• ٩ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ١ ذو القعدة ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الكراهية وأبلسة الآخر

منصور مبارك

الكراهية وأبلسة الآخر

◄قبيل أفول الألفية الثانية، شهد العالم طقساً بربرياً مريعاً، يمكن إدراجه في الجانب المظلم والخبيء من السلوك الإنساني، فقد شهدت البلقان وراندا تباعا، مجازر بشرية وتطهيراً عرقياً لم يستثن ذكراً أو أنثى، صغيراً  كان أو كبيراً، وفي ما تلاه، حلت علينا الألفية الثالثة بمجزرة الحادي عشر من سبتمبر، والتي لئن عادلت ببشاعتها مجازر أخرى، كما في دمويتها، فإنها فاقتها من حيث لحظات التكثيف البصري والتقني.

أغلب الظن أننا نستخدم كلمة الكراهية حينما نعجز عن تفسير فظائع يرتكبها البشر، ولا يلوح لنا في الأفق تفسير عقلاني نؤول به هذه الوحشية أو تلك، فالجنوح إلى القول: إنّ الكراهية جزء من الطبيعة الإنسانية هو حكم ما زال طرياً في أذهان المفكرين والفلاسفة، ولعل ذلك ما حدا بعالم نفسي مثل أريك فروم في محاضرته الشهيرة "قوى الإنسان الأخلاقية". في أواسط القرن العشرين، إلى تعليق حكمه، بعدما تبيّن له أنّ ينابيع الفكر الغربي، على الأقل، وتياراته الرئيسة إنما تنقسم في ما يتعلق بهذه المسألة تحديداً، إلى اتجاهين متمايزين ومتفارقين، يستبعد أوّلهما أن يكون الشر جزءاً جوهرياً من الطبيعة البشرية، في حين يجزم ثانيهما بأنّه طارئ، وإن تشخص وجوده خارج الذات الإنسانية.

والحال كذلك، وتأكيداً لانتفاء قطعية الحكم على السلوك الإنساني، أو كما يضعها فقهاء علم الاجتماع انتفاء الحقيقة الاجتماعية، فإنّ الكراهية وإن كانت لا تشكل جزءاً من الطبيعة البشرية، فإنها وظيفة من وظائفها، احتمال كهذا أصبح أكثر قرباً ومعقولية مع تقدم الدراسات النفسية، فالسلب المطلق لكونها من الطبيعة البشرية إنما يلزم عنه أنّ الناس في غالبيتهم ينفرون ويشمئزون من الكراهية فكرة وممارسة، وفي الجانب الآخر، يستدعي القول بأنها تنحدر إلى محض وظيفة من وظائف الطبيعة البشرية إلى ربطها بقاطع السلوك الإنساني.

  غضب... وكراهية:

تأسيساً على ذلك، يغدو ارتباط الكراهية بالسلوك الإنساني، مفتتحاً لفهمها بعد استكشاف خصائص الأخير، فالسلوك الإنساني يتسم بمظهرين هما "المرونة" و"التغيرية": أي القدرة على التغير، فالسياقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بوسعها الاتكاء، في أحايين كثيرة، على مرونة السلوك الإنساني، لخلق فضلاء أو رذلاء من بني البشر، أو في سلم القيم من يسجد أقصى الخير وذلك الذي يعكس الشر بإطلاقيته، عند ذاك، حينما نعود إلى شخصيات من هذا النوع، أي تلك التي تكون متطرفة في خيريتها أو شرها، سنلقاها في طراوة حياتها وبدايتها، إنما كانت بشرية عادية، وهذا القياس يصدق على الأُم تيرزا العاملة في مجال الخدمات الإنسانية، كما على ميلوسوفيتش الذي يحاكم جراء فظائع حكمه.

والقول بهذه المرونة والقدرة على التغير، لا يجافي حقيقة أنّ الإنسان قادر تباعاً على إعادة خلق نفسه بصورة متجددة، بل وتجسيد أفكار بدت في مخاضها ضرباً من الخيال الجامح، ولكن هاتين الصفتين بوسعهما كذلك أن تؤسسا لمقدمات تقود الشخصية إلى الكراهية، والأخيرة – هنا – نميزها عن الغضب، نأياً عن خلط يمارسه الكثيرون، بأنّ الكراهية على النقيض من الغضب الذي هو انفعال مؤقت وعابر زمنيا، عاطفة دائمة، فمن تستوطن ذهنيته يعش يومياً معها، لتصبح هذه الكراهية بالنسبة إليه نمطاً للحياة، بل ومبرراً للوجود.

لقد كان الفيلسوف أرسطو محقاً في تمييزه ما بين الغضب والكراهية، ومذاك سنجد أنّ هذا التمييز بقي صالحاً ونافعاً عبر الزمن، ففي كتابه "الخطابة" يذهب إلى أنّ الغضب نشعر به تجاه الأفراد فقط، ولكن الكراهية تتجه إلى طبقات أو جماعات بأكملها. ويرسم أرسطو كذلك خطاً آخر في تمييزه ما بين الاثنين، إذ يلحظ أنّ الغضب يعقبه دوماً شعور بالأسى أو الندم مصحوباً في أغلب الأحيان بنوع من التعاطف مع المغضوب عليه. وبمعنى آخر، فإنّ الغضب سريع التلاشي، لا يبقى أثره طويلاً في النفس، ومن هنا تكون خاتمته على النقيض من مفتتحه أسفاً وندماً. ولكننا في الكراهية لن نجد ذلك، فليست ثمة مشاعر ندم وإحساس بالذنب، فأرسطو – وبلهجة يقينية – يذهب إلى من يشعر بالكراهية يسعى دوماً إلى إفناء موضوع كراهيته.

ويبدو هنا، أنّ الملاحظات الحاذقة التي يوردها أرسطو في شرحه للكراهية تتم عن رحابة ذهنية قصوى في التعامل مع هذه الظاهرة الإنسانية، واحتمال كهذا من شأنه أن يدفعنا إلى انتزاع سمات أخرى للكراهية. فإن نحن التقطنا ما انتهت إليه الفقرة السابقة من أنّ هدف من يشعر بالكراهية إفناء موضوع كراهيته، أدركنا بأنها من حيث طبيعتها – أي الكراهية – ذات آلية عمل خارجي، وعلى نحو أكثر تحديداً، فإنّ من يشعر بالكراهية دائماً ما يكون على ثقة بأنّ موضوع كراهيته هو المذنب، كما وأنّه مصدر الألم والضيق الذي لحق به. وكنتيجة لازبة، فإنّه طالما اعتنق هذا الشعور الاتهامي فلن يشعر بالذنب أو الندم.

  تهديد الوجود:

لئن كانت إشارة أرسطو إلى أنّ الكراهية إنما تتجه نحو طبقات من الناس أو جماعات منها، تستدعي بامتياز صفة التجريد المرتبطة بمفهومي الطبقة والجماعة، فإنها تحيلنا إلى نتيجة مؤداها أنّ من يشعر بالكراهية نادراً ما يتجه إلى الأفراد كموضوع للكراهية، فالفرد على العكس من الجماعة أو طبقة، ليس سوى إنسان على شاكلتنا، ومن ثمّ فإنّ إنزال الأذى به لن يؤدي إلا إلى التعاطف معه، طالما أنّ فكرة إيذاء شخص له هيئة من لحم ودم تستدعي بالضرورة التفكير بأنفسنا، وعلى هذا فالفرد نقيض الطبقة والجماعة التي تغدو كراهيتها متيسرة، لأنها غير مشخصنة، فلا هيئة محددة للجماعة أو الطبقة وقطعاً ليست ملموسة بالمعنى الحسي، استطراداً، فإنّ تميز هاتين الفئتين بخاصية محددة كالعرق أو اللون، أو الجنس، تسهل استبعادهما بالتالي من الدائرة الضيقة التي ينتمي إليها من يشعر بالكراهية، ومن ثمّ يصبح باب الكراهية مشرعاً على مصراعيه.

ربما كان من المؤلم أنّ تلك الخطوات التي ينتهجها من يسلك درب الكراهية وبخاصة تلك التي تعمد إليّ تجريد الجماعات والطبقات، قد انتهت في فترات مديدة من تاريخ الإنسانية إلى خلق أكثر المؤسسات الاجتماعية ظلما، أي العبودية تحديداً. فاستعباد الفرد في مختلف الثقافات والحضارات كانت تتم بنزع إنسانيته لإعطاب أيّة مشاعر إنسانية تجاهه، ومن ثمّ تحويله إلى محض سلعة تباع وتشترى.

في ضوء هذا، يجوز الظن بأنّ ذلك التلازم الدائم ما بين الكراهية والخوف، قد أعطى للأولى عمراً مديداً بطول عمر الإنسانية. فالناس على اختلاف معتقداتهم وحضاراتهم يشعرون بالخطر في ظل وجود حامل الكراهية، وغالباً ما يحاولون جاهدين ضبط إيقاع حياتهم بما لا يتيح مجالاً لأن تفيض الكراهية إلى ما يجافي نمط حياتهم الاعتيادية. وكان فرويد قد ألمح إلى اننا عندما نواجه خطراً يلقي بثقله على حياتنا، فإننا نلجأ إلى آلية دفاعية نفسية، تجعل بمقدورنا التأقلم مع هذا الخطر، ومع ما يستتبعه من نتائج لا قبل لنا بها، تلك الآلية: الإنكار، هي القادرة على تحقيق مثل هذا التوازن النفسي المتوخى ويضرب فرويد مثلاً على عمل آلية الإنكار، بالاستناد إلى الإنكار الدائم لفكرة الموت التي هي جزء لا يتجزأ من الوجود الإنساني، فالبشر جميعاً يدركون بأنّ، حياتهم مهما طالت لابدّ وأن تنتهي في وقت ما، ومع ذلك فهم يتعاملون مع التهديد الوجودي للموت بإنكار حضوره. كما لو لم يكن حقيقة وجودية.

  عيادة عملاقة:

يبقى أن نورد هنا ملاحظة أخيرة: أنّ هذا الإنكار قد أخذ أشكالاً متطورة، بل أكثر تعقيداً من فكرة فرويد البسيطة بجوهريتها، بتوسلها منجزات العلم الحديث.

فتحت تأثير الانتشار الواسع لعلمي التحليل والطب النفسيين، انقلبت كثير من المسلمات والبديهيات التي كانت تشكل مرتكزاً لقيم المجتمعات الإنسانية، فالقفزات الكبيرة التي حققها التحليل النفسي بوصفه حقلاً علمياً مستقلاً بذاته أسقطت مثالاً لا حصراً، الكثير من الخطوط التي كانت ترسم بدقة وقطعية الحدود ما بين السلوك المرضي والطبيعي، فمن هو، اليوم، مشخص بعلة عقلية، لم يكن من الممكن تصنيفه في العهود الماضية بوصفه كذلك. والإشكالية – هنا – أنّ ما يتمخض عن النقطة السابقة فيض هائل في تعريف الأمراض العقلية والنفسية، بحيث أصبحت توصيفات التحليل النفسي تزيح في أحايين كثيرة، الأحكام القضائية والقانونية، وبعبارة أدق تلك القيم التي ترتكز عليها المجتمعات والتي تنظم الحياة الاجتماعية، سواء كانت على هيئة أعراف أو قوانين أو أحكام قضائية. في تلك اللحظة التي يصبح فيها مفهوم المرض بديلاً لمفهوم الشر وما يلحق به من تبعات قانونية وأخلاقية، يتحول المجتمع إلى محض حالة عيادية عملاقة.

مضافاً إلى ذلك، فإنّ الإنكار قدم لنا لغة جديدة لا ترقى إلى سوية التوصيف الدقيق للكراهية ومفاعليها. فجماعات الكراهية غالباً ما تلصق بها نعوت مثلاً الانحراف والضلال، أو أخرى مثل الكرامة والاستشهاد، وغير ذلك، من زيغ عن الحقيقة ومجافاة لها. ومن شأن ذلك أن يبعدنا عن الوعي بالهدف النهائي للكراهية والمتمثل في أبلسة الآخر، أي النظر إليه نظرتنا إلى "إبليس".

 

المصدر: مجلة الكويت/ العدد 270 لسنة 2006م

ارسال التعليق

Top