• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الأبعاد التربوية والاجتماعية لشهر رمضان المبارك

إلهام هاشم

الأبعاد التربوية والاجتماعية لشهر رمضان المبارك

(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة/ 185).

يبدأ المسلمون في شتى أصقاع الأرض هذه الأيام صوم شهر رمضان المبارك الذي أوجب الله عليهم صيامه، كما تبيّنه الآية المباركة، ويبدأون بذلك فترة طاعة متميزة عن بقية أيام العام. فشهر رمضان شهر عبادة وتربية من يومه الأوّل.

ولا تقتصر آداب الشهر على الحضور الجماعي المتمثل بالاستهلال، وانما تشمل طرق التواصل من أجل تحقيق التضامن الإسلامي، ففي الحديث الشريف: "من فطّر صائماً فله مثل أجره". وقد اعتاد المسلمون قراءة القرآن خلال هذا الشهر في مجموعات كبيرة أو صغيرة، واعتادوا التزاور وإفطار بعضهم البعض تطبيقاً للحديث الشريف، كما اعتادوا قراءة الدعاء في مجموعات والتهجد والتبتل في المساجد كلّ يوم. وكلّ هذه المظاهر تعكس حرص الإسلام على تحقيق الحالة الجماعية للعبادة التي قد تبدو فردية في طابعها فيما لو لم يركّز على المسائل السالفة. وحدوث العبادة العبادية المتميزة في الشهر تؤكد حضور الأُمّة في الميدان، كما تؤكد فضل هذا الشهر المبارك عند الله. ففي الحديث الشريف: "من لم يغفر له في شهر رمضان، لم يغفر له إلى قابل إلا أن يشهد عرفة".

هذه الحالة الروحية التي تجعل المسلم يحلّق في عالم الملكوت مقدّمة لتحوّله بقوة إلى إنسان مطيع لربه مرتبط بأمته، متطلع لعفو ربه. ولقد حدد الإسلام آداباً عامة للصوم، تجعل إقدام المرء على عمل معصية أمراً صعباً، إلا أن يغمض عينيه ويصم أذنيه عن معرفة ما يريد الله على صعيد السلوك والتعامل. ففي الحديث انّ "مَن صام صامت جوارحه"، وصوم الجوارح عن المحرمات مفهوم عام يشمل الامتناع عن كلِّ المحرمات كالسرقة وإيذاء الناس والقول البذيء والاستماع لما حرّم الله والأكل من الحرام. بل أنّ الأجواء العامة التي تتوفر في بلاد المسلمين خلال هذا الشهر تجعل ارتكاب المعصية أمراً صعباً على غير ما هو عليه الحال في الأيّام العادية. هذه الحالة العامة المملوءة بمظاهر التعبد والخشوع والطاعة تكرس حالة التدين لدى الناس وتجعل الشباب محكوماً لها فلا يجد ما يشجعه على ارتكاب المحرمات إلا أن يكون قد تمرس فيها بدرجة كبيرة بحيث يعرف الطرق منها وإليها. ومع ذلك فحتى هؤلاء لا يشعرون بالحرية المطلقة وهم يعتزمون اقتراف الذنب لأنّ الوضع الاجتماعي لا يسمح بذلك.

انّ المطلوب من المؤمنين وهم يستقبلون شهر رمضان المبارك أن يؤكدوا الحالة الإسلامية الملتزمة في المجتمع. فيعملوا على تكريسها بتشجيع الحضور الجماعي في المساجد وأماكن التجمع، وأن يؤكدوا على صلاة الجماعة في أوقاتها وقراءة القرآن والدعاء في أوقات الفراغ، وباختصار أن يعطوا لشهر الصوم حقه من مظاهر العبادة واحترام المقدسات بحلول هذا الشهر المبارك وندعو الله العليّ القدير أن يجعله شهر عزّ وكرامة للمسلمين وشهر انتصارات على جبهات الصراع المستمر بين الحقِّ والباطلِ.

ولا تقتصر فوائد شهر رمضان على الجوانب الروحية، بل انّ لهذا الشهر الكريم جوانب متعددة، منها الصحية "صوموا تصحوا" والتربوية "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك وشعرك وجلدك"، "لا يكون يوم صومك كيوم فطرك" والاجتماعية. ففي الجانب التربوي تحث الأحاديث الشريفة على ضرورة انعكاس حالة الصوم على سلوك الإنسان كوسيلة تربوية تمتد بآثارها إلى ما بعد أيام شهر رمضان. ففي الحديث الشريف "انّ الصيام ليس من الطعام والشراب وحده"، قالت مريم: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) (مريم/ 26)، أي صمتا. فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم وغضوا أبصاركم ولا تنازعوا ولا تحاسدوا.

وسَمِعَ رسول الله (ص) امرأة تسب جارية لها وهي صائمة، فدعا رسول الله (ص) بطعام فقال لها: "كلي فقالت: إني صائمة، فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك، انّ الصوم ليس من الطعام والشراب". وفي حديث آخر: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك من الحرام والقبيح ودع المراء وأذى الخادم. وليكن عليك وقار الصيام، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك". وفي حديث آخر: "الكذبة تنقض الوضوء وتفطر الصائم".

هذه الأحاديث الشريفة تعطي صورة لما يجب أن يكون عليه الصائم على صعيد الممارسة اليومية، وهي صورة تتسم بالاشراف الأخلاقي والنظافة السلوكية. فإذا ما تم التقيد بما تستلزمه أمكن صنع الشخصية الإسلامية المتكاملة التي هي من أهداف العبادات في الإسلام. فليس المراد من الصوم الامتناع عن الأكل والشرب كغاية كبرى، وانما هناك أهداف عديدة يكون صوم البطن مدخلاً لتحقيقها. فالصائم يجب أن يجعل من شخصيته أنموذجاً للكمال البشري، فلا كذب ولا مراء ولا سب ولا قذف ولا نظر للحرام و... فكلّ ذلك يفطر الصائم لأنّه منافٍ للأهداف الكبرى التي وضعت للصوم من قبل الله سبحانه وتعالى. هذه التربية العملية لا يرقى إليها أي برنامج بشري تربوي، فهي نابعة من الشعور بأنّ الامتثال لها عبادة وليس بسبب الخوف من الضغوط البشرية أو الطمع في مكافآت مادية كما هو الحال مع الفعاليات الاجتماعية التي هي من صنع البشر مثل كرة القدم وغيرها من الأنشطة التي يكون الحافز فيها في العادة مادياً.

هذا الجانب الأخلاقي في عبادة الصوم يترك آثاره المباشرة على حياةِ المسلمين في شتى بلدانهم. فالمسلمون يشتركون في الشعور بضرورة الالتزام بمفردات الصوم على الصعيدين العبادي والأخلاقي، وبالتالي فهناك صورة مشتركة للمسلمين كأُمّة واحدة يستلهمون تعليماتهم من مصدر واحد. ولكن في الوقت نفسه هناك جانب آخر قد لا يكون ظاهراً للمسلمين أنفسهم ولكنه واضح لمن يتعمق في دراسة شهر رمضان وعبادة الصوم، وما لهما من أثر اجتماعي على الشعوب الإسلامية المختلفة.

ويمكن القول بأنّ هناك "نشاطاً" رمضانياً يطبع الشعوب المسلمة ويعتبر من مظاهر احتفاء هذه الشعوب بقدوم شهر الصوم. فلكلِّ شعب عاداته وتقاليده على مستوى أنواع الأكلات والأطباق الرمضانية، وخصوصاً الأطعمة الحلوية التي يعتبر وجودها علامة من علامات الشهر المبارك. ولكلِّ شعب طريقته الخاصة في التزاور والإفطار الجماعي خلال هذا الشهر "مَن فطّر صائماً فله مثل أجره". وحتى الممارسات الاجتماعية وقضاء الأوقات وخصوصاً في الليل حيث يقوى الصائمون على القيام بأنشطة معينة، كلّ ذلك من سمات الشهر المبارك التي تميزه عن الشهور الأخرى، وتجعل أمة المسلمين متميزة عن الأُمم الأخرى التي تشاركها الاهتمام بشهر رمضان المبارك.

إذن فشهر الصوم ليس مناسبة عبادية فقط. وإن كان المؤمنون يتسابقون في قراءة القرآن والدعاء والصلاة لتحقيق أكبر قدر ممكن من الإنجاز الروحي، بل هو شهر تتداخل فيه العبادة بالأعراف الاجتماعية والتقاليد، إذ ليس كلّ الناس يهتمّون بالشهر الكريم من المدخل الديني المحض ولكن هنالك مداخل عديدة للاهتمام والتفاعل منها الاجتماعي ومنها ما يرتبط بالأعراف والتقاليد. ومجموع هذه المداخل يجعل للشهر الكريم صورة متميزة من حيث تأثيره المباشر على حياة الناس ومن حيث تأثّر حياة الناس به. انّه مناسبة إسلامية أخرى من تلك المناسبات التي تجعل من الإسلام حركة فاعلة في الحياة تستهدف صياغة الإنسان الذي يحمل الرسالة ينفعل بها قبل أن يحاول التأثير على غيره من خلالها.

"اللّهمّ تقبّل صيامنا وصلاتنا في هذا الشهر الكريم يا ربّ العالمين".

ارسال التعليق

Top