• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الرجاء والخوف.. قرب من الرحمن وروح الجنان

د. محمد يوسف موسى

الرجاء والخوف.. قرب من الرحمن وروح الجنان
ثبت أنّ العمل واجب، وأنّه لا يثمر الثمرة المرجوة إلا بإحسانه وإتقانه. وثبت أنّ الاعتدال في أدائه من مقوماته، ومن مستلزمات النجاح فيه. ونضيف عنصراً جديداً يعين على الاستمرار في كل عمل والمثابرة عليه، ذلك هو الرجاء، أو الأمل والخوف. الإنسان في هذه الحياة، في كفاح دائم ونضال مستمر، فالتلميذ يكافح لينجح، ومتى أتمّ تعلمه يكافح ليعمل، والذي يعمل يكافح ليتقدم في عمله، والزارع يكافح ليجني أكبر الثمرات وأطيبها، والضعيف يكافح ليجد القوة يتخطى ما أمامه من عقبات، والأُمم والشعوب المستضعفة تكافح لطرد المستعمر والحصول على الحرِّية، حتى الأُمم القوية لا تترك الكفاح لتبقى لها سيطرتها ونفوذها. وهكذا نحن جميعاً في كفاح، رجاء النجاح والتمتع بالحياة العزيزة الكريمة. ولابدّ في الكفاح من عُدّة تعين عليه، وإلا كان الإنسان كمن ينزل المعركة أعزل بغير سلاح، أو يخوض البحر وهو لا يحسن السباحة. وكذلك لابدّ لكل من يزاول عملاً، أن يستثعر الرجاء والأمل دائماً، مهما يطل أمد كفاحه، فإنّ اليأس حريّ أن يدفع من يملك عليه أمره إلى الخيبة فيه والنكوص عنه. وذلك لأنّ اليأس من النجاح، يدفع إلى الانقطاع عن الحركة وترك العمل، ومبعث ذلك اليأس، ضعف الإيمان بقدرة الله ورحمته وعونه للعاملين. ومن أجل ذلك نرى القرآن الكريم يفتح أمام المؤمن به، باب الرجاء والأمل على مصراعيه، وينادي بأنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، سواء في هذا العمل للدنيا والعمل للآخرة، والقرآن يفهمنا بصراحة لا لبس فيها، أنّه لا يتفق اليأس مع الإيمان بالله القادر الذي ينجح من يعمل ولا يكتفي بالأمانيّ. ولنستمع في هذا إلى قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا...) (النور/ 55). إنّ هذه تعلمنا أن علينا أن نؤمن بالله ونعمل الخير، وأن نعدّ لكل أمر عُدّته، وحينئذ يكون لنا أن نرجو، أن يجزينا الله بما يجزي به العاملين من الخير، بمختلف ضروبه، ومن ذلك النجاحُ في الحياة، والأمن على أنفسنا وأموالنا وأوطاننا. والله جلّت حكمته وقدرته يجيب الرجاء، ويحققه لنا، متى كنا له أهلاً. والرجاء في الله القادر على كل شيء، على النحو الذي أشرنا إليه، هو عُدّة الجندي في المعركة، وهو مطيّة الظفر والنصر، وبه انتصرالمؤمنون على المشركين في فجر الإسلام، حتى أصبح لهم دولة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً. وبفضل الإيمان بالله، ورجاء ما وعد به المؤمنين، فتح العرب أقطار العالم المعروفة في آسيا وإفريقية، وملكوا أقطاراً أخرى في غربي أوروبا. ولا عجب في شيء من هذا، فقد جاء في بعض الأحاديث القدسية: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني". ومن أوفى بعهده ووعده من الله الذي يقول: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ) (غافر/ 51). إنّ الأمل في عون الله يفتح قلب الإنسان للحياة، ويجعله يحسّ ما فيها من متعة وسعادة، ويدفعه إلى العمل، وإن قامت في وجهه العقاب والمصاعب. وإن رجاء عفو الله ومغفرته من العبد الذي أسرف على نفسه، ليقرّب العبد إلى رحمته وإحسانه، وبذلك يعود خيراً مما كان، وتتفتح أمامه الحياة، ويراها زاهية مشرقة سعيدة، ويرتفع عنه الكابوس الذي ختم على صدره من كثرة ما أذنب وعصى الله، وجعل الدنيا تضيق به على اتساعها. وفي هذا يقول الله تعالى: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) (الزمر/ 53)، ويقول: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا) (النساء/ 31)، ويقول: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء/ 110). هذه آيات، ومثلها كثير في القرآن، تملؤنا ثقة بعظيم رحمة الله التي وسعت كل شيء، وتفتح أبواباً للرجاء في غفران الله ورحمته، متى تاب العاصي وأقلع عما كان عليه، وأناب إلى الله ورجع إليه، وحينئذ لا يحس أنّه منبوذ أو مطرود، ويعود إنساناً آخر قد زال عنه اليأس، وحُبّب إليه العمل. وهذا الرسول الكريم الذي لا ينطق عن الهوى يقول: "سلوا الله الدرجات العلا، فإنّما تسألون كريماً، وإذا سألتم الله فأعظِمُوا الرغبة، واسألوا الفِرْدَوس الأولى فإنّ الله لا يتعاظمه شيء". وهكذا يغرس القرآن الكريم والرسول العظيم في قلوب المؤمنين أفراداً وجماعات، الأمل والرجاء في عون الله ورعايته، وفي إقالة العَثَرات لمن ضلوا عن السبيل، وقارفوا بعض الذنوب، حتى صحت منهم التوبة، ورجعوا إلى الله، فالله تعالى يقول في حديث قدسي رواه الرسول: "يابن آدم: إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت ما كان منك ولا أبالي". وبعد، فما ينبغي لنا أن نُفْرِط في الرجاء وطول الأمل والتمني بغير حق، فالرسول (ص) يقول في بعض ما روي عنه: "الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت. والعاجز من أتْبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني". كما يقول: "إن أشدَّ ما أخاف عليكم خصلتان: اتّباع الهوى، وطول الأمل". إنّ لنا، بل علينا أن نرجو الله في كل أمورنا، وأن نطمع في عونه في حياتنا الدنيا، وفي مغفرته ورضوانه في الدار الأخرى، ولكن علينا مع ذلك كله أن نخشاه ونخافه، ولا نتّكل على عظيم رحمته وجميل إحسانه، فإنّ خوف الله من دلائل المعرفة به، وهو يدفعنا إلى التزام حدوده وشريعته، ويجعلنا بمنأى عن عصيانه. وفي القرآن: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28)، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "أنا أخْوَفكم من الله"، كما روي عنه أنّه قال: "من خاف الله خافه كل شيء، ومن خاف غير الله خوّفه الله من كل شيء"، وقال: "أتمّكم عقلاً أشدُّكم خوفاً لله تعالى، وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظراً". ولا غرابة في شيء من هذا، فإن لُبّ العبادة الخوف والرجاء، وهما الباعثان المهمان لما يكون من الإنسان من خير في قوله وعمله. ومن ثمّ نجد الإمام الغزالي، يذكر أنّ الرجاء والخوف جناحان، بهما يطير المقربون إلى مقام محمود، وأنّه لا يقود إلى قرب الرحمن وروح الجنان إلا الرجاء، ولا يصدّ عن نار الجحيم والعذاب الأليم إلا الخوف. ولهذا نجد القرآن حافلاً بالآيات التي تفيد الخوف، وزاخراً بالآيات التي تبعث على الرجاء، وفيه آيات أُخَرُ تجمع بينهما، وفي الخوف والرجاء أيضاً جاءت أحاديث كثيرة، رويت عن الرسول الكريم، وآثار سمعت عن الصحابة والتابعين، رضوان الله عليهم أجمعين. فمن آيات التخويف: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (البروج/ 12)، (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود/ 102)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (الحج/ 1-2). فإذا أضفنا إلى هذه الآيات وأمثالها ما جاء من أحاديث الرسول في وصف جهنم وعذابها – ومن أن أهْوَنَ أهلِ النار عذاباً يوم القيامة من يوضع في قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه – إذا أضفنا هذه الأحاديث إلى آيات العذاب أحس الإنسان الرهبة والخوف يملآن نفسه وقلبه، فيكون هذا نذيراً له ببعده عن الشر وعما يدخله النار، ولكنه قد يكون من ناحية أخرى باعثاً على اليأس والقنوط من أن تناله رحمة الله. ولهذا كان من الحكمة أن تجيء آيات وأحاديث أُخر، تجعل الإنسان شديد الأمل، كثير الرجاء في رحمة الله تعالى ومغفرته ورضوانه. ومن تلك الآيات قول الرحيم الرحمن: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (الأعراف/ 156)، وقوله: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر/ 53). ومن الأحاديث قول خاتم الأنبياء: "يقول الله عزّ وجلّ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد. ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئته، مثلها، أو أغفر، ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً، تقربتُ منه باعاً، ومن أتاني يمشي، أتيته هَرْولة، ومن لقيني بقُراب الأرض خطيئة (أي بما يقارب مِلأها) لا يشرك بي شيئاً، لَقِيته بمثلها مغفرة". ويروي ابن عمر رضي الله عنهما، أنّه سمع رسول الله (ص) يقول: "يُدنَى المؤمن يوم القيامة من ربه، حتى يضع عليه كنفه (أي ستره)، فيقرره بذنوبه فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: رَبِّ أعرف، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا اغفرها اليوم، فيعطى صحيفة حسناته". تلك آيات وأحاديث، تبعث على أشد ضروب الخوف من الله وعذابه، وهذه آيات وأحاديث أُخر، تملأ القلب رجاء في عفو الله ومغفرته. والتربية المثلى تقتضي هذين الباعثين: باعث الخوف، وباعث الرجاء؛ فبالأوّل يرهب المرء عقبى الشر فيتقيه، ولا يأتي شيئاً منه، وبالثاني لا يستولي عليه اليأس، ما دامت رحمة الله تعالى وسعت كل شيء. وبهذا الأسلوب، نرى حقاً أنّ الله العليم بما طبعت عليه النفوس، والحكيم المحيط بما يصلحها ويجعلها تسير على الطريق القويم، قد أخَذنا بالتأديب البارع لنتبع الطريقة المثلى في هذه الحياة؛ إذ جعلنا نراوح في كل حال بين الخوف والرجاء. ولذلك نجد – كما تقدم – من الآيات والأحاديث ما يجمع بين الخوف والرجاء معاً. ولنسمع في هذا قوله تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ) (الحجر/ 49-50)، وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأعراف/ 167). ثمّ لنسمع إلى قول الرسول (ص): "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلكم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد". والآن وقد بان لنا أنّ المرء موزع دائماً بين الخوف والرجاء، وأن قلبه مقسم بينهما، فما الخير منهما للإنسان؟ أيكون عظيم الخوف، أم يكون إلى جانب الرجاء؟. ونذكر أنّ من الخير في رأينا أن يعتدل خوف الإنسان ورجاؤه، وإلا لوقع في الاغترار إن غلب عليه الرجاء، ونسي الخوف من الله وعقابه، أو لوقع في القنوط إن يئس من رحمة الله ومغفرته. ويعجبني في هذا ما روي عن سيدنا علي بن أبي طالب (ع) قال لبعض ولده: يا بني: خف الله خوفاً ترى أنك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يتقبلها منك، وارجُ الله رجاء ترى أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك. ولذلك أثنى الله تعالى على من يجتمع عندهم هذان الباعثان في اعتدال، فقال: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) (السجدة/ 16)، وقال: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء/ 90). ويذكر الإمام النووي وغيره، أنّ المختار للعبد في حال صحته، أن يكون خائفاً راجياً، ويكون خوفه ورجاؤه سواء. أما عند الإشراف على الموت، فالأصلح غلبة الرجاء في رحمة الله وغفرانه. المصدر: كتاب (الإسلام والحياة)

ارسال التعليق

Top