• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإسلام سجل التشريع الكوني للإنسان

أسرة البلاغ

الإسلام سجل التشريع الكوني للإنسان

حقائق هامّة وخطيرة في رحاب الكون والحياة وهي:

أ- وحدة المبدأ: الله سبحانه. ب- وحدة الخلق – على تعدد أفراده – ج- وحدة النظام الذي يحكم العالم بأسره. د- وحدة الغاية والاتجاه إلى الله. وبهذه النظرة – نظرة الوحدة والتوحيد – نصل إلى ضرورة خضوع الإنسان وارتباطه بهذه المبادئ – وحدة المبدأ والخلق والنظام والغاية – ودخوله في الإطار الجامع للوجود، وانتظامه في خط المبدأ والنظام والغاية، وليسير معه على خط الشريعة الإلهية التي تصوغ له النظام والغاية قانوناً يملأ كل وجوده ويستوعب مختلف نشاطه: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثية/ 18).   - الإرادة والالتزام: عندما نتحدث عن هذه الوحدة الكونية العامة لنصل إلى استنتاج ضرورة وجود قانون كوني للإنسان يحكم نشاطه، وينظم علاقاته، ويصوغ محتواه الذاتي سلوكاً وعملاً، عندما نتحدث عن ذلك لابدّ لنا من أن نميز بين الالتزام الإنساني الإرادي وبين الخضوع المادي القسري. فالإنسان يملك الاختيار والقدرة على التطابق مع هذا القانون الكوني المنتزع من طبيعة الوجود الإنساني لينظم مساره الاجتماعي ويمارس حياته وعلاقاته على أساس منه، فيعبر عن طريق الالتزام بهذا النظام الإلهي عن كل محتواه وكوامنه، وما تنطوي عليه ذاته من إمكانات النشاط والإبداع والكمال، ومظاهر الحياة بطريقة إرادية. وبعبارة أخرى يستطيع الإنسان أن يصوغ نشاطه بممارسة اختيارية وفق تصميم قانوني يكفل بناء هيكل الحياة ويحفظ لها خيرها وأهدافها السامية بين كائنات الوجود. وهذا التصميم القانوني يجب أن يكون تشريعاً متطابقاً بمبادئه وأهدافه مع طبيعة الفطرة وأحاسيس الإنسان وحاجاته، بحيث يستوعبها جميعاً، وينظمها تنظيماً دقيقاً ليوفر للإنسان خيره وسعادته. وقد جاءت الشريعة الإسلامية صياغة قانونية لقواعد الحياة، والطبيعة الإنسانية. فصارت بمقتضى ذلك هي السجل الحاوي لكل مبادئ التنظيم والنشاط المنسجمة مع الحياة ونظام الوجود الإنساني، قال تعالى: (.. فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم/ 30). (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (الشورى/ 13). (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام/ 153).   - مراحل الوجود القانوني: وتبتني هذه الحقيقة: حقيقة أنّ الإسلام هو سجل التشريع الكوني للإنسان، وهو الصيغة التشريعية الكاشفة عن قانون الطبيعة الإنسانية. تبتني هذه الحقيقة على أن في هذا الوجود الإنساني حقائق وقوانين تتحكم به وتسيّره، وهو بدون هذه القوانين والأنظمة فوضى وعبث وفساد. وان نحن تابعنا حالات ظهور هذه القوانين، ومراحل تحققها في حياة الإنسان نجدها كغيرها من قوانين الطبيعة تتجسد وتظهر في ثلاث صيغ وجودية في عالم الإنسان وهي:   1- الصيغة الموضوعية: للقوانين الإنسانية صيغة موضوعية تتحكم في ذات الوجود الإنساني العقلي والنفسي والمادي، وهي قائمة بذاتها، مثلها كمثل قوانين المادة الطبيعية التي تتحكم في تنظيم العالم المادي من حيث واقعيتها واستقلالها وترابطها وترتيب نتائجها وآثارها.. إلخ. فللتفكير قواعد وقوانين يجري عليها، وللنفس قواعد وقوانين وغايات تعمل وفقها وتتحكم بحركتها واتجاهها. وللجسم قوانين وقواعد وغايات وحاجات تسيطر على نشاطه وفعالياته، وللعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قواعد وقوانين تتحكم بها وتحدد نتائجها.. إلخ.   2- الصيغة العلمية: أو المرحلة العقلية لهذه القوانين والحقائق التي تتحكم في حياة الإنسان، وهي مرحلة احاطة العلم بهذه القوانين والتوفر الكامل على كشفها وانتزاعها من موضوعاتها كما تنتزع قواعد النحو والفيزياء والفلك.. إلخ من مواضيعها وموارد انطباقها.   3- عملية الصياغة القانونية: أو التعبير اللغوي المعبر عن معنى القوانين وأهدافها، بطريقة يفهمها الإنسان المكلف بها ليجري حياته، ويبني علاقاته، وينظم سلوكه ونشاطه الفردي والاجتماعي على أساسها. والمراحل الثلاث التي يمر بها التشريع ليست مقدورة بصيغتها الحقيقة إلا لخالق الوجود وحده، فهو خالق الإنسان وهو الخالق للقوانين والأنظمة، وهو العالم بها، والمحيط بكل وقائعها والصادق في التعبير عنها، بعكس الإنسان المشرّع فعلمه وقدرته محدودة في اكتشاف القانون والنظام الطبيعي للحياة، إضافة إلى انتقاء صفة النزاهة والموضوعية عنه في حالة تعامله مع القانون، فهو يزيّفه لصالحه أو لصالح فئة معينة، ولا يعبر عن الحقيقة القانونية بصيغتها العلمية والموضوعية. والأدلة كثيرة ومتعددة على ذلك. مثالها انّ الإنسان عندما اكتشف ضرر الخمر، والزنا والربا والاحتكار.. إلخ لم يحرم شيئاً من ذلك، ولم يستفد من الحقيقة العلمية المكتشفة، بل تمادى في مغالطة الحقيقة وطمس معالمها، لذا كان اختصاص الحكم والتشريع بالله وحده هو الطريق لانقاذ الإنسان وانتشاله من هاوية السقوط، لأنّ الله هو النزيه العالم بكل خفايا هذا الإنسان وخبايا حياته (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك/ 14). والله سبحانه هو القادر على إيصال ما يريد إيصاله للإنسان بالطريقة التي يفهمها الإنسان، ويستطيع التعامل معها عن طريق الوحي والأنبياء، بعد أن تصاغ بهيأة لفظية واضحة المعنى والدلالة وبهذا جاءت الشرائع والرسالات الإلهية جميعاً ناطقة وداعية: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ...) (إبراهيم/ 4). (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم/ 1). (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) (الإسراء/ 9). وصدق الإمام الصادق (ع) حين قال: "القرآن عهد الله إلى خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية"[1]. فمن هذا المنطق صور لنا القرآن الكريم حقيقة التشريع الإلهي الذي يبشر به الأنبياء، بأنّه الحقيقة الوجودية المتسقة مع طبيعة الوجود الإنساني، وكشف لنا عن عدم صلاحية غيره من قانون أو نظام أو منهج لاستيعاب الحياة وتنظيمها، إلا أن تبدل طبيعة الإنسان، أو تغير هيأة الحياة، لأنّ هذا الدين هو التصميم الإلهي الموافق لطبيعة الفطرة، وللتركيب الإنساني المتعدد الجوانب قال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) (الفتح/ 23). (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) (الكهف/ 27). (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنعام/ 115). (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (البقرة/ 108). (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون/ 71). وهكذا جاء القرآن بآياته ومفاهيمه، ليكشف عن العيون سحب العمى، ويزيح عن العقول شبهات الوهم والجهل الذي يصور للإنسان قدرته على ارتجال نظام اعتباطي حسب رغبته وهواه، وليدرك الإنسان أن نظاماً كهذا العبث المرتجل لا يمكنه أن يحل مشكلته أو ينظم نشاطه وعلاقاته الفردية أو الاجتماعية المختلفة. لأنّ القانون في هذه الحال لم يقم على أسس موضوعية، وليس له حقيقة واقعية يجري عليها سوى تصور الإنسان وتخيلاته. فنحن لو سألنا المشرع الوضعي مثلا لماذا جعلت الغرامة مائة دينار أو السجن لمدة سنة عقوبة لهذه الجريمة، أو تلك؟ وهل تقوم مثل هذه العقوبة على أساس موازنة قيمية ووجودية دقيقة، بحيث يكون طرف الجزاء في المعادلة التشريعية يساوي طرف الجريمة من حيث حجمها وأثرها الخارجي في الواقع الاجتماعي، أو ردها النفسي، بحيث تكون كافية للردع، وعادلة في اقرار موازنة الحساب بين الأطراف الداخلة في الحكم؟ وعلى أي أساس بنيت تقديرك، واستنتاجك، وتشريعك لهذه العقوبة؟ لو طرحنا عليه مثل هذه الأسئلة.. لما استطاع أن يضع لنا الجواب العلمي الدقيق، ولما استنتجنا من الحوار معه إلا أنّه يخرص ويتخبط، ويضع ويشرع بلا ميزان ولا قياس، ودون أن يدرك أنّه يمارس بعمله التشريعي هذا عملية احداث وجودية عابثة في نظام الحياة، تعاكس منطق العدالة وتناقض مبادئ الوجود. وأنّ مثل هذا التشريع يحدث بأثره السلبي خللاً كونياً بموازنة الحق والعدل الذي قامت على أساسه كل حقيقة في هذا الوجود: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران/ 18).

وصدق الله القائل: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ) (الأنعام/ 116).

 

الهامش:


[1]- السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص45.

ارسال التعليق

Top