• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

بين الشريعة السماوية والقوانين الوضعية

أحمد حميد علي حسين

بين الشريعة السماوية والقوانين الوضعية
◄الفرق بين حُسن النيّة في الإسلام وغيره في النظم الوضعية: فإذا كانت النية متغيرة في التصرفات فلا يكون التصرف مشروعاً إلا إذا كان خالصاً صحيحاً أي يطلب الثواب من الله تعالى وعلى هديه وسنّة نبيه. ومن ثمّ فإنّ هذا المفهوم الإسلامي لا يمكن تصوره في النظم الوضعية، ولا يمكن أن تعمل النية بهذا المفهوم في تلك النظم الوضعية، فإذا نظرنا إلى مفهوم حسن النية في القوانين الوضعية نجده أنّه مجرد اصطلاح قانوني تجرد من معناه الخاص، بل تتعدد معانيه وتختلف مراميه بحيث يصبح له في كل مجال معنى خاص ودلالة معينة تختلف عن معناه ودلالته في مجال آخر، أي تتجدد دلالته بحسب موضعه في المجال المستعمل فيه، ومهما يكن الأمر فهي تختلف تماماً عن مسألة النية في الإسلام... ولذلك فقد روي عن سعيد بن جبير أنّه قال: "لا يقبل قول وعمل إلا بنية ولا يقبل قول وعمل بنية إلّا بموافقة السنّة. ونضرب على ذلك مثالاً؛ فكل تجارة وصناعة يخالف العبد فيها حكم الكتاب والسنّة فليست تجارة ولا صناعة حلالاً وإن كان الاسم موجوداً ولكنه فارغ من القصد والمعنى اللذين تصح بهما التسمية في الحكم، وإن ربط التصرفات الإنسانية بالنية والقصد يدفع المسلم إلى أن يعمل ويتخذ من عمله وسيلة استدلال على وحدانية الله سبحانه وتعالى.   جلب المصالح ودرء المفاسد فالشريعة الإسلامية ما وضعت إلا لتحقيق مصالح العباد في الحاضر والمستقبل حتى إنّ بعض الفقهاء عبّر بقوله انّ الشريعة الإسلامية كلها مصالح، إما درء مفاسد أو جلب مصالح. وهذه الحقيقة وهذا الوصف أمرٌ ثابت للشريعة يدل على استقراء وضوحها وما بنيت عليه أحكامها. ونسوق بعض الأدلة والشواهد على ذلك من الكتاب والسنة فمن الكتاب قال تعالى في تعليل رسالة النبي (ص): (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107)، والرحمة بمفهومها هنا تتضمن رعاية مصالح العباد والحرص عليها ودرء كل مفسدة تعترض طريقهم. تعليل أحكام الشريعة الإسلامية بجلب المصلحة ودرء المفسدة لإعلام المكلفين بأنّ تحقيق المصالح هو مقصود الشارع وأنّ الأحكام ما شرعت إلا لهذا الغرض. ويبين ذلك الحق سبحانه وتعالى بقوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ) (البقرة/ 179)، فإذا نظرنا إلى القصاص من القاتل نجده مفسدة تفوت عليه حياته ولكنها جازت لأنّ فيها مصلحة أكبر وهي حفظ حياة الناس على العموم.. ومن ثمّ نجد في أحكام الشريعة الإسلامية إذا تعارضت المصالح مع المفساد رجح أعظمها. وكذلك قول الله تبارك وتعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال/ 60)، ونرى في هذه الآية أنّ إرهاب العدو مصلحة لكي يرجع عن عدوانه على المسلمين إذا رأى قوتهم، فتجهيز الجيوش وإعدادها للقتال يعرض النفوس إلى القتل وهذه مفسدة ولكن ترك الأعداء يدخلون البلاد ويستعمرونها ويستذلون شعوبها الإسلامية وينهبون أموالهم وينتهكون اعراضهم مفسدة أعظم ومن هنا شرع الجهاد لهذه المصلحة العظمى وهي تجنيب البلاد مخاطر الأعداء.   الحكمة في تشريع الرخص: فالنطق بكلمة الكفر عند الإكراه عليها يكون حفاظاً لمصلحة بقاء النفس تعتبر من الرخص التي نص عليها الله سبحانه وتعالى في كتابه حيث قال عزّ وجلّ: (إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ) (النحل/ 106)، كذلك إباحة أكل الميتة عند الضرورة مخافة الهلاك وترخيص الفطر في رمضان للمسافر والمريض. ونجد مما لا شك فيه أنّ دفع المشقة طريق من طرق رعاية المصلحة ودرء المفسدة. وعلى العكس تماماً لا نجد في القوانين الوضعية وجود مثل هذه الرخص بل الحكم يطبق دون النظر إلى رعاية المصلحة ودرء المفسدة تظهر فإنّ الشريعة الغراء تبيح إيجاد الحكم لتحقيق تلك المصلحة ودرء هذه المفسدة لأنّ الشريعة كما جاء في قول ابن القيِّم – رحمه الله – وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمة بين خلقه. فالشريعة الإسلامية لا يمكن أن تضيق بحاجات الناس وتحقيق مصالحهم لأنها جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها.   الشريعة الإسلامية والجانب الأخلاقي: الناظر إلى عنصر الأخلاق يجده عنصراً أصيلاً في تقويم شئون الحياة وإصلاح المجتمع ولا يغني عنها أي تقدم في مجال الثقافة والعلوم فنجد أنّ العالم يمر الآن بأزمة أخلاقية رغم التقدم في مجال العلوم بكافة فروعها. فنجد جريمة الزنا على سبيل المثال لما تشكله من خطورة كبيرة في تدمير الأخلاق وما يترتب على هذا التدمير من هدم للمجتمع المسلم ففي القوانين الوضعية وخاصة القانون الفرنسي وكذلك القانون المصري ينص على عدم معاقبة الزوجة إذا زنت وكانت ذلك برضاها وبالتالي عدم معاقبة من زنا بها، فنجد أنّ وجود مثل هذا النص في القوانين الوضعية يؤدي إلى فساد الأخلاق وبالتالي تدمير المجتمع متمثلة في شيوع الأمراض الخبيثة كمرض الإيدز وما يترتب عليه من مخاطر لا يحمد عقباها، كما تؤدي هذه الجريمة إلى اختلاط الأنساب وتدمير البيوت وخرابها والعزوف عن الزواج. ومن ثمّ نرى أنّ المجتمع الذي تنطلق فيه الشهوات بغير حساب مجتمع معرض للخلل، لأنّه لا أمان فيه للبيت ولا حرمة فيه للأسرة، وهو مجتمع قذر هابط يأتي في مؤخرة البشرية. ولكن نجد انّ الشريعة الإسلامية الغراء تحرص على الفضيلة وعلى الجانب الأخلاقي مرحبة بعقوبة جريمة الزنا دون استثناء تلك الجريمة التي قررها الله في كتابه بقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور/ 2). ففي هذه العقوبة مصلحة وخير للأسر والمجتمع وزجر للمفسدين الذين يريدون العبث بأعراض الغير وإشاعة الفساد في المجتمع المسلم، فبوضع تلك العقوبة أراد الإسلام محاربة الحيوانية التي لا تفرق بين جسد وجسد ولا تهدف إلى بناء عش للزوجية الصحيحة كما بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه وكذلك الرسول (ص) في سنته. ولأنّ وجود مثل هذه الجريمة النكراء تعتبر نكسة للمجتمع المسلم بل وتجرده من كل معاني الحياة الطيبة وترد الكائن الإنساني إلى كائن حيواني لا يفرق بين أنثى وأنثى ولا بين ذكر وذكر.   فساد الأخلاف وراء كل هزيمة: والملقي نظرة في تاريخ الأمّة الإسلامية يجد أنّ ضياع الأندلس وإنطواء صفحتها ما كان إلا بضياع الأخلاق وانتشار تلك الجريمة النكراء بين أبناء الأُمّة آنذاك فقد روي أنّ الصليبية الحاقدة حينما أرادت القضاء على دولة الأندلس أرسلوا رجل الكنيسة الأوّل وكان متنكراً في صورة رجل مسلم ودخل مدينة الأندلس وأثناء سيره في إحدى طرقات المدينة وجد غلاماً صغيراً يبكي فوقف عنده وسأله عن سبب البكاء فرد الفتى قائلاً لقد أخطأت الرمية.. ويدل ذلك على أنّ المسلم يعمل في ظل الاستقامة محققاً بذلك أهداف الأُمّة الإسلامية في إسعاد الفرد المسلم وتحقيق أمنه وذاتيته، وكذلك إسعاد المجتمعات الإنسانية كلها وصدق الله العظيم إذ يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأحقاف/ 13-14). فهذا الغلام يبكي لأنّه أخطأ في إصابة الهدف فما كان من رجل الكنيسة إلا أنّه دهش لقول الفتى المسلم المتمسك بدينه وقال لا نستطيع أن نغزو المسلمين.. ورجع خائب الأمل مخذولا. ثمّ اجتمع مع رجال الكنيسة وقص عليهم ما حدث من شأن هذا الفتى المسلم. فأخذوا يفكرون في خطة محكمة لخوض المعركة مع المسلمين في بلاد الأندلس والقضاء على دولتهم، واستقرّ بهم الرأي على إحكام وتدبير خطة لإفساد أخلاق المسلمين حتى يتمكنوا من إسقاط دولتهم، فقاموا بتجميع أكبر عدد من الفتيات الحسناوات ودرَّبوهنّ على كل وسائل الرذيلة ووضعوهنّ في مقدمة جيش وهمي لتنفيذ خطتهم، وبالفعل التقى الجيشان ولكن سرعان ما أدبر جيش الفرنجة وترك وراءه هؤلاء الفتيات المدربات على إفساد أخلاق المسلمين، وسرعان ما استولى جيش المسلمين على تلك الغنيمة من فتيات الفرنجة واستأثر كل مقاتل مسلم بفتاة من تلك الفتيات. وتمر بضع سنين ويعود رجل الكنيسة إلى الأندلس ليشاهد نتائج الخطة النكراء التي أعدت لإفساد أخلاق المسلمين وإذا به يرى غلاماً يبكي فاقترب منه وقال له ما يبكيك يا فتى فرد عليه الفتى قائلاً لقد غابت حبيبتي عني ففرح رجل الكنيسة وقال الآن نستطيع أن نغزو المسلمين ونسقط دولتهم، وبالفعل جهّز جيشاً صليبياً دخل الأندلس فهتك الأعراض وقتل الشيوخ وذبح الأطفال وحول المساجد التي يذكر فيها اسم الله إلى كنائس وانتهت دولة الأندلس وانطوت صفحتها كل ذلك كان بسبب انهيار الاخلاق وعدم الحرص على التمسك بالقيم الإسلامية الرفيعة التي أرادها لنا الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم (ص).   المصدر: مجلة الضياء/ العدد 31 لسنة 1993م

ارسال التعليق

Top