• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

جوهر التربية والتعليم على أساس التقوى

جميلة علم الهدى

جوهر التربية والتعليم على أساس التقوى

جرت العادة عند تعريف ماهية التربية الإسلامية وتبيينها، على التركيز على مفهوم العبودية والاستناد إلى الآية (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، ولكن فقد استُخدِمَ مفهوم العبودية في القرآن الكريم ليشير إلى العبودية لغير الله أيضاً كعبودية الملائكة[1] أو الشيطان[2] وغير ذلك. بل وتعرّض القرآن الكريم إلى عبودية الله سبحانه بأشكال مختلفة أيضاً كالعبودية التكوينية لجميع الموجودات[3] أو العبودية لله تعالى عن طريق عبادة غيره[4]. أي، أنّ مفهوم العبودية لا يشير بشكل خاصّ إلى سلوك معيّن أو حالة محدّدة ومتميّزة للإنسان المؤمن.

ويتبيّن من إعلان جميع مَن في السماوات والأرض العبودية لله تعالى والاعتراف بها، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات والفروقات الواضحة بين تلك الموجودات، يتبيّن أنّ ذلك أنّ للعبودية صوراً مختلفة وأشكالاً متباينة. ولمّا كان الاختلاف والتنوّع القائم بين الموجودات نابعاً من اختلاف مراتبها الوجودية فإنّ تنوّع أشكال العبودية يُفَسَّر كذلك بأنّه نوع من الاختلاف في المراتب؛ وبالتالي يمكن اعتبار العبودية حقيقة متعدّدة المراتب أو حقيقة تشكيكيّة على الرغم من أنّها موجودة بالفعل في جميع الموجودات، لكنّها تبقى مختلفة بالنظر إلى كمالها الوجوديّ. وهذا يعني أنّ الموجودات، بدءاً من الأجسام المادية وانتهاءً بالملائكة المقرّبين والأنبياء والصالحين، قد حصلت على درجات متباينة من العبودية لله سبحانه. وأمّا نحن بني البشر فقد حصلنا على العبودية التكوينيّة بشكل ذاتي ولا إرادي، حيث يحتلّ كلّ منا منزلة خاصة في عالم التكوين باعتباره عضواً من أعضاء هذا العالم المخلوق، فكلّ جزء من أجزاء وجودنا يُقرّ ويعترف بالعبودية لله تعالى[5]. بل وإنّ الكثير من أفعالنا الإرادية كالعمل والقول والمزاج والرأي، لا تخرج عن قدرة الحق حتى مع الأخذ بعين الاعتبار البحوث المتعلقة بالتوحيد الأفعالي. فكلّما سقط الإنسان وهوى في مرحلة من مراحل السلوك الشيطاني أو العصيان فإنّه لن يجد مفرّاً من الاستسلام لإرادة الله سبحانه، والإذعان تماماً لقدرته كما يفعل الشيطان نفسه، ليغدو بعد ذلك العبد التكويني للحقّ تعالى[6]. إذاً، فما يهمّنا من العبودية لله ليس هو الجزء المتعلّق بالعبودية العامة والشاملة الجارية في جميع الموجودات، بل مرحلة مُعيّنة أو مظهراً خاصّاً من مظاهر العبودية؛ وهكذا، فلا يمكن اعتبار جميع مظاهر العبودية أو جميع مراتبها هدفاً للتربية الإسلامية لأنّ هذه الأخيرة تركّز على جانب معيّن من العبودية يكون مختلفاً ومتفاوتاً نظراً لخصائص الإنس ومميّزاته بالقياس مع الجنّ، ويكون مختلفاً ومتفاوتاً حتى عن عبودية كلّ منهما المُشار إليها بشكل متواز في الآية (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ). ومن الواضح أنّ هذه المرتبة الخاصّة من العبودية تنعكس كذلك على مفهوم التقوى، حيث أشارت بعض آيات القرآن الكريم إلى أنّ العبودية هي تمهيد للدخول إلى التقوى، مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 21). إلا أنّ التقوى بحدّ ذاتها، تُعدّ أرضيّة للوصول إلى السعادة، أو كما يُعبّر عنها القرآن الكريم بـ(الفلاح) و(الفوز)[7]، وما ذلك الفلاح أو الفوز إلا الراحة الأبدية واللّذة القصوى. ومن هنا نلاحظ أنّ بعض الآيات تشير إلى الابتعاد عن الآلام والأحزان والخوف والوصول إلى حياة الفردوس والفوز بالأجر العظيم، والحصول على رضا الحقّ ومحبّته، وإدراك الفرقان والمعرفة، ونيل المغفرة والعفو والشكر وبركات السماء والأرض، تشير إلى كلّ ذلك على أنّه من مكوّنات الفلاح والفوز وأشكالهما التفصيليّة[8]. وبشكل عامّ فإنّه من خلال إجراء مقارنة بين استخدامات القرآن الكريم لمفهوم التقوى ومفهوم العبودية يتبيّن لنا أنّ اهتمام القرآن ينصبّ على التركيز على مفهوم التقوى أكثر من المفاهيم الأخرى – بما فيها العبوديّة – وخاصّة في البحوث التي تتناول الموضوعات التربوية والأخلاقية، وذلك لأنّ استخدام مفهوم التقوى يقتصر فقط على أمور البشر وشؤونهم، لا سيّما المؤمنون منهم، في حين أنّ مفهوم العبوديّة قد يشمل جميع أفراد البشر بمن فيهم المؤمنون وغير المؤمنين. يُضاف إلى ذلك أنّه عادة ما تصاحب الدعوة إلى التقوى أو المفاهيم التي تؤلّف عناصر التقوى ومكوّناتها الدعوة إلى العبودية كذلك[9]. وتشير بعض الآيات القرآنيّة مثل قوله تعالى: (.. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) (المؤمنون/ 32)، إلى وجود علاقة وطيدة بين العبادة والتقوى[10]، وهكذا فإنّ هذا التمازج والانصهار بين كلّ من عناصر التقوى وعناصر العبودية يحول دون تقدّم أحدهما على الآخر، وبالتالي لا يمكن بسهولة اعتبار أحدهما مقدّمة والآخر بمثابة نتيجة له. غير أنّه في الآيات التي جاء فيها ذِكر العبادة والتقوى جنباً إلى جنب، فإنّ العبادة تعني هنا الدعاء والابتهال في حين يكون معنى التقوى هو العبادة العملية – كما يُصطلح عليه – وهو ما أورده صاحب "تفسير الميزان" كذلك في ذيل تفسيره للآيتين (2) و(3) من سورة نوح: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ). حيث قال العلامة الطباطبائي في تفسيره: "وفي قوله: (واتَقُوهُ) دعوتهم إلى اجتناب معاصيه من كبائر الإثم وصغائره وهي الشرك فما دونه، وفعل الأعمال الصالحة التي في تركها معصية"[11]. ولابدّ من الإشارة إلى أن مفهومي "العبودية" و"العبادة" يُعتبران من عناصر التقوى، كمفهوم كلمة (مُخْلَصاً) في الآيتين (11) و(14) من سورة الزمر، وعبارة (وَلا أُشْرِكَ بِهِ) في الآية (36) من سورة الرعد، و(وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) في الآية (36) من سورة النساء، و(وَاشْكُرُوا لَهُ) في الآية (17) من سورة العنكبوت، و(.. وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأعراف/ 85)، في الآية (85) من سورة الأعراف. وقد تتضمّن كلمة (التقوى) أو الحالات المذكورة بشأنها تفصيلاً لمفهوم أمريّ للعبادة والعبوديّة، ولكن على الرغم من ذلك، فإنّ مصاحبة تلك الحالات للدعوة إلى العبادة والعبودية تدلّ على أنّ مفهوم العبوديّة بحاجة إلى تفصيل أكثر، فيما تقلّ نسبة صراحته عن نسبة صراحة مفهوم التقوى، كما هو واضح. هذا من ناحية، أمّا من الناحية الثانية، فإنّ مفهوم التقوى يقتصر على الله سبحانه في حين يمكن نسبة كلّ من العبادة والعبودية إلى غير الله كذلك[12]. ناهيك عن أنّ مفهوم العبادة ورد في القرآن الكريم مُضافاً إلى كلمة أخرى أو بعض الضمائر باستمرار، بينما لم يرد مفهوم التقوى إلا مع بعض الكلمات مثل (لفظ الجلالة: الله) و(ربّ) و(النار) و(اليوم)[13]، وضمير الغائب المفرد المذكّر أو ضمير المتكلِّم المفرد (ـنِ)، وورد بمفرده في أغلب الأحيان[14]؛ وعلى هذا، نادراً ما نلاحظ اقتصار كلمة التقوى على مفهوم العبادة في القرآن الكريم بشكل صريح. فمن جهة يقتصر مفهوم التقوى على الإنسان والأفراد المؤمنين، ومن جهة أخرى يُنسَب المفهوم المذكور إلى الله سبحانه، أو كلّ ما يمثّل مظهراً من مظاهر قدرته من حيث أنّه يشير إلى مظهر من مظاهره، وهنا نرى أنّ مفهوم (التقوى) يفيد معنىً صريحاً. وبصورة عامّة، يبدو أنّه من الأفضل اعتبار التقوى بمثابة الهدف الغائي للإنسان من بين المفاهيم الأخرى التي تشير إلى الغاية، كالعبادة (العبودية) والتقوى والحياة الطيِّبة والفلاح. ومن الواضح أنّ بعض المفاهيم مثل الفلاح والفوز والحياة الطيبة تشير إلى نتيجة حتميّة ورسالة مُعيّنة ممثّلة بالتقوى. فمفهوم الحياة الطيبة مرتبط بالإحياء الإلهي وإن كان هذا الإحياء حاصل كنتيجة للتقوى نفسها. وبعبارة أدقّ، إنّ غايتنا تشرف على أعمالنا لا الإحياء الإلهي، في حين أنّ الحياة الطيبة تشير إلى الثواب الإلهي، وما ثواب الله سبحانه إلا فعله – كما هي الحال مع عقابه – وليس فعلنا نحن، وإن اعتبر الله تعالى فعله مشروطاً بفعلنا نحن. إذاً فالحياة الطيبة لا تمثّل غاية عملنا بل هي نتيجة ذلك العمل وحاصله. ويشير إلى هذا المعنى ما ورد في الآية (179) من سورة الأعراف وهو قوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ...) وهي أنّ جهنّم لا تُعتبر الغاية من خلق الإنسان بل هي نتيجة وعاقبة ما يرتكبه بعض الأفراد، كما أنّ الحياة الطيبة تمثّل نتيجة عمل البعض الآخر منهم. الآن، وبعدما تبيّن أنّ التقوى هي مفهوم أساسي في التربية والتعليم، لابدّ لنا من فهم أن أصل كلمة التقوى هي (الوقاية) وتعني (ما يُوقى به الشيءُ من كلّ ما يضرّه). ومعنى التقوى هو حفظ النفس ووقايتها من كلّ الأخطار والتهديدات التي تحيط بها. وتشير المحافظة إلى السعي المستمرّ المرتهنّ بثلاث مقدّمات على الأقلّ، هي: ·       المقدّمة الأولى: معرفة وتحديد العوامل التي تتهدّد النفس وكذلك الظروف الخطرة. ·       المقدّمة الثانية: معرفة العوامل والأساليب التي يُمكن بواسطتها ردع الخطر وتفاديه. ·       المقدّمة الثالثة، التنبّه إلى ظروف الخطر وعدم تجاهلها أو الغفلة عنها. وفي ضوء ذلك، فإنّ أساس التقوى يستند إلى المعرفة والانتباه والحذر، أمّا موضوع المعرفة والانتباه والحذر فهو الظرف الخطير أو الوضع الذي يتهدّد النفس. ولا شكّ في أنّ مسألة الانتباه لوضع خطير تختلف عن مسألة التعرّف على ذلك الوضع ممّا يتطلّب مواجهة كبيرة وعميقة من قِبلنا، لأنّ الاهتمام والانتباه لأيّ وضع خطير أو العوامل التي تهدّد النفس، إضافة إلى الأُسس والعناصر والأساليب الكفيلة بمَنع التهديد وتجنّبه، هي أمور قد تستلزم بعد الوقوع جهوداً خاصّة لاستمرارية تلك المعرفة الأوّلية والتنبّه لها وتذكّرها. وتشتمل (التقوى) على الانتباه والحذر من الظروف التي تتهدّدنا، فضلاً عن معرفة الخطر نفسه.   الهوامش:
[1]- (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) (سبأ/ 40-41). [2]- (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يس/ 60). [3]- (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) (مريم/ 93)، و(وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (الأنبياء/ 19). [4]- (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) (الزمر/ 3). [5]- أنظر: العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج9، ص(71-72). [6]- المصدر نفسه، ج17، ص(606-611). [7]- أنظر: سورة الحشر: الآية 9؛ وسورة آل عمران: الآية 130؛ وسورة البقرة: الآية 189؛ وسورة النور: الآية 5؛ وسورة المائدة: الآية 100. [8]- أنظر: سورة الزمر: الآية 61؛ وسورة الأعراف: الآيتان 35 و96؛ وسورة الرعد: الآية 35؛ وسورة يوسف: الآية 109؛ وسورة آل عمران: الآيات 76 و179 و198؛ وسورة يس: الآية 45؛ وسورة الأنعام: الآية 155؛ وسورة الأنفال: الآية 29؛ وسورة النساء: الآية 1؛ وسورة الطلاق: الآية 5. [9]- أنظر الآيات: سورة العنكبوت: الآيتان 16 و17؛ وسورة الزمر: الآيات 11 و14 و160؛ وسورة نوح: الآية 13؛ وسورة الأعراف: الآيتان 65 و85؛ وسورة الرعد: الآية 36؛ وسورة النساء: الآية 36. [10]- أنظر كذلك: سورة الأعراف: الآية 65؛ وسورة المؤمنون: الآية 23. [11]- العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج20، ص(163). [12]- مثل الآيات: سورة النحل: الآية 73؛ وسورة مريم: الآية 49؛ وسورة الفرقان: الآية 55. [13]- غلب على (النار) و(يوم القيامة) كونهما من متعلّقات التقوى من حيث إنّهما مظهران ورمزان لقدرة الحقّ تعالى، ولا يتنافى مع اقتصار هذا المفهوم على الله سبحانه.

[14]- مثل سورة الشعراء: الآيات 1 و14 و106 و161 و177؛ وسورة البقرة: الآية 179؛ وسورة الصافات: الآية 124.

المصدر: كتاب النظرية الإسلامية في التربية والتعليم

ارسال التعليق

Top