم وتوجههم إلى مثلهم الأعلى المطلق الكبير، وهو الله سبحانه.   -        من آثار الذنب: في المرحلة الأولى: سلب توفيق الدعاء. وفي المرحلة الثانية: عدم إستجابته. هذه الحقيقة وردت على لسان عظماء الإسلام في روايات كثيرة. وقبل أن نذكر هذه الروايات، نوضِّح بإختصار مفهوم الدعاء، وآثاره على الروح والجسم، وأهميّته في جميع شؤون حياة الإنسان، كي يتضح أكثر معنى الروايات الإسلامية في هذا الحقل، وتزول كل شبهة بشأن سبب عدم استجابة الدعاء.   -        ما هو الدعاء؟ الدعاء في اللغة النداء، ودعاء العبد ربّه أن يناديه لطلب، أو لقربة. قال سبحانه: (وَاصبِرْ نَفسَكَ مَعَ الذينَ يَدعُونَ رَبَّهُم بالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجهَهُ) (الكهف/ 28). وقال سبحانه: (أمََن يُجِيبُ المُضطَرَّ إذا دَعَاهُ ويَكشِفُ السُّوءَ) (النمل/ 42). وقال سبحانه: (ادعُو رَبَّكُم تَضَرُّعاً وخُفيَةً إنّهُ لا يُحِبُّ المُعتَدِينَ) (الأعراف/ 55). وفي هذه الآيات وغيرها ورد الدعاء بمعنى النداء، وهكذا في الروايات، وليس معناه (الطلب) كما يتبادر إلى الأذهان اليوم. ولعل الشريعة أقرّت الدعاء من أجل أن يرتبط العبد بربّه ويستمد منه في كل الأحوال، ويذكره دائماً، وهذا نوع من العبادة. ورسول الله (ص) يقول: "الدعاء مخ العبادة". والقرآن الكريم سمّى الدعاء عبادة: (ادعُوني أستَجِب لَكُم إنّ الذينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنّمَ داخِرِينَ) (المؤمن/ 60). والعبادة في الآية هي الدعاء كما ورد في تفسيرها عن رسول الله (ص)، وعن الإمام علي بن الحسين (ع).   -        الدعاء سلاح المؤمن: الدعاء – إذن – نوع من العبادة والإرتباط بين العبد وربّه، وهذا الإرتباط له الأثر الكبير في بث الطمأنينة في نفس الإنسان، وأولئك المحرومون من هذه العبادة فاقدون لسند عظيم وعون كبير في مواجهة المشاكل، فهم كمن هو في الهيجا بدون سلاح. يقول رسول الله (ص): "الدعاء سلاح المؤمن". ويقول أمير المؤمنين علي (ع): "الدعاء تُرس المؤمن". ويقول الإمام علي بن موسى الرضا (ع) لأصحابه: "عليكم بسلاح الأنبياء"، فقيل: وما سلاح الأنبياء؟ قال: الدعاء". وروي عن رسول الله (ص) قوله: "ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من عدوّكم ويدرّ رزقكم؟"، قالوا: نعم، قال: "تدعون بالليل والنهار، فإن سلاح المؤمن الدعاء". وعن علي (ع): "ادفعوا أمواج البلاء بالدعاء". لو أمعنا النظر في هذه الأحاديث وأمثالها، لألفينا أنّ الدعاء له أثر نفسي عظيم، سواء أطلب الإنسان في دعائه من الله شيئاً أم لم يطلب. وهذه حقيقة فهمها علماء النفس اليوم بوضوح وكتبوا حولها المقالات والبحوث القائمة على أساس الإحصائيات. لقد دلت هذه الإحصائيات على أنّ الذين يعيشون عالم الإتصال بالله قلَّما يعتريهم اليأس والسأم. وقلَّما ينهزمون أمام الحوادث المؤلمة، وقلَّما يفقدون الآمال في المستقبل. هذه الحقيقة قررها الإمام محمد بن علي الباقر (ع) في حديث مخاطباً أحد أصحابه: "ألا أخبرك بما فيه شفاء من كل داء حتى السأم؟"، قال: بلى، قال: "الدعاء".   -        الدعاء في جميع الأحوال: لم يشرَّع الدعاء لمواقع الشدّة والضنك كما يتبادر إلى أذهان بعض الناس، والله سبحانه ذمّ أولئك الذين لا يدعون ربّهم إلا في حالات الضرِّ، قال: (وإذا مَسَّ الإنسانَ الضُرُّ دَعانا لِجَنبِهِ أو قاعِداً أو قائِماً فلمّا كَشَفنا عَنهُ ضُرَّهُ مَرَّ كأن لَم يَدعُنا إلى ضُرٍّ مَسَّهُ كذلكَ زُيِّنَ لِلمُسرِفِينَ ما كانوا يَعمَلُونَ) (يونس/ 10). ويقول سبحانه في موضع آخر: (وإذا أنعَمنا على الإنسانِ أعرَضَ ونأى بِجانِبِهِ وإذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاء عَرِيضٍ) (فصِّلت/ 51). وهذا المعنى ورد أيضاً في آيات أُخر من سورة يونس، والروم، ولقمان، والعنكبوت. وفي الروايات حثّ أئمة الدين على الدعاء في كل حال، في الشدة والرخاء، وروي أنّ الداعي في وقت الشدّة فقط لا يستجاب له دعاء: "عن أبي عبدالله (ع) أنّه قال: مَن تقدّم في الدعاء استُجيب له إذا نزل به البلاء، وقالت الملائكة صوت معروف ولم يُحجَب عن السماء، ومَن لم يتقدّم في الدعاء لم يُستجب له إذا نزل البلاء، وقالت الملائكة: أنّ ذا صوت لا نعرفه". وفي رواية أخرى: "قيل: أين كنت قبل اليوم". وعنه (ع) أيضاً: "من سرّهُ أن يستجاب له في الشدة فليكثر الدعاء في الرخاء". وعن الإمام موسى بن جعفر (ع): "كان علي بن الحسين (ع) يقول: الدعاء بعدما ينزل البلاء لا ينفع". وفي الحديث القدسي: "أوحى الله إلى داود صلوات الله عليه: اذكرني في أيام سرّائك حتى أستجيب لك في أيام ضرّائك". مما تقدّم، نفهم واحداً من أسباب عدم استجابة الدعاء، فالهدف من كل هذا التأكيد على الدعاء هو توثيق العلاقة بين العبد وربّه، كي يكون العبد قوياً واثقاً متكلاً على الله حين تواجهه الشدائد وتلاقيه الصعاب، وكي لا يعتريه الضعف والوهن والهزيمة.   -        الذنب يقطع ارتباط العبد بربّه: بعد أن اتضحت إلى حدٍّ ما أهميّة الدعاء والإرتباط بالله سبحانه في حياة الإنسان وتكييف شخصيته، نعود إلى أصل بحثنا، فنقول: إستناداً إلى ما ورد من أحاديث وروايات عن أئمة الدين، فإنّ الذنب هو من العوامل المؤثرة الخطرة القادرة على قطع ارتباطنا بالله، وعلى سلب توفيق الدعاء منّا، وحرماننا من نِعَمِه وعطاياه. هذه الحقيقة عبّرت عنها الأحاديث بأساليب متعددة، منها عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) أنّه قال: "كان أبي يقول: ما من شيء أفسد للقلب من خطيئته، إنّ القلب ليواقع الخطيئة فلا تزال به حتى تغلب عليه فتصير أعلاه أسفله". وعنه (ع) أيضاً قال: "إذا أذنب الرجل خرجت في قلبه نقطة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً". وفي حديث آخر، قال (ع): "أنّ الله أوحى إلى داود: إنّ أدنى ما أنا صانع بعبد غير عامل بعلمه من سبعين عقوبة باطنية أن أنزع من قلبه حلاوة ذكري". وجاء رجل إلى أمير المؤمنين علي (ع)، فقال: يا أمير المؤمنين، إنِّي قد حرمت الصلاة بالليل، قال: فقال أمير المؤمنين (ع): "أنت رجل قد قيّدتك ذنوبك". وعن الصادق (ع) أيضاً: "إنّ الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل وإنّ العمل السيَّئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم".   -        الذنب يمنع إستجابة الدعاء: وهنا نبحث عن العوامل التي تحول دون استجابة الدعاء بعد أن يحصل الإنسان على توفيق الدعاء. في دعاء (كميل) عبارات ترتبط بموضوعنا، مثل: "اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء". ومثل: "سأسألك بعزّتك أن لا يحجب عنك دعائي سوء عملي وفعالي".   -        سؤال موجَّه إلى أمير المؤمنين (ع): خطب علي (ع) الناس يوم الجمعة، فقال في نهاية خطبته: "أيُّها الناس، سبع مصائب نعوذ بالله منها: عالم زلَّ، وعابد ملَّ، ومؤمن خلَّ، ومؤتمن غلَّ، وغني أقلَّ، وعزيز ذلَّ، وفقير اعتلَّ". فقام إليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، لِمَ لا تستجاب دعواتنا وقد قال الله سبحانه: (ادعوني أستجب لكم)؟! أجاب الإمام (ع): "إنّ قلوبكم خانت بثماني خصال: أوّلها: إنّكم عرفتم الله فلم تؤدّوا حقّه كما أوجب عليكم، فما أغنت عنكم معرفتكم شيئاً. والثانية: إنّكم آمنتم برسوله ثمّ خالفتم سنّته وأمتّم شريعته، فأين ثمرة إيمانكم؟! والثالثة: إنّكم قرأتم كتابه المنزل عليكم فلم تعملوا به، وقلتم سمعنا وأطعنا ثمّ خالفتم! والرابعة: إنّكم قلتم تخافون من النار، وأنتم في كل وقت تقدمون إليها بمعاصيكم، فأين خوفكم؟! والسادسة: إنّكم أكلتم نعمة المولى فلم تشكروا عليها! والسابعة: إنّ الله أمركم بعداوة الشيطان، وقال إنّ الشيطان لكم عدوٍّ فاتخذوه عدواً، فعاديتموه بلا قول وواليتموه بلا مخالفة. والثامنة: إنّكم جعلتم عيوب الناس نصب أعينكم وعيوبكم وراء ظهوركم، تلومون من أنتم أحق باللوم منه. فأي دعاء يستجاب لكم مع هذا وقد سددتم أبوابه وطرقه؟ فاتقوا الله وأصلحوا أعمالكم، وأخلصوا سرائركم وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فيستجيب لكم دعاءكم".   -        كيف يتجه المذنب إلى ربّه؟ عَلَّمنا الإسلام أن ندعو الله بالإعتراف أوّلاً بذنوبنا، ونستغفر الله منها، ونطلب منه العفو، ثمّ نقدم بين يديه حاجاتنا.   -        تعاليم الإمام الصادق (ع) في هذا المجال: جاء رجل إلى الإمام الصادق (ع)، فقال له: آيتان في كتاب الله لا أدري ما تأويلهما. قال الإمام: "وما هما؟". قال: قوله تعالى (ادعوني أستجب لكم) ثمّ أدعو، فلا أرى الإجابة. قال له الإمام: "أفترى الله تبارك وتعالى أخلف وعده؟". قال: لا. قال: "الآية الأخرى؟". قال الرجل: قوله تعالى (وَما أنفَقتُم مِن شيءٍ فهوَ يُخلِفُهُ وهوَ خَيرُ الرَّازِقِينَ)، فأنفق فلا أرى خلفاً. قال: "أفترى الله أخلف وعده؟". قال: لا. قال: "فلِمَ؟". قال: لا أدري! قال الإمام الصادق (ع): "لكني أخبرك إن شاء الله تعالى، أما إنّكم لو أطعتموه فيما أمركم به ثمّ دعوتموه لأجابكم لكنكم تخالفونه وتعصونه فلا يجيبكم. وأما قولكم تنفقون فلا ترون خلفاً، أما إنّكم لو كسبتم المال من حلّه ثمّ أنفقتموه في حقّه، لم ينفق رجل درهماً إلا أخلفه الله عليه. ولو دعوتموه من جهة الدعاء لأجابكم وإن كنتم عاصين". قال الرجل: وما جهة الدعاء؟ قال الإمام (ع): "إذا أدّيت الفريضة مجّدت الله وعظّمته، وتمدحه بكل ما تقدر عليه وتصلِّي على النبي (ص)، وتجتهد في الصلاة عليه، تشهد به بتبليغ الرسالة، وتصلِّي على أئمة الهدى (ع)، تذكر بعد التحميد لله والثناء عليه، والصلاة على النبي (ص) ما أبلاك وأولاك، وتذكر نعمه عندك وعليك، وما صنع بك، فتحمده، وتشكره على ذلك، ثمّ تعترف بذنوبك ذنب ذنب، وتقرّ بها أو بما ذكرت منها، وتجمل ما خفي عليكم منها، فتتوب إلى الله من جميع معاصيك، وأنت تنوي أن لا تعود، وتستغفر منها بندامة وصدق نية وخوف ورجاء ويكون من قولك: أللهمّ إنِّي أعتذر إليك من ذنوبي وأستغفرك وأتوب إليك، فأعني على طاعتك، ووفّقني لما أوجبت عليَّ من كل ما يرضيك، فإنِّي لم أر أحداً بلغ شيئاً من طاعتك إلا بنعمتك عليه قبل طاعتك، فأنعم عليَّ بنعمة أنال بها رضوانك والجنّة، ثمّ تسأل بعد ذلك حاجتك فإنِّي أرجو أن لا يخيبك إن شاء الله تعالى". وفي هذا المجال، وردت روايات أخرى تؤمِّل المذنبين كي لا يتسرّب اليأس إلى نفس المذنب ولا ينصرف عن الدعاء. مما تقدّم نفهم أنّ أحد موانع طريق استجابة الدعاء الذنب، ونذكر هنا بعض ألوان الذنوب التي تحول دون إستجابة الدعاء: عن الإمام علي بن الحسين السجاد (ع) أنّه قال: "والذنوب التي تردّ الدعاء وتظلم الهواء: عقوق الوالدين". وعنه (ع) أيضاً: "والذنوب التي تردّ الدعاء: سوء النيّة، وخبث السريرة، والنفاق مع الإخوان، وترك التصديق بالإجابة، وتأخير الصلوات المفروضات حتى تذهب أوقاتها، وترك التقرُّب إلى الله عزّوجل بالبرّ والصدقة، واستعمال البذاء والفحش في القول". والذنوب عامة لها أثر في منع استجابة الدعاء كما مرّ في الروايات السابقة.   -        الشروط الأخرى لإستجابة الدعاء: من أجل أن لا يتصوّر أحد أنّ المانع الوحيد لإستجابة الدعاء هو الذنب، ولنجيب على سؤال مَن يقول لماذا لا تستجاب أحياناً دعوة أولياء الله والمعصومين، أو تتأخر استجابتها؟ نتحدّث هنا بإختصار عن الشروط الأخرى لإستجابة الدعاء، ذاكرين بعض الآيات والروايات في هذا المجال، ولا نستطيع هنا أن نفصل الحديث في هذا الموضوع لأنّه خارج عن بحثنا، ولأنّ التنفصيل فيه يحتاج إلى كتاب مستقل:   1- أن يكون الدعاء صادراً من أعماق الإنسان، لا أن يكون مجرد لقلقة لسان: أي أن يكون كل وجود الإنسان طلباً من الله وتوجّهاً إليه، وهذا ما نفهمه من قوله سبحانه: (أمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إذا دَعَاهُ وَيَكشِفُ السُّوءَ) (النحل/ 62). فهذا المضطر يتجه بالدعاء عادة بكل وجوده ويصدر الدعاء من أعماق قلبه. ونستطيع أن نفهم هذا المعنى أيضاً من قوله سبحانه: (وإذا سَألَكَ عِبادي عنِّي فإنِّي قريبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ فَليَستَجِيبُوا لي وليؤمِنوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ) (البقرة/ 186). وعبارة (إذا دعان) تفهم الدعوة الحقيقية كما يقول المفسِّرون، كقولنا: أكرم العالم إذا كان عالماً، أي إذا كان عالماً واقعياً. وتشير الروايات أيضاً إلى هذه الحقيقة، ففي حديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): "إنّ الله لا يستجيب دعاءً بمظهر قلب ساده، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثمّ استيقن الإجابة". وعنه (ع) أيضاً: "إذا دعوت فأقبل بقلبك فظنّ حاجتك بالباب". وقد عبّر الإمام الصادق (ع) عن هذا المفهوم بأسلوب آخر، فقال: "إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربّه شيئاً إلا أعطاه فلييأس من الناس كلهم ولا يكون له رجاء إلا من عند الله، فإذا علم ذلك من قلبه لم يسأله شيئاً إلا أعطاه".   2- الدعاء لا يعوِّض عن العمل: إذا كان بالإمكان تحقيق أمر من الأُمور بالعمل، فلا يجوز الإكتفاء بالدعاء، إذ إنّ الدعاء لا يعوض عن العمل. ليس الدعاء أن نجلس متقاعسين، ثمّ نرفع عقيرتنا بالدعاء أن ينجز الله أعمالنا! قال رسول الله (ص): "الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر". ذلك لأنّ الله أبى إلا أن تجري الأُمور بأسبابها وعللها، ولا يجوز أن نأمل من الدعاء نتيجة تخالف سنن الكون. لابدّ من العمل أوّلاً، ثمّ الدعاء. لابدّ من حرث الأرض ونثر البذور وسقيها ثمّ بعد ذلك الدعاء. قال الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): "أربعة لا يستجاب لهم دعاء: -        رجل جالس في بيته يقول: يا رب ارزقني، فيقول له: ألم آمرك بالطلب؟ -        ورجل كانت له امرأة فدعا عليها فيقول: ألم أجعل أمرها بيدك؟ -        ورجل كان له مال فأفسده، فيقول: يا رب ارزقني، فيقول له: ألم آمرك بالإقتصاد؟ ألم آمرك بالإصلاح؟ ثمّ قرأ: (والذينَ إذا أنفَقُوا لَم يُسرِفوا ولَم يَقتُرُوا وكانَ بَينَ ذلكَ قَوَاماً). -        ورجل كان له مال فأدانه بغير بيِّنة، فيقول: ألم آمرك بالشهادة؟". سيرة رسول الله وأولياء الله الصالحين تعلّمنا أنّ الدعاء لا يغني عن العمل. فرسول الله (ص) في غزواته كان يفعل ما يفعله كل قائد محنّك خبير في الحروب من تنظيم لقواته وانتخاب للمكان والزمان المناسبين للحرب، وتجهيز لأفراد. كل ذلك يفعله، ثمّ يرفع يديه متضرِّعاً إلى الله سبحانه أن ينصر المسلمين.   -        الإخلاص في الدعاء: من شروط إستجابة الدعاء هو الإتجاه إلى الله بقلب مخلص مؤمن واثق بالإجابة. من هنا جاء الحث على الدعاء بعد الصلاة، لأنّ الصلاة تمهِّد القلب للخلوص في الدعاء. قال رسول الله (ص): "مَن أدّى فريضة فله عند الله دعوة مستجابة". وعن الإمام الصادق (ع): "إذا رقّ أحدكم فليدع، فإنّ القلب لا يرقّ حتى يخلص". وعن رسول الله (ص): "اغتنموا الدعاء عند الرقّة، فإنّها رحمة". وعن أبي عبدالله الصادق (ع): "إذا دعوت فظنّ حاجتك بالباب". ولعل هذا الحديث عن الرسول (ص) يشير إلى هذا المعنى، إذ يقول: "ثلاث دعوات مستجابات لا شكَّ فيهنّ: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده". وفي روايات أُخر، أضاف: دعوة الصائم، والمحارب في سبيل الله، والمريض والحاج. ولعل الجامع بين كل هؤلاء هو ما ذكرناه من خلوص القلب وصفاء النفس.   -        ملاحظات حول الدعاء: 1- قد تتوفّر في نظرنا كل شروط الدعاء، لكن إستجابته ليست من مصلحتنا ولا من مصلحة الآخرين، لأنّنا لا نحيط بما يضرّنا وما ينفعنا على الصعيد الفردي والإجتماعي، فقد نُصرُّ على تحقيق أمر لو انكشفت لنا عواقبه ما طلبناه: (عَسَى أن تَكرَهُوا شَيئاً وهوَ خَيرٌ لَكُم وعَسَى أن تُحِبُّوا شَيئاً وهوَ شَرُّ لَكُم واللهُ يَعلَمُ وأنتُم لا تَعلَمُونَ) (البقرة/ 216). 2- قد نطلب شيئاً ونسأل الله تحقيقه، ويتضرّع آخر إلى الله طالباً عدم تحقيقه. جاء في حديث عن الإمام الصادق (ع): "كان في بني إسرائيل رجل له إبنتان، فزوَّج إحداهما من رجل زرّاع، وزوج الأخرى من رجل فخّار، ثمّ زارهما فبدأ بإمراة الزراع، فقال لها: كيف حالكم؟ فقالت: قد زرع زوجي زرعاً كثيراً، فإن أرسل الله السماء فنحن أحسن بني إسرائيل حالاً، ثمّ مضى إلى إمراة الفخّار، فقال لها: كيف حالكم؟ فقالت: قد عمل زوجي فخاراً كثيراً، فإن أمسكت السماء فنحن أحسن بني إسرائيل حالاً، فانصرف وهو يقول: أللهمّ أنت لهما، وكذلك نحن". 3- قد ندعو ويستجاب الدعاء، ولكن تحققه في الواقع الخارجي يتأخر لمصلحة من المصالح، خلافاً لرغبتنا في الإستعجال. وقد يحدث هذا للأنبياء كما في قصة موسى وهارون إذ تضرَّعا إلى الله، وقال موسى: (رَبَّنا إنّكَ آتَيتَ فِرعَونَ ومَلأَهُ زِينَةً وأموالاً في الحَيَاةِ الدُّنيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنا اطمِس على أموالِهِم واشدُد على قُلُوبِهِم فَلا يُؤمِنوا حتّى يَرَوا العَذابَ الألِيمَ)، ثمّ قال لهما الله: (... قد أجيبت دعوتكما). وعن الإمام الصادق (ع): "إنّ المدة بين هذه الإستجابة وغرق فرعون أربعون عاماً!". وفي بعض الروايات إنّ المدة تستغرق عشرين عاماً أو أكثر أو أقل.   -        خلاصة القسم الثالث: 1- الذنب – في المرحلة الأُولى – يحرم الإنسان من أعظم نعم الحياة.. من نعمة الدعاء والتضرُّع والإرتباط بالله. 2- الدعاء والإرتباط بالله يصعِّد مقاومة الإنسان وصموده أمام الهزات والحوادث. 3- الذنب – في المرحلة الثانية – يمنع إستجابة الدعاء. 4- على المذنب أن يستغفر أوّلاً، ثمّ يدعو ليستجاب دعاؤه. 5- الذنوب التي تمنع استجابة الدعاء هي بالدرجة الأُولى: عقوق الوالدين، والخبث، والنفاق، وعدم الإيمان بإستجابة الدعاء، وتأخير الصلاة عن أوقاتها، والبذاء والفحش في القول. 6- طهارة النفس ليست وحدها شرطاً لإستجابة الدعاء، بل هناك شروط أخرى. 7- قد تتوفر جميع الشروط ولا يستجاب الدعاء، ولكن لا يجوز اليأس من الدعاء في أي وقت من الأوقات. 8- الدعاء على أي حال له تأثيره.   المصدر: مجلة ثقافة التقريب/ العدد 19 لسنة 2008م  

ارسال التعليق

Top