• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

متساوو الحقوق أم سواسية؟

د. مراد هوفمان

متساوو الحقوق أم سواسية؟

تحدثنا سورة آل عمران في الآية 36 أنّ أُم مريم قالت بعد ولادتها: «فَلَمَّا وَضَعَتْها قَالَتْ رَبّ إِنّي وَضَعْتُها أُنثَى وَاللّهُ أعلمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وإنّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وإني أُعيِذُها بِكَ وذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجيمِ».

يوجه القرآن بهذه الآية كلّ النقاش والخلافات التي تدور حول علاقة الجنسين الرجل والمرأة إلى جوهر الخلاف. الرجل والمرأة، المرأة والرجل، هل هما مجرد متساوو الحقوق أم هل هما متماثلان حتى يمكن أن يُساوي بينهما أمام القانون؟

إنّني أعي تماماً أنّ هذا التساؤل غير مقبول سياسياً في أوربا، وكذلك في أمريكا. فمجرد الرغبة في البحث عن فوارق واختلافات محتملة بين الجنسين تتعدى الاختلافات البيولوجية، غير مرغوب فيه أيديولوجياً.

لقد اكتسب الإسلام سمعة سيئة فيما يخص موقفه من المرأة، حتى بات الناس يعدونه ديناً معادياً للمرأة - ليس بدون ذنب على ما اعتقد - وهذه السمعة السيئة ترمي بظلالها على جميع المحاولات للتوصل إلى تفاهم أفضل بين الغرب والشرق.

هذا الموضوع ومناقشته يدلان مراراً وتكراراً على حقيقة ثابتة، وهي نقص المعلومات عن الإسلام لدى الغربيين، بل ووجود الكثير من المعلومات المغلوطة عنه. فأحياناً يتساءل أحدهم بجدية تامة: هل يعتقد الإسلام أنّ للمرأة روحاً؟ وهل يسمح لها بالحج إلى مكّة؟ وهل يمكن أن تدخل المرأة الجنّة؟ وينعقد لسان المسلم من الدهشة فلا يرد جواباً.

وهذا دليل ومؤشر على أنّ مستقبل الإسلام في الغرب لايتوقف فقط على موقفه وفهم الغرب لهذا الموقف من موضوعات كحقوق الإنسان والديمقراطية، بل هناك كذلك موضوع «المرأة».

وتظهر شحنة العواطف التي تختفي وراء هذا السؤال بشكل واسع النطاق، خاصّة إذا اختزلت في نقاط هامشية، مثل ارتداء الحجاب. هذا الأمر - غطاء الرأس هذا - يمكن أن يصيب بعض الدول في صميمها إذا أعلوا من شأنه وجعلوه رمزاً وحملوه أكثر مما يحتمل حتى يصير أيقونة إسلامية.

 

لا تكذب الإحصائيات عندما توضح أنّ الأمهات، وكثيراً من الآباء يفضلون الأبناء الذكور على البنات.

ويصوّر القرآن تفضيل الذكور على الإناث بشكل جمالي بليغ قال تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (النحل/ 58-59).

ثم يحرِّم القرآن وأد البنات بكلمات غاية في القوّة كما في قوله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير/ 8-9)... وينطبق هذا على المولودة، وغير المولودة، أي الجنين في رحم أُمّه.

فإذا كان وأد الأنثى من الأمور الشائعة عند العرب قبل الإسلام لظروف الفقر والحاجة، فإنّ عمليات القتل المنظمة للأجنة من الإناث قد شهدت وسعاً هائلاً، خاصّة منذ أن استطاع الطب أن يحدد نوع الجنين بواسطة الموجات فوق الصوتية، في دول مثل الصين، وتايوان، وكوريا الجنوبية، وباكستان، والهند. وتستطيع أن تقرأ في العيادات الطبية التي تقوم بإجراء عمليات الإجهاض. هذا الإعلان: «ادفع 500 روبية ووفر50000». المبلغ الأخير يدفعه الأب ليجهز ابنته للزواج. ولقد أدى هذا الأمر إلى نقص حوالي 100 مليون أنثى في آسيا (هذا الرقم تقديري). أما في الصين فنسبة مواليد الذكور 100 بالنسبة لـ(85) من الإناث. وحتى إذا ما حالف الحظ هذه الأجنة من الإناث وسمح لهن بأن يرين النور، فإنّ النساء معرضات منذ الأزل وفي أنحاء العالم كافة للاظطهاد وسوء المعاملة. ومَن ينكر أن يكون هذا الأمر في الغرب، فإنّه يغفل ويغمض عينيه عامداً عن حقائق كثيرة. كلّ هذا الاظطهاد والظلم وسوء المعاملة له أسباب مختلفة، منها أسباب ذات طبيعة نفسية، واجتماعية، وثقافية، وحضارية وكذلك اقتصادية.

ويظن المسلمون الأمريكيون - ذوو الأصول الشرقية وغيرها - أنّه من الضروري أن يراجع الرجال المسلمون موقفهم من المرأة، فهم يهدفون إلى فصل الجوهر في الإسلام عن القشور، وتصحيح صورة الإسلام حتى لا ينزعج الناس منه ويعرضون عنه.

يتحدّث فتحي عثمان بصراحة في هذا الشأن: «لقد اعتدنا أن نؤمن بأنّ المرأة خلقت للأُسرة وللقيام على شؤونها ورعاية الأطفال فقط. ولكن ليس هناك سند واحد في القرآن والسنة يعضد هذا الرأي. فتقسيم العمل هذا إنما هو نتاج خبرة اجتماعية. ولكن هذه الخبرة ذات التاريخ الطويل والراسخة في أذهان الناس لا تعني بالضرورة أنّنا نتعامل هنا مع أحد قوانين الطبيعة أو مع حكم من أحكام الله في الإسلام».

 

لقد اتسمت صورة المرأة في الإسلام بالإيجابية، نظراً لأنّ القرآن لم يلصق بحواء صفة الغواية، مما كان له عظيم الأثر نفسياً في إضفاء صفة الإيجابية على المرأة. كما أنّ القرآن لا يذكر أنّه عاقب حواء على غوايتها لآدم بأن كتب عليها عقوبة الحمل، أي حمل الجنين في رحمها. فالقرآن يصف الذنب الذي ارتكبه كلّ من آدم وحواء على أنّه فعل مشترك أدى بأن ينزل كلاهما من الجنّة إلى الأرض. وتختلف هذه الصورة تماماً عن الموروث اليهودي - المسيحي والذي يحمل المرأة ذنوباً شتى، مما أدى إلى أن تدان المرأة حتى تكاد تتساوى مع الشيطان في الفكر المسيحي بدءاً من بولس الرسول وحتى أواخر القرون الوسطى - حرق الساحرات أعظم الأدلة - وحتى أول العصر الحديث.

أما بالنسبة لموضوع الجنس - فنستطيع أن نقول إنّ الإسلام استطاع أن يحدد ويحافظ على موقف إيجابي وغير مضطرب من الجنس، وهذا يختلف تماماً عن المسيحية، دون أن نتطرق إلى تفصيلات هذا الموقف الذي يتأرجح ما بين البيوريتانية والانفلات الجنسي. وتأكيداً لاحترام القرآن للمرأة، فإنّه يذكر أمثلة ونماذج إيجابية كثير للمرأة مثل: ملكة سبأ، أُم موسى، زوجة فرعون، مريم وأُمّها.

أما علاقة الزواج بين الرجل والمرأة، فيتم وصفها في القرآن - وفق المعايير الحديثة - بشكل إيجابي حتى وإن لم يكن الزواج عقداً مقدساً. ففي الآية الكريمة يقول الله عزّوجلّ: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم/ 21). وفي الآية الكريمة عن الزوجات: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (البقرة/ 187).

ولا يدل هذا القول على علاقة تحكمها القوى، يكون أحد أطرافها متسيّداً الطرف الآخر – ولا يدل بأي شكل على سلطة رجالية - بل هي علاقة مشاركة يأخذ فيها كلّ طرف الطرف الآخر في حسبانه ويراعيه.

وبالفعل فالمؤمنون والمؤمنات مصدر فرحة بعضهم لبعض كما ورد في الآية: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة/ 71).

ولذلك، فليس مدعاة للدهشة، بل هو أمر مفروغ منه ألا تختلف المرأة المسلمة في وضعها الديني الروحي عن الرجل، فعليها الفروض كافة من صلاة وصيام وأداء الزكاة والحج. ويعبّر القرآن عن هذا بشكل مؤثر وبليغ بأن يخص كلاً من الرجال والنساء بالذكر منفرداً.

(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97).

يتجه النقد الغربي لوضع المرأة في الإسلام لمكونات أساسية في الشريعة، وهي:

1-    تعدد الزوجات.

2-    وضع المرأة في الزواج.

3-    النصوص المتعلقة بزي المرأة.

4-    حجاب المرأة والفصل بين الجنسين.

5-    سلطة الرجل المطلقة في طلاق زوجته من طرف واحد.

6-    انتقاص دور المرأة في مسائل الإرث والشهادة.

الاتهام بسماح الإسلام لتعدد الزوجات لا يجد له صدى سلبياً، لأنّه حتى وفقاً لرأي علماء الإسلام الغربيين فإنّ الاقتران بامرأة واحدة، وهو الهدف الأصلي للقرآن، هو السائد في العالم الإسلامي.

لقد قيّد الإسلام الزواج من النساء بأربع نساء كحد أقصى في سورة النساء الآية 3، ولكنّه قيّد هذا الزواج بشرط العدل في معاملتهن، فيرد في القرآن: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا) (النساء/ 3).

ولكن يؤكد الله للرجال، وبخاصّة الأزواج، أنّهم لن يستطيعوا أبداً أن يعدلوا حتى لو أرادوا. الآية 129 من سورة النساء تقر ذلك: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء/ 129) أفلا يكفي كلّ هذا للترهيب والحث على البعد عن تعدد الزوجات؟

أما الانتقاد الثاني الموجه للإسلام والذي يندرج تحت وضع المرأة في علاقة الزواج، فيتجه إلى الآية 228 من سورة البقرة والآية 34 من سورة النساء، وهما الآيتان اللتان ظلتا حتى وقت ليس ببعيد يُفسران على أنّهما يقرّان وجود طرف أعلى في العلاقة الزوجية هو الرجل وأنّ المرأة تحظى بدور التابع، وبذلك تنتفي صفة المشاركة عن هذه العلاقة. فدعونا نرى سوياً قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة/ 288).

فتمتع الرجل بحقّ أن تكون له الكلمة الأخيرة في أمر الزواج هنا مرتبط بوضع محدد، وهو أن يتضح حمل المرأة في شهور العدة الثلاثة، فهنا يكون للرجل الحقّ في أن يرد زوجته حتى لو لم تشأ. إذاً فحقّه ليس مطلقاً، بل هو مرهون بظرف معين؛ لأنّه الوحيد الذي يتحمل تبعات وقوع الطلاق المادّية وتتضاعف مسؤوليته في حالة وجود طفل.

إذاً فتفسير هذه الآية على أنّ الرجال أفضل من النساء إنما هو تفسير ملتوٍ منحاز وغير موضوعي بالمرة.

أما الآية من قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) (النساء/ 34).

لقد تمت ترجمة بداية هذه الآية حتى وقت قريب، بحيث تصوّر علاقة المرأة بالرجل كأنّها علاقة التابع بسيِّده أو أنّ الرجل أعلى من المرأة. ولقد قام مترجمو القرآن باستنتاج أنّ الزوج هو مَن يملك السلطة عامّة في العلاقة الزوجية، وتوافق هذا الرأي مع المفهوم التقليدي لدور الزوج في العلاقة الزوجية.

وهذه الآية 34 من سورة النساء يمكن أن تفهم على هذا النحو، ولكن لا يجب أن تفهم وتفسّر على هذا النحو، فمن الجائز لغوياً أن تفم بداية الآية على أنّ الرجال يقومون على النساء أي يقومون على رعايتهم، وهذا أدق حتى يتوافق مع بقية ما ورد في القرآن من طبيعة العلاقة الزوجية التي تتسم بالمشاركة ويسودها الحب والعطف والمودة. ومن هذا المنطلق ظهرت ترجمة أخرى لهذه الآية هي أنّ الرجال مسؤولون عن النساء.

وطبقاً لذلك، يتولى الأزواج مسؤولية رعاية زوجاتهم رعاية كاملة. ويترجم فتحي عثمان هذا بقوله: لابدّ أن يرعى الرجال النساء رعاية مالية ويتحمولوا كلّ مسؤولية عنهنّ. وينفي تماماً إمكانية تفسير هذه الآية على أنّها تثبت أي تميز للرجال على النساء وأي أفضلية لهم عليهن.

وينطلق القرآن في حكمه هذا - كما يتبيّن من بقية الآية والنص - أنّ الرجال عادة أقوى جسمانياً من النساء، وأقوى مادّياً من النساء.

أما جواز أن يضرب الرجل المرأة التي تعصاه، فإنّ هذا الأمر يودي إلى فقدان الحب والتفاهم اللذين تتضمنهما العلاقة الزوجية المشتركة. وفي الأحوال كافة، فإنّ المسلمين لم يفهموا - محتذين برسولهم - هذا الأمر على أنّه سماح بالضرب الحقيقي، أو بجواز الإيذاء البدني. فهل يجوز أن تضرب المرأة وهي الأُمّ التي قال فيها الرسول: «إنّ الجنّة تحت قدميها»؟!

أما بالنسبة لأشكال الإيذاء البدني الذي يتهم الغرب الإسلام بممارسته، فهي عادة ختان النساء الفرعونية. وهذه العادة منتشرة في أفريقيا بما فيها مصر والسودان بين المسيحيين والمسلمين للأسف الشديد. وهذه العادة لا تستند إلى أي قاعدة إسلامية أو حكم شرعي ورد في القرآن أو السنّة، كما أنّ القانون يجرم هذه العادة في مصر.

أما النصيب الأكبر من النقد الغربي، فينصب على تعاليم الزي بالنسبة للمرأة هذا الزي الذي يتيح للمرأة أن تتحدث ويتحدث إليها الآخرون. يستنتج الغرب عداء الإسلام للمرأة من ارتدائها لغطاء الرأس، ويَعُدُّه اضطهاداً منظماً للمرأة الشرقية. والأمر أفظع من ذلك؛ لأنّ الغرب يعد أي غطاء للرأس هجوماً شرساً على علمانيته، وعلى ما حصلت عليه المرأة من جرائها من حقوق، كما يعدونه اتهاماً أخلاقياً.

ولا يكاد أحد في الغرب يصدّق أنّ المرأة تضع هذا الغطاء بمحض إرادتها دون أن يجبرها أحد من أهلها. ولا يود الغربيون أن يستوعبوا ذلك من ملاحظتهم للأعداد المتزايدة من النساء الألمانيات والفرنسيات والإنجليزيات والأمريكيات اللاتي يعتنقن الإسلام.

ولا يعترف أحد منهم بأنّ غطاء الرأس يمكن أن يكون فعلاً تحررياً تحمي به المرأة مفاتنها في ظل عالم متكالب على الشهوات الجنسية، ولذلك فقد قالت امرأة بريطانية أسلمت - ضمن عشرة آلاف امرأة أخرى: «نتمتع بالحقوق كافة، ولدينا كلّ شيء عند المدافعين بشراسة عن حقوق المرأة، ما عدا الشواذ من النساء وحقّ الإجهاض».

وهنا يطرح السؤال نفسه: ما الملبس الذي يراه الإسلام شرعاً غير قابل للتغيير؟ هل ارتداء غطاء الرأس أمر واجب وضروري، أم توصية وفقاً للقرآن أو السنة أو كليهما؟

وأتمنى أن يظل صوب أعيننا في هذه المناقشة أنّ الإسلام لا يهمه في مسألة الملبس - كغيرها من الأشياء - المظاهر الخارجية، ولكن ما يهمه هو جوهر الأمر. وهو هنا تنظيم الغريزة الجنسية وقصرها على العلاقة الزوجية، وتأمين هذه العلاقة. لذلك يتجه أمر التعفف والبعد عن الشهوات إلى الجنسين.

من المتعارف عليه أنّه من الممكن اشتهاء المرأة بالنظرة، خاصّة إذا أثارت مفاتنها مثل هذا الفعل، وهذا بالضبط هو ما ينهى القرآن عنه الجنسين كما ورد في قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (النور/ 30). وهذا أمر للرجل أن يحفظ عورته (من السرة حتى الركبة). وعلى المرأة أن تفعل المثل وإن شملت عورتها مساحات أكبر من تلك. وتقول الآية: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور/ 31). وهذا ما يخص المؤمنات من ملبس وسلوك. وهناك آية أخرى موجهة لنساء النبيّ والمؤمنات فيقوله الحقّ تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب/ 59). ولا توجد في القرآن نصوص أخرى تخص ملبس المرأة.

أما بالنسبة لغطاء الرأس فعلينا أن نحدد أوّلاً بعض المفاهيم. فالخمار أي غطاء الرأس يتشابه مع أغطية الرأس التي يضعها بعض من نساء اليونان وبعض أجزاء أسبانيا للحماية من الشمس والأتربة والريح، وليس من منطق ديني. ويرى فتحي عثمان أنّ الآية 31 من سورة النور لم تضع شكلاً ثابتاً محدداً وجامداً لملابس المرأة، ولكن نموذجاً يجب تحقيقه وفقاً للظروف والعادات السائدة؛ لأنّ المفاتن التي يجب إخفاؤها لم يتم ذكرها في تفصيلاتها، وهذه التفصيلات ما كانت لتصلح لوضع قانون دائم يصلح لكلّ الأزمنة.

لابدّ من أن يحدد الإنسان موقفه مما جاء في السنة من أنّ الرسول أوضح بالإشارة لأسماء بنت أبي بكر ما يجب أن يظهر من المرأة المسلمة، وهو وجهها وكفاها وقدماها. وهذه الرواية روتها عائشة ونقلها عنها أبو داود. ويجب أن تكون ملابسها ثقيلة فلا يرى ما تحتها، ويجب أن تكون فضفاضة وغير ملاصقة لجسدها.

ولكن لن تنتهي هذه المناقشة؛ لأنّ الرسول صمت عنها ولم يوضح بكلامه هل هذا الحديث مبدأ وقاعدة يجب اتباعها، أم توصية يفضل الأخذ بها؟ ويميل حسن الترابي إلى ترجيح الأمر الأخير، أي أنّها توصية، لأنّ «هناك أوامر أخلاقية لما يجب أن تكون عليه ملابس الرجال والسيدات ولكنّها ليست مادّة أساسية في الشريعة».

أما بالنسبة للنقاب الذي يغطي الوجه، فليس له جذور إسلامية، ولكن استحدثته النبيلات في كلّ من بيزنطة وفارس ليتميزن عن بقية النساء ولإظهار مكانتهن الاجتماعية. أما بالنسبة للإسلام، فهناك طبعاً مَن يأخذ به، ولكن ليس في الإسلام أي أمر أو تسويغ له، ولا يمكن بأي حال أن تفسر آيات الحجاب على أنّها تأمر بحجب الوجه، خاصّة أنّ بدايات الإسلام لم تعرف مثل هذا الحجاب.

ويتفق فتحي عثمان مع حسن الترابي بشأن تمتع المرأة بحقّها كاملاً في ممارسة العمل وتقلد المناصب العامّة، كما أنّ للنساء حقّ ممارسة العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات سواء بترشيح أنفسهن أو الإدلاء بأصواتهن، ولهن الحقّ في أن يكن نائبات برلمانيات ووزيرات وقاضيات، وعلى أزواجهن احترام حقّهن في ممارسة العمل، وعليهم - أي الأزواج - أن يقوموا بدور الشريك في المنزل بالمشاركة بالأعمال المنزلية.

ونصل الآن إلى النقطة الأخيرة في هجوم الغرب على الإسلام من منطلق عدائه وظلمه للمرأة. وهذا الأمر هو وضع المرأة بالنسبة لقوانين الإرث والقوانين المدنية والأحوال الشخصية المتعلقة بالأُسرة. وأوّل الانتقادات الموجهة هو حقّ الرجل في أن يطلّق نفسه من زوجته من جانب واحد لمجرد القول بطلاقها دون اللجوء إلى قاضٍ، وله الحقّ في ثلاث طلقات كما ورد في الآيتين 299و230 من سورة البقرة، بينما يجب أن تلجأ المرأة إذا ما أرادت الخلع إلى المحكمة.

يدعو القرآن أن يحتكم الطرفان إلى أحد أفراد العائلة قبل أن يقع الطلاق كما ورد في سورة النساء الآية 35. فإذا نظرنا إلى نسبة حدوث الطلاق لا نجد ضرورة لكلّ هذه الإجراءات؛ لأنّ الزيجات المسلمة أكثر تماسكاً وصلابة من مثيلاتها الغربية في زماننا هذا.

هناك سبب جوهري لاختلاف الإجراءات بين الإسلام والغرب في إجراءات الطلاق، ترجع إلى الموقف القانوني للإسلام من اقتسام الأملاك. فلا يتم أصلاً عملية تحديد لاقتسام الأملاك؛ لأنّ المرأة تحتفظ بكافة أملاكها التي كانت لها أصلاً قبل الزواج، وتحتفظ كذلك بكلّ ما حصلت عليه بموجب هذا الزواج حتى من مهر وهدايا عرس وغير ذلك، بغض النظر عن مدة الزواج وقيمة المهر، كما تنص الآية 229 من سورة البقرة.

ولذلك فليس بالكثير إذا ما أرادت المرأة أن تطلّق نفسها أن تذكر أسباب هذه الرغبة أمام المحكمة لأنّها لا تخسر كثيراً مادّياً بطلاقها، بينما ويتكلف الزوج الكثير في حالة وقوع الطلاق. كما يحقّ للمرأة التي تحدد سلفاً في عقد زواجها الأسباب التي ستطالب بالطلاق من أجلها. وهناك أقتراحات (في بعض البلدان الإسلامية قانون يجب اتباعه) بأن يتم طلاق الرجل للمرأة أمام محكمة مصاحبة لإجراءات قانونية للتوثيق وحتى يتم تجنب أي سوء استخدام.

والأمر لا يختلف كثيراً إذا ما ناقشنا وضع المرأة بالنسبة لقانون الميراث، فالمرأة ترث نصف ما يرثه أخوها كما ورد في الآية 11 من سورة النساء، ولكن وضعها هذا أفضل، لأنّها غير ملزمة بإنفاق ما ترثه على الأُسرة، بينما يكون الأخ مسؤولاً عن الإنفاق على الأُسرة بما فيها هذه الأخت التي ورثت نصف ما ورثه، فلها الاحتفاظ بكامل نصيبها، وعلى أخيها أن ينفق عليها حتى يزوجها إن لم تكن متزوجة، وبالتالي تحتفظ بنصيبها دائماً. كما يكن للمورِّث أن يعطي من ثلث ميراثه لبناته فيضاف إلى حقّهن.

وأخيراً، فهناك ما يربك الرأس فعلاً عندما نتدبّر معنى الآية في قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى) (البقرة/ 282). ولقد سيقت تفسيرات عدة على مر التاريخ لتوضيح هذا الأمر ولكن لم تلقَ قبولاً، وبخاصّة تلك التي وصفت المرأة بأنّها كائن عاطفي ولتعرضها لتغيرات بيولوجية مثل الدورة الشهرية والحمل والولادة وسن انقطاع الطمث، كما لو كان الرجل دائماً في أفضل صحّة وحال وواعٍ تماماً ولا تحكمه نزوات أبداً.

أما حل هذا اللغز، فيمكن في تحديد أنّ القرآن طلب في هذا الموقع بالذات شهادة أمرأتين، وهو يخص أمراً مالياً على وجه التحديد، بينما لم يذكر ذلك في المواقع الثمانية الأخرى التي يتحدث فيها عن الشهادة. فإذا كان الأمر فعلاً يدور حول إمكانية الاعتماد على قوّة ملاحظ المرأة، أفلم يكن القرآن ليطلب شهادة امرأتين في الجرائم وإقامة الحدود؟ ولكن اعتقد أنّ حقيقة الأمر أنّ القرآن انطلق من واقع عدم معرفة المرأة في هذا الزمن لقواعد العقود المالية وعدم درايتها وخبرتها بها؛ ولذلك فإنّ الآية 282 من سورة البقرة تؤدي إلى حماية الجماعة وحفظ حقوقها.

 

المصدر: كتاب الإسلام في الألفية الثالثة ديانة في صُعود

ارسال التعليق

Top