• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المرأة القرآنية

السيد مالك السماوي

المرأة القرآنية

الحضور الاجتماعي:

لم يمنع القرآن الكريم المرأة من القيام بمسؤولياتها الاجتماعية والسياسية وحتى الجهادية القتالية فيما لو اقتضت الأمور ذلك... بل أعلى للمرأة دورها الفاعل في المجتمع لتصبح جنباً إلى جنب مع الرجل في ساحات العطاء والجهاد والمسؤولية.

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 71).

من خلال هذه الآية المباركة نستطيع أن نفهم دور المرأة في المجتمع ومدى ما تضطلع به من مسؤولية كبيرة تاريخية وحضارية في صيانة المجتمع والمحافظة على نظافته وطهارته وصلاحه. ذلك لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يقوم به المؤمنون نساءً ورجالاً... ويعملوا معاً من أجل إحياء تلك الفريضة الربانية التي هي الأساس في قيام المجتمع الخير وسؤدده (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران/ 110).

وإننا إذا تدبرنا هذه الآية المباركة لأدركنا سر تقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله... يقول السيد محمّد باقر الصدر (رحمه الله) في كتابه القيم "الإسلام يقود الحياة":

وقد جعل الإيمان بالله الخصيصة الثالثة للأُمّة الإسلامية بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تأكيداً على أنّ المعنى الحقيقي للإيمان ليس هو العقيدة المختصة في القلب، بل الشعلة التي تتقد وتشع بضوئها على الآخرين.

من هذا المنطلق ندرك أنّ المرأة المؤمنة التي تكون بعيدة عن ممارسة دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع، إنما هي امرأة لا تعيش المسؤولية.. ولا تعيش الإيمان الفاعل الحي المتقد... بل تعيش الإيمان المحنط والعقيدة المحنطة، مما يجعلها لا تلتفت إلى المفاسد الاجتماعية والسياسية التي تحيط بها من كلِّ مكان.

 

المواصفات العشر:

إنّ البعض وبتأثير النظرة المتخلفة التي يعيشها عن دور المرأة في الحياة، وعدم إدراكه لمسؤولياتها الاجتماعية التي رسمها لها القرآن الكريم، يرى أنّ من الضروري أن تبقى المرأة بعيدة عن الأجواء السياسية والاجتماعية وبعيدة عن ساحة الصراع وميدان المواجهة... وكأنّه لم يقرأ قوله تعالى:

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

ولم يقرأ – كذلك – قوله تعالى:

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب/ 35).

هكذا تتم المؤازرة بين المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ليواجهوا مسؤولياتهم ويقفوا أمام التحديات بكلِّ صلابة وقوة وصبر وعفة. فإنّ اضطلاع النساء بالمسؤولية الاجتماعية لا يعني على الإطلاق فقدانهنّ لعفافهنّ وحيائهنّ وشرفهن كما قد يتصور البعض من الذين لا يفهمون ما رسمه القرآن لهن من دور كبير، ومسؤوليات جسام. فقد أراد القرآن للمرأة أن تتحرك بإنسانيتها لا بأنوثتها، كما وأراد للرجل أن يتحرك بإنسانيته لا بذكوريته... أن تقوم المرأة بدورها كمسلمة مؤمنة قانتة صادقة صابرة خاشعة متصدقة صائمة حافظة ذاكرة.

إنها عشر مواصفات ينبغي أن تتصف بها المرأة القرآنية حتى يكتمل إيمانها، وتقوم بدورها المرسوم لها من قبل الله سبحانه... وليس ما يرسم لها المجتمع الراكد الذي قد يتحرك باسم الإسلام... مما يؤدي إلى الإساءة إلى الإسلام والقرآن.

 

الموقف البطولي:

ولم يكتف القرآن الكريم بإعطاء المواصفات والمفاهيم، بل أعطى لنا النماذج النسوية المجاهدة التي حققت حضوراً في الساحة وقامت بدورها الرائع في الاضطلاع بمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وذلك من خلال امرأة عاشت أجواء القصور والبذخ والترف وبأقصى درجاته.. كما عاشت النعمة المادية بأعلى مظاهرها.. بَيْدَ أنها لم تستسلم لكلِّ تلك المظاهر التي تستهوي النساء عادةً. بل إنها رفضت زوجها وما يتمتع به من مقام ومنزلة.. لما شاهدته من المظالم والجرائم التي يرتكبها بحقِّ المستضعفين والمؤمنين. ولهذا رفعت امرأة فرعون (آسية بنت مزاحم) شعارها الرافض للفرعونية بقولها:

(رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ)! (التحريم/ 11).

إنّه الموقف البطولي الذي سجله القرآن الكريم بأحرف من نور لتلك المؤمنة الصالحة التي رفضت كلّ ما كانت عليه من ترف وزينة ورفاهية وسعادة ظاهرية، فكانت بحقِّ الأسوة والقدوة لكلِّ النساء المجاهدات الآمرات بالمعروف والناهيات عن المنكر.

لقد كانت تعلم ما ستلاقي من محن وآلام ومصاعب تجاه رفضها هذا، وتجاه موقفها الإيماني الرافض للمنكر.. وهي تعلم جيداً قسوة فرعون ومدى طغيانه.. وهكذا اتخذت الموقف الصارم والحاسم لتكون حجة على كلِّ النساء اللواتي يقفن الموقف المتخاذل تجاه ظلم أزواجهن.

وبذلك أثبتت امرأة فرعون قدرة المرأة على اتخاذ الموقف الإنساني السليم والقويم رغم خطوط الضغط الكبيرة.. ورغم ما كانت عليه من مظاهر الترف والنعيم.

ولهذا فقد أصبحت تلك المرأة قدوة للرجال والنساء على حد سواء:

(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (التحريم/ 11).

قد أعلنت براءتها الثلاثية حتى لا تلحقها تبعة ومسؤولية.. براءة من فرعون الطاغية أوّلاً، وبراءة من ظلمه وإجرامه ثانياً، وبراءة من ملأه وجلاوزته وقومه ثالثاً.

لقد استعلت هذه المرأة المؤمنة الصالحة المجاهدة على كلِّ خطوط الضغط الكبيرة التي كانت تتحداها، ورفضت كلّ هواتف الشهوة والترف والزينة التي تحيط بها من كلِّ جانب ومكان.. وقامت وحدها في تلك الأجواء الظالمة لتعلن رفضها وبراءتها وانقطاعها عن الظلم والظالمين.

ولهذا فلا عجب أن تكون آسية بنت مزاحم من ضمن النساء الأربع اللواتي اختراهن الله تعالى، فقد جاء في حديث عن النبي (ص): "إنّ الله تعالى اختار من النساء أربع: مريم وآسية، وخديجة، وفاطمة".

 

بطلة كربلاء المعاصرة:

لقد لعبت زينب ابنة عليّ (ع) دوراً رائداً في ثورة كربلاء.. فكانت بحقِّ تلك البطلة التي يرهبها الأعداء.. والتي لم تنكسر قط رغم ما عاشته من محنة قاسية، ومشاهد دامية.. لقد لخصت كلِّ ما رأته من خلال جوابها على سؤال ابن زياد الذي قال لها: "كيف رأيت صنع الله بك وبأهلك؟" فقالت زينب (ع):

"ما رأيت إلّا جميلا"!!

كانت ترى كلّ تلك المشاهد القاسية الدامية في منتهى الروعة والحسن والجمال.. ما دامت في سبيل الله.. وفي سبيل رفض الطاغوت، وهكذا خاطبت يزيد الطاغية في الشام وفي مجلسه:

"يا يزيد.. ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك"!!

وفي واقعنا المعاصر لا تزال المرأة المؤمنة تقوم بدور مشرف في هذا المجال، ولعل أروع موقف معاصر للمرأة المسلمة هو ما عبرت عنه إحدى العاملات المجاهدات بالموقف كما بالعشر حيث تقول:

أنا كنت أعلم أنّ درب الحقِّ بالأشواك حافل

خالٍ من الريحان ينشر عطره بين الجداول

وكانت تنشد:

إسلامنا أنت الحبيب *** وكلّ صعب فيك سهل

ولأجل دعوتك العزيزة *** علقم الأيام يحلو

لقد جسدت بحقِّ دور المرأة القرآنية الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر.. كانت المصداق الرائع لقوله تعالى:

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

 

المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 61 و62 لسنة 1996م

ارسال التعليق

Top