• ٤ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القُرآنُ الكَريْمُ يَبْنْي الخَلفِيَّةَ التَّاريْخِيَّةَ لِلمَوْضُوعِيَّةِ

أ. د. عبد الكريم بكّار

القُرآنُ الكَريْمُ يَبْنْي الخَلفِيَّةَ التَّاريْخِيَّةَ لِلمَوْضُوعِيَّةِ

تتمثل رحمة الله تعالى للعالمين في ذلك التتابع العجيب لرسالات السماء من أجل هداية الخلق، وتعريفهم بوظائفهم في هذه الحياة؛ وحتى ينسجم الشكل مع المضمون فإن الخطوط العريضة في دعوات الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – ظلت واحدة، من توحيد الله – تعالى – وعبادته والإِحسان إلى الخلق وكف الأذى وإعمار الأرض... إلخ وقد شكل ذلك التجانس سياقاً عاماً وبعداً تاريخياً فريداً لكل من أكرمه الله بالانتفاع بهدي الأنبياء. ومن ثم فإنّ الذي يؤمن بمحمد (ص) لا يكون قد آمن بنبي فحسب، لكنه يكون قد وضع نفسه في السياق العام لتاريخ البشرية... وفي هذا يقول الله – تعالى:
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ...) (الشورى/ 13).
وقد عني القرآن الكريم بأن يوجز لنا أنشطة الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – في تبليغ الرسالات، كما عني ببيان مواقف أقوامهم منهم، والحوارات التي تمت بينهم؛ وذلك حتى يكوِّن ذلك جذور الأحكام والتعليمات الخاصة بهذه الأمة. وهذه قضية مهمة في تجذير المستند الفلسفي للأحكام والإِجراءات التكليفية من النواحي المنطقية والعرفية والنفسية. وحين نرى أنّ التاريخ في جوهره ليس أكثر من جملة من المبادرات الفذة استتبعت عدداً كبيراً من الاقتداءات ندرك أهمية مثل هذه الخلفية! ونحن هنا نسوق جملة من الأمثلة التي توضح الخلفية التاريخية التي سردها القرآن الكريم، وهو يقوم ببناء التفكير الموضوعي لدى المسلم. ونحن لا نعمد هنا إلى الاستقصاء، وإنما إلى مجرد التمثيل. ولا بد من الإِشارة هنا أنّ تلك النماذج الهادية قد تكون بياناً من رسول، كما قد تكون عتباً على تصرف أمة من الأمم السالفة، وقد تكون حكاية لحوار وجدال بين أطراف شتى...

1- معرفة حدود الذات:
إن من أهم مفردات الموضوعية أن يدرك الإِنسان أبعاد أية مشكلة أو موقف يريد أن يتعامل معه التعامل الصحيح؛ لكن الأهم من ذلك أن يدرك المرء أبعاد ذاته؛ إذ الجهل في هذا وخيم العواقب؛ حيث يؤدي في بعض الأحيان إلى الكبر والغرور والتهور، وقد يؤدي في أحيان أخرى إلى نكران الذات وعدم الاستفادة من إمكاناتها المقدورة لها. وفي هذا السياق نجد القرآن الكريم يخبرنا عن حنو نوح – عليه السلام – على ولده فيسأل الله – تعالى – نجاته من الغرق:
(رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (هود/ 45).
وهنا يأتي التنبيه له من الله تعالى بالكف عن سؤال أمور لا يعرف حقيقة حالها، أخطأ هي أم صواب:
(قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) (هود/46).
وتأتي الإِنابة السريعة إلى الله تعالى والاعتصام به من تكرار ذلك:
(قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (هود/ 47).
إنّ هذا تعليم لهذه الأمة بأن يعرف كل منها حدود ذاته وقدر نفسه، وإذا ما أخطأ، أو قصر فإنّ طريق الأوبة نيرة لاحبة!
وحين أخبر الله تعالى الملائكة الكرام أنّه جاعل في الأرض خليفة استفهم بعض الملائكة على سبيل التعجب الاستعلام: كيف يستخلف الله بني آدم، وفيهم من يفسد في الأرض. وحين أدركوا أنّهم قد تجاوزوا حدودهم بذلك قالوا:
(سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا...) (البقرة/ 32).
أي ننزهك يا الله عن النقص، ونحن لا نعلم إلاَّ ما علمتنا إياه.
ولما سأل بعض أحبار يهود النبي (ص) أن يأتيهم بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى جملة ذكر الله – تعالى – لنبيه (ص) أن جرأة يهود مألوفة معروفة؛ وقد كانوا من قبل قد سألوا ما هو أشنع حين قالوا:
(...أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً...) (النساء/ 153).
وكان أن أخذتهم الصاعقة بظلمهم وبغيهم.
فقد عزى الله نبيه (ص) وسلاه حين أنبأه أنّ ظاهرة (التوقح) وتجاوز القدر في المسألة مسألة تاريخية، لكنها ممقوتة يستحق عليها صاحبها العقاب حتى تعود البشرية إلى رشدها.

2- التثبت:
من ثوابت الموضوعية التثبت من حقيقة ما يصادفه المرء في حياته قبل أن يتخذ موقفاً تجاهه؛ وقد ركز القرآن الكريم على هذا الجانب حتى لا يقع المسلم في سلسلة من الأخطاء نتيجة الفهم الخاطىء، أو القاصر؛ وقد عرض القرآن الكريم هذا الموضوع بأساليب شتى حتى يصبح حقيقة راسخة؛ فهؤلاء فتية الكهف الذين ربط الله على قلوبهم يقولون:
(هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ...) (الكهف/ 15).
وهذا يوسف يقول:
(مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) (يوسف/ 40).
وإذا كان الله تعالى يريد من عباده أن يتبينوا فإنه يساعدهم على ذلك؛ فهو يرسل رسله بالآيات البينة التي تقنع المطلع عليها، وتجعله على بيِّنة من أمره؛ وفي هذا يقول القرآن الكريم:
(ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) (المؤمنون/ 45).
وهذا نبي الله سليمان – عليه السلام – يتفقد الطير، فلا يرى الهدهد، وحين علم أنه غاب دون إذن منه قال:
(لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) (نمل/ 21).
وقد جاء الهدهد بأخبار بلقيس ملكة سبأ، وشرح له بعض أحوالهم؛ ليكون ذلك مسوغاً لغيابة؛ لكن سليمان لم يقنع بتلك الحجة التي كان يطالب بها، وإنما قال:
(سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (نمل/ 27).
إنه امتحان للحجة، وتعليم للناس أن يميزوا بين حجة وأخرى.
ويعرض الكتاب العزيز في صورة أخرى توبيخ الذين يجادلون في أمور لا علم لهم بها؛ كما فعل اليهود والنصارى حين كان كل منهم يحاول جعل إبراهيم – عليه السلام – منسوباً إلى ملته؛ فقال سبحانه:
(هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (آل عمران/ 66).

3- نبذ الآبائية:
كثيراً ما يكون تراث الآباء سبباً في تعطيل العقل والاستفادة من خير طارف يخالف ما كان عليه السابقون، ومن ثم فإنّ الإِنسان مكلف بامتلاك الميزان الذي يمكنه من تقويم تركة أسلافه، وإنزالها في المنزلة اللائقة بها، لئلا يقدس ما كان عارياً عن كل مقومات البقاء سوى ميزة القدم! وقد ضرب لنا إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – المثل المنير في موالاة الله – تعالى – والحق الذي آتاه والانسلاخ عما ساد في مجتمعه من ضلال؛ وفي هذا يقول الله – تعالى – :
(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) (توبة/ 114).
لقد عانى الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – على اتساع أمداء الزمان والمكان من مشكلة تقديس أقوال الآباء والأجداد وإيثارهم على الهدى؛ ومن ثم فإنّ الرسل الكرام شنوها حرباً لا هوادة فيها ضد صنمية ميراث السابقين حتى تتهيأ عقول الناس لقبول الدعوات السماوية الجديدة التي تخالف جُلَّ ما كان يسود في مجتمعاتهم من خرافات وأساطير مما تناقلوه كابراً عن كابر دون أدنى نظر أو تمحيص.

4- إنصاف الناس وعدم هضم حقوقهم:
عندما ينشب الخلاف، وتثور العداوات يصبح كثير من الناس عاجزاً عن الإِبصار بعينين؛ فهو لا يرى إلاَّ المثالب والمساوئ، وحين تهبُّ رياح المودة فإنّ كثيرين أيضاً لا يبصرون إلاَّ بعين الرضا؛ ومن هنا جاءت دعوة شعيب لقومه واضحة صريحة للخلاص من هذه النقيصة حين نصح قومه:
(وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ) (هود/ 85).

5- النظرة التفصيلية:
من أكبر الأخطاء التي تنافي الموضوعية إصدار الأحكام العامة في القضايا الإِنسانية حيث يتشابك عدد من العوامل في إيجاد الظاهرة الواحدة، وحيث يصبح الربط بين ظاهرةٍ ما وبين ظواهر أخرى معقداً غاية التعقيد؛ مما يستدعي الأناة في إصدار الأحكام، وتفصيل ما يحتاج إلى تفصيل. وفي هذا الصدد يقول الله – سبحانه وتعالى – :
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (التحريم/ 10-11).
فقد وجد الكفر في بيت نبيين من الأنبياء الكرام، وخرج الإِيمان من بيت أعدى أعداء الله؛ وفي ذلك تبصرة لأولي الألباب حتى لا يحكموا بالإِيمان أو الكفر لأهل بلدة أو قبيلة أو بيت بصورة عامة.
ويحكي لنا القرآن الكريم قول بعض علماء بني إسرائيل الذين كانوا في جيش طالوت حين قالوا:
(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 249).
فالنصر لا يتوقف على عدد وحده أو عدة وحدها أو الإِخلاص وحده، ولكن هناك عوامل عدة تسهم في تحقيقه؛ وفي هذا دفع للمؤمنين كي يحاولوا تحقيق ما يمكن من تلك العوامل حتى يفوزوا بالغلبة.

6- نقد الذات:
إنّ نقد الذات يمثل إحدى قمم الموضوعية، فهو إقرار ببشرية بني آدم التي لا تستطيع أن تخرج من دوائر الجهل والقصور والخطأ – إلاَّ من عصم الله – ؛ وفي هذا السياق يحدثنا الله تعالى عن أبينا آدم وأمنا حواء حين أكلا من الشجرة، وبدت لهما سوآتهما، وعرفا الوقوع في المخالفة؛ فإنهما أسرعا إلى الإِنابة قائلين:
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف/ 23).
والتوبة لا تكون إلاَّ بعد اكتشاف خطأ؛ واكتشاف الخطأ لا يكون إلاَّ بعد صحوة عقل، أو صحوة ضمير، وكل منهما أمارة النضج والرقي! وهذه السنَّة التي سنَّها أبونا آدم لنا ستظل خميرة يستنبت فيها الصالحون من أبنائه صنوفاً من الأوبات والمراجعات!
وهذا موسى – عليه السلام – يعترف بخطئه حين قتل القبطي نصرة للإِسرائيلي، ويقول:
(رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (القصص/ 16).
وهذا يونس يعلن بكلمات ملؤها الضراعة والثناء على الله – سبحانه وتعالى:
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء/ 87).
وهذه بلقيس ملكة سبأ تعلن توبتها من عبادة الشمس قائلة:
(رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (النمل/44).
إن نقد الذات سيظل مقياساً دقيقاً للوعي بالذات وللوعي بالماضي والحاضر، والأمة التي تحرم منه تحرم من خير كثير!

7- المرونة الذهنية:
إنّ الإِحاطة بموضوع ما وجذوره وأسبابه وعواقبه ووجوه ارتباطه مع موضوعات أخرى تجعل المرء يتحلى بفضيلة المرونة الذهنية، التي تُوجِد للإِنسان مساحات للحركة يوازن فيها بين الخير والشر وأنواع الخير وأنواع الشر؛ فيحاول من خلالها النفاذ إلى تحقيق خير الخيرين، ودفع شر الشرين، كما يحدد بها علاقته بذلك الموضوع، وما يمكن تجاوزه منه، وما لا يمكن. وإليك بعض النماذج القرآنية التي تؤسس هذه السمة الحميدة:
(أ) ذهب موسى – عليه السلام – لمناجاة ربه، وترك أخاه هارون خليفة في قومه، وقد قام السامري بما قام به من صياغة عجل لبني إسرائيل حتى يعبدوه من دون الله، وقام هارون بنصحهم وموعظتهم، لكنهم لم يقبلوا منه، وحين عاد موسى قال:
(يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (طه/ 92-93-94).
فقد خاف هارون أن تتفرق كلمة بني إسرائيل إن تركهم، ولحق بموسى فينقسموا إلى قسمين: قسم يقيم على عبادة العجل، وقسم يلحق به. هذا الفهم من هارون – عليه السلام – كان نتيجة موازنة بني اللحاق بأخية والتبرؤ مما فعل بنو إسرائيل، وبين خوف الفرقة بين بني إسرائيل وتشتت شملهم، فآثر الإِقامة معهم، والعجلُ يُعبد على مرأى منه على الفرقة والشتات.
(ب) في الرحلة التعليمية التي قام بها موسى – عليه السلام – مع الخضر قام الخضر بقتل غلام وخرق سفينة المساكين، وقد اعترض على ذلك موسى؛ لما في عمله من إتلاف النفس والمال؛ فأجابه الخضر بقوله:
(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) (الكهف/ 79-80-81).
قد علمنا الخضر – عليه السلام – كيف نوازن بين الإِبقاء على سفينة معيبة، وبين ذهابها بالكلية؛ ولا ريب أن بقاءها معيبة أخف شراً؛ كما علمنا أن موت نفس واحدة أخف شراً من هلاك نفسين.
(ج) قال الله تعالى:
(غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الروم/ 2-3-4).
حين نزلت هذه الآيات فرح المؤمنون لأنّها تحمل البشرى بعودة الكرَّة للروم على الفرس، وكانوا يحبون ذلك؛ لأنّ الروم أهل كتاب، كما أنّ المسلمين كذلك؛ كما كانت قريش تتمنى أن يظهر الفرس؛ لأنّهم مثلهم. ومع أنّ الروم مشركون في نظر المسلمين إلاَّ أنّ هناك بعض نقاط اللقاء؛ فقد أباح الإِسلام ذبائحهم ونكاح نسائهم، ولم يكن ذلك جائزاً بالنسبة لعباد الأوثان من الفرس وأشباههم. إنّ فرح المؤمنين يدل على تفرقتهم بين الشر الكبير والشر الصغير، وهم بفرحهم بانتصار الشر الصغير على الشر الكبير يعبرون عن رؤية مرنة يحتاجها المسلم في كل زمان ومكان.
هذا البناء للخلفية التاريخية كان بمثابة التمهيد للعقل المسلم حتى يشعر أنه حين يؤمر بسلوك دروب الموضوعية والواقعية والإِنصاف، فإنما يؤمر بالسير في طريق لاحبة خطا فيها من قبلُ الأنبياء والمرسلون ومن معهم من خيار بني البشر، ليشكل ذلك جزءاً من النظام الشعوري وجزءاً من المحك المرجعي للمسلم فيما بعد. وقد آتت هذه اللفتات أكلها؛ فلم تمضِ مدة يسيرة على البعثة المحمدية حتى هبت رياح التغيير الجذري على العقلية العربية وعقلية الشعوب التي دخلت في الإِسلام بعد.

المصدر: فصول في التفكير الموضوعي

ارسال التعليق

Top