• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

من مقاصد الشريعة الإسلامية إلى علم الكلام الجديد

أحمد بوعود

من مقاصد الشريعة الإسلامية إلى علم الكلام الجديد

  في سنة 1963 كتب علال الفاسي، كتاب (مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها). وقبله، كتب الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، من تونس، كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية" بفترة زمنية غير طويلة. ومن قبلهما بقرون، كتب شيخ المقاصد الإمام الشاطبي، كتاب (الموافقات في اصول الأحكام،) الذي خص جزءاً كاملاً منه للحديث عن مقاصد الشريعة مؤسساً ومقعداً. وهكذا توفرت للغرب الإسلامي ذخيرة هامة في علم مقاصد الشريعة الإسلامية.

ولكن، ما الذي دعا علال الفاسي، للحديث عن مقاصد الشريعة الإسلامية، في هذه المرحلة، وهو المنشغل بأعباء العمل السياسي والنضالي، ورغم الفارق القصير في التأليف بينه وبين الشيخ محمد الطاهر بن عاشور؟ أهو ترف فكري؟ أم اجترار لما كُتب من قبل؟   1- علال الفاسي ومقاصد الشريعة: كان علال واثقاً من أن الكتاب سيسد فراغاً في المكتبة العربية، وذلك لأن الكتابات في موضوع المقاصد، لم تزد على ما كتبه الإمام الشاطبي في الموافقات شيئاً، أو ان الذين كتبوا، لم يبلغوا ما إليه قصد، وبعضهم خرج عن الموضوع، إلى محاولة تعليل كل جزء من أجزاء الفقه أخذاً للمقاصد بعمناها الحرفي، إلا أن علال لم يُسّم هذه الكتابات. وهنا نتساءل: ما موقع (مقاصد الشريعة الإسلامية) للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، في منظور علال؟ وما رام الوصول إليه من كتاب (مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها) وكيف رأى مقاصد الشريعة؟. يرى الفاسي، ان هناك عقداً ربانياً إنسانياً، هو السر في خلق الله للكون، وفي تكريم الإنسان وامتحانه بأنواع التكليف، ففي مقابل الإقرار بالعبودية لله عز وجل، أعطى الله الإنسان الخلافة عنه في الأرض، وما دامت الإنسانية غير قادرة بنفسها على إدراك قواعد الفطرة التي أودعها الله في الإنسان، وهي قوام الخلافة، أرسل سبحانه وتعالى الرسل ليبلّغوا ويبيّنوا أحكامه التي تحافظ على هذه الفطرة، نقية خالصة لتكون النتيجة: سعادة أخروية وقرب من الله عز وجل. وأعمال متفقة مع ضرورات الحياة اليومية محققة للاستخلاف. هكذا، كانت الفطرة، المحور الذي بني عليه علال رحمه الله فكره المقاصدي، بل عنون مبحثاً بعنوان (الإسلام دين الفطرة) للحديث عن الفطرة ومكانتها في ديننا، فدعوة الرسل إلى الإصلاح، وتربية الناس، كانت عن طريق التذكير بالفطرة، وما جبل عليه الإنسان بصفته إنساناً ذا عقل ولغة وتكليف، كما تحاول الفطرة، تحرير الإنسان عن طريق إشعاره بالمسؤولية، وتقييده بمقتضيات الأمانة التي تحملها، وهي التي يبينها قوله عز وجل: (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) (الأحزاب/ 72). ويبين معنى كون الإسلام دين الفطرة بأنه "الدين المتفق مع ما جبل عليه الإنسان بصفته إنساناً، بما له من استعداد للحضارة والقدرة على اكتساب المعرفة والمرونة على الطاعة"[1]. ويخلص بنا المرحوم علال إلى ان واجب الإنسان، للاحتفاظ بكرامته، ان يسير في الطريق التي وضعه الله فيها، وألا ينحرف عن الفطرة الإنسانية، فيعتز بوجود الله، ويعمل بشرائعه ويتنافس في تقواه... والإنسان الحر هو الذي تتصور فيه الفطرة الإنسانية، متغلبة على الطبيعة الحيوانية. لقد أفاد وأجاد في بيان الفطرة، باعتبارها الأساس الذي بنيت عليه شريعة الله عز وجل، وعليه دارت المقاصد. وكيف لا، وهي الصفة الإنسانية نفسها، بما فيها من مروءة وعقل؟ والكلام عن الفطرة كما فصّل علال يطول، ولكن نشير إلى ان الفطرة الإنسانية لا تشمل البواعث الباطنية في النفس والعقل فقط، وإنما تتعلق خصوصاً بما فطرت عليه الأفعال الإنسانية، وهي عند أبي القاسم الأصفهاني: ·   عمارة الأرض المذكورة في قوله تعالى: (.. وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا...) (هود/ 61)، وذلك تحصيل ما به توجيه المعاش لنفسه ولغيره. ·   وعبادته، وهي المذكورة في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، وذلك هو الامتثال للباري تعالى في عبادته وفي أوامره ونواهيه. ·   وخلافته المذكورة في قوله تعالى: (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف/ 129)، وغيرها من الآيات. وذلك هو الاقتداء بالباري سبحانه على قدر طاقة البشر في السياسة باستعمال مكارم الشريعة. ثم يقول الأصفهاني: فمن لم يصلح لخلافة الله تعالى، ولا لعبادته، ولا لاستعمار أرضه، فالبهيمة خير منه. ولذلك قال الله تعالى في الذين ثكلوا هذه الفضيلة: (.. إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ...) (الفرقان/ 44)[2]. نعم، الإسلام دين الفطرة، ودين العقل والعدل. ولبيان ان الإسلام دين العقل والعدل، استعرض آراء القدامى والمحدثين، ليخلص بنا إلى أن "ليس هناك في الإسلام أصل ديني فوق العقل، أي، يستحيل في العقل تصوره، على عكس ما في المسيحية اليوم. كما انه ليس هنالك عقل فوق الدين، كما ذهب بعض المعتزلة، وإنما هناك دين مطابق للعقل وعقل مساعد للدين، وليس هناك دين معارض للعلم، وإنما هنالك علم مساعد لاكتشاف حقائق الكون ودلالتها على خالقها..[3] وكان العدل، هدف الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، وبيّن علال، كيف ان العدالة في الشرائع الغربية، ظهرت مستقلة عن هذه الشرائع، فكانت مصدراً خارجاً عن القانون، بخلاف الشريعة الإسلامية، التي كانت العدالة مقصداً من مقاصدها ومن صميمها. ويلاحظ ان العدل الإسلامي لا يقبل التبديل، وأما الاحكام الجزئية فقد تتغير بحسب الظروف والاعتبارات، لأنها غير مقصودة لذاتها، وإنما المقصود هو العدالة الشرعية. فكيف يُعرّف علال الفاسي مقاصد الشريعة الإسلامية؟ يقول علال: "والمقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض وحفظ نظام التعايش واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين وقيامهم. بما كلفوا به من عدل واستقامة ومن صلاح في العقل وفي العمل وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع"[4]. إنه تعريف شامل واسع واضح، جمع بين المقاصد ووسائل تحقيقها. وفي التعريف، عنصر لم أر من نبّه عليه وهو قوله: "إصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها". وهذا إنما لكون الرجل كان فاعلاً في واقعه منفعلاً معه. والملاحظ ان علال، حينما كتب عن مقاصد الشريعة، لم يكتب بالطريقة التي كتب بها الفقهاء والاصوليون، كما هو الشأن بالنسبة للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، مثلاً، وإنما كتب بطريقة أكثر شمولية وواقعية. وهنا نقول: إذا كان ابن عاشور كتب "مقاصد الشريعة الإسلامية" من أجل التخفيف من حدة الخلاف، متوجها بذلك إلى العلماء الاصوليين والفقهاء والمجتهدين،[5] فإن علال الفاسي تميز تحليله لموضوع المقاصد بعرض الشبهات التي تثار في بعض مناحي الشريعة والدين. وقد أشار إلى هذا في مقدمة الكتاب، حيث قال: "ولم أغفل عن المباحث التي وقعت حولها من المعاصرين، مما اقتضته شبهات الوقت والمتشابهات، فجمعت بذلك بين نقاط الجدل القديم والجديد، ودللت القارئ على نقاط الضعف فيها ووسائل الإجابة عنها"[6]. فهل يمكن القول: ان علال الفاسي كان يؤسس لعلم كلام جديد، انطلاقاً من مقاصد الشريعة؟   2- علال الفاسي وعلم الكلام الجديد: كلنا يقدر الوظيفة التي كان يقوم بها علم الكلام قديماً، اذ كان هدفه نصرة الآراء العقيدية، وحتى السياسية بين مختلف الفرق التي ظهرت اثر تحول الحكم من خلاقة إلى ملك، سواء كان ذلك داخل جماعة المسلمين أو خارجها. إلا أن نظرة فاحصة وموضوعية تنبؤنا ان علم الكلام تاه في مناقشات ومجادلات عقيمة، زادت من تمزيق المسلمين وتفرقتهم، من حيث أريد التقريب والتوحيد، وأفرغت القلوب من معاني الإيمان، من حيث أريد تثبيت العقيدة. واليوم، تبدو الحاجة ماسة إلى علم كلام جديد يحقق التواصل مع مختلف مكونات المجتمع الإسلامي وتياراته، يشمل بالأساس: 1-      اصول العقيدة، دون الخوض في الجدل العقيم غير المثمر، باستخدام العلوم الكونية والطبيعية، مع التركيز على الوظيفة الإنسانية الاستخلافية. 2-              الفقه السياسي، يبحث فيما يحقق المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية، والسعادة للإنسان. 3-      الفقه الاجتماعي، يتناول ما شُرِّع لتنظيم المجتمع من وسائل وغايات. وعلم الكلام هذا، يمكن ان يسمى اليوم بفقه الحوار: 1- بين الاسلاميين أنفسهم، في المجالات الثلاثة السابقة. 2- بين الإسلاميين والعلمانيين، أو المغربين. 3- بين الإسلاميين وأصحاب الديانات الأخرى واللادينيين. ويمكن القول أن علال الفاسي، كان رائداً في هذا المجال ومؤسساً، فكل من قرأ كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية" يدرك جيداً أنه إنما كان يقصد من ذلك، بيان صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، وتفوقها على كل قانون وضعي قديم أو حديث، بحجج واضحة ومبسطة، فبين أن فكرة العدالة، مثلاً، ظهرت مستقلة عن مجموع الشرائع اللاتينية والإنجليزية، أي مصدراً خارجاً عن القانون والعرف، عكس الشريعة الإسلامية، التي كانت العدالة من صميمها ومقاصدها، التي تعتبر المرجع الأبدي لاستقاء ما يتوقف عليه التشريع والقضاء في الفقه الإسلامي، وإنما ليست غامضة غموض القانون الطبيعي الذي لا يعرف له حد ولا مورد، ولكنها ذات معالم. وفي مقدمة الكتاب بيّن علال أنه يتتبع الاسرائيليات الجديدة، وهي الافكار المتسربة إلينا من غيرنا، عن طريق الاستعمار الروحي الذي هو آفتنا في هذا العصر. لقد كانت الفترة التي كتب فيها علال كتابه هذا، فترة خروج الاستعمار الذي ولا شك خلّف آثاره فينا، وطغيان الفكر الغربي المادي لدى أولئك الذين بعثوا إلى الغرب للعلم والمعرفة، فعادوا متشبعين بالفكر الغربي، منسلخين عن هويتهم وثقافتهم ودينهم، إضافة إلى ما كان يعرفه العالم من مدّ شيوعي واشتراكي آنذاك. ويرجع علال، هذا التسرب الإسرائيلي الجديد "والمتنوع" إلى الفكر الإسلامي الحديث، إلى جهل الفارق الإساسي بين معنى الدين وفحواه في الإسلام وفي واقع المسلمين، وبين ذلك في المجتمع الغربي وفي واقع الدول الأوربية والأمريكية. ومقاصد الشريعة الإسلامية مما يساعد على محو هذا الجهل وبيان الحق. وقد أورد علال، كثيراً من الإسرائيليات الجديدة، وفنّدها، انطلاقاً من مقاصد الشريعة، من ذلك مثلاً، ان الغربيين حاولوا ان يجعلوا من كلمة الإسلام، ما يدل على معنى الاستسلام الأعمى، وبنوا على ذلك تصورهم الخاطئ لفكرة القضاء والقدر عند المسلمين، ورتبوا على جميع ذلك، تعبير ما أصاب المسلمين من انحطاط وكسل بهذا الاستسلام الذي يعني بزعمهم الإيمان، بأنه لا حاجة لعمل شيء من شأنه أن يغير أحوال المسلمين، لان كل شيء مكتوب، فيجب الخنوع والاستسلام، وكل محاولة لغير ذلك عبث. وهنا، يوضح علال، أن الإسلام هو الانقياد لله، الناشئ عن الإيمان به ومحبته وطاعة النفس لامتثال أوامره واجتناب نواهيه، كما يعني الإنابة لله تعالى في طاعته. وهذه تعني القيام بكل ما فرضه الإسلام ودعا إليه من اعمال دينية ودنيوية لضمان السعادة والهناءة في هذه الحياة، وفي الأخرى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...) (الرعد/ 11). وعلى الجملة، فالإسلام ثورة على الجاهلية.[7] ويقول علال، مقارناً: "حل الإسلام مشكلة التفاوت الإجتماعي التي لم يجد لها الغرب حلاً لحد الآن، ولا يمكن أن يتحقق العدل إلا إذا تحققت المساواة بكل معنى الكلمة". ولذلك، فإن الذين جعلوا شعارهم المساواة احتاجوا إلى تفلسف كبير واستشارات كثيرة، حتى قال ستالين: إن المساواة تعبير برجوازي. وقد كان المظنون ان الشيوعية تعني المساواة بين المواطنين في كل شيء، كما يدل على ذلك ظاهر اسمها، ولكنها لا يمكن ان تكون كذلك، كما لا يمكن لغيرها ان يطبق المساواة في كل شيء، لأن ذلك يتنافى مع مقتضى العدل، فلا يستوي العالم والجاهل، ولا النشيط والكسلان، ولا الذكي والغبي. أما الديمقراطيون، فإنهم أكدوا أنهم لا يعملون للمساواة، وإنما يعملون للتسوية، أي انهم يحاولون المصالحة بين الغني والفقير، والقوي والضعيف، والطبقة العليا والطبقة السفلى. فالقضايا التي تناولها علال، عديدة، تصلح لأن تكون باباً للحوار مع المغربين من المسلمين بل وحتى مع اصحاب المذاهب والديانات. وكانت النتيجة التي وصل إليها علال رحمه الله، مخاطباً المغربين، بعد استعراض آراء الغربيين المنصفين في الإسلام، هي "ان المفكرين، الواعين من الغرب، لن ينظروا إلينا إلا ان محمداً، حرّم سفك الدماء، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وأقر المساواة، واستنكر الاستبداد، ومنح الإنسان حقوقه المدنية، فلتتذكر أوربا أنها مدينة بالفضل لهذا الرجل العظيم. وهذا الأستاذ جيبون يقول: ان الفقه الإسلامي مسلم به من حدود الاقيانوس والاطلانطي، إلى نهر الغانج، بأنه الدستور ليس لاصول الدين فقط، بل للاحكام الجنائية والمدينة، وللشرائع التي عليها مدار حياة نظام النوع الإنساني وترتيب شؤونه. أما ماسينيون فيقول: للإسلام الفضل في انه يمثل فكرة عادلة، مما يقوم به كل فرد من ابناء الوطن، بدفع عشر ربع الأرض للخزانة العامة. إنه يشن الغارة على المبادلة المطلقة، وعلى رأسمالية المصارف، وقروض الدولة، والضرائب غير المباشرة على أشياء ذات الأهمية الجوهرية، ثم هو يؤكد حقوق الأب والزوج والملكية الفردية ورأس المال والتجارة. ونراه هنا يقف مرة في مكان وسط بين الرأسمالية البورجوازية، وبين الشيوعية"[8]. ويؤكد علال، ان النخبة المغربة، مستعدة متى وجدت من ينصبون أنفسهم لتوعيتهم وارشادهم لأن يستجيبوا، وهم اقدر على المقارنات والمقابلات التي تريهم مزايا الفقه الإسلامي وتفوقه على كل القوانين والشرائع والملل.   - مقاصد الشريعة وعلم الكلام الجديد؛ أية علاقة؟ بعد هذا ، قد يتسائل متسائل: لماذا هذا الربط بين علم مقاصد الشريعة الإسلامية، وعلم الكلام الجديد؟ أليس كلّ منهما علماً؟ فما داعي الربط؟ وهل هو ربط دائم؟ ان مقاصد الشريعة، كما رأينا في تعريف علال الفاسي، وفي تعريف ابن عاشور، هي "المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة، وغايتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظاتها، ويدخل في هذا أيضاً معانٍ من الحكم ليست ملحوظ في سائر الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة"[9]. فالمقاصد، إذن، أداة حيوية وغنية تؤطر كل العلوم، ومن باب أولى علم الكلام، وإنما قيدنا علم الكلام، بالجديد، لسببين، هما: 1-      ان علم الكلام (القديم) أكثر اهتماماً بالمسائل والقضايا العقيدية البحتة فطبع بطابعها، وأغفل الكثير من القضايا التي لم يُوفّها حقها، ربما لم تكن الحاجة تدعو إليها، وفي مقدمتها قضايا السياسة والاجتماع، المتصلة باصول الاعتقاد. 2-      علم الكلام اليوم ينبغي ان يتجاوز تلك الخلافات العقيدية السابقة، وينبري للأمور التي تصرف الإنسان عن التدين وعن تبيّن العقيدة الصحيحة ومزايا دينه وإسلامه. وهذا، تساعد فيه مقاصد الشريعة، أكثر من غيرها من العلوم. وإن كنا لا ننكر أن تتضافر العلوم الأخرى لخدمة هذا العلم الذي يشكل الغاية. وعندما نقول، مقاصد الشريعة، فإننا لا نعني بذلك، الأفق التنظيري، أو أداة الاجتهاد، وإنما نعني، النتائج العملية التي تُتوِّج عن الفعل الإنساني، من جهة، ومقاصد الأحكام وأسرار التكليف، من جهة أخرى. وهو ما عبر عنه الشاطبي، بقصد الشارع، وقصد المكلف. ويمكن ان نتبين هذا، واضحاً، في كتاب (مقاصد علال الفاسي) الذي لم يجعل المقاصد أداة للاجتهاد فقط، بل أراد سلوكاً إنسانياً، من خلال التدين بدين الإسلام واعتناق مبادئه. وهكذا نجد عنده:   - الفطرة الإنسانية: وهي الأصل الذي بنيت عليه شريعة الإسلام. وتحاول تحرير الإنسان عن طريق إشعاره بالمسؤولية وتقييده بمقتضيات الأمانة التي تحملها، وتعتبر الاستقامة في سمت الفطرة، مقياساً إسلامياً يتبيّن به الطيب من الخبيث والحلال من الحرام، ومقياس كل مصلحة الخلق المستمد من الفطرة والقائم على أساس العمل لمرضاة مثل أعلى هو غاية الإنسان من الحياة ومن العمل. ولم تكن النفس الإنسانية، قادرة لأن تدرك قواعد الفطرة، وحدها، فكان لابد من إرسال الرسل تذكِّر بالميثاق وتهديها عن طريق التربية والتعليم والنظر إلى اكتشاف معالم الفطرة، وخطوطها الكبرى.   - المصالح والمفاسد: غاية الشريعة، مصلحة الإنسان، كخليفة في المجتمع الذي هو منه، وكمسؤول أمام الله الذي استخلفه على إقامة العدل والإنصاف، وضمان السعادة الفكرية والاجتماعية، والطمأنينة النفسية لكل أفراد الأمة. ومن هنا، كانت مهمّة الرسل إرشاد الناس عن طريق التربية بالكتاب والحكمة، إلى كل ما فيه صلاح الإنسانية وصلاح مجتمعها. ثم ان "وظيفة الشريعة، هي التعريف بصفات الأعمال الإنسانية وتبيين مفعولها وأثرها وعلاقتها"[10].   - الإنسان خليفة: ان الفعل الإنساني، أو التكليف، يمكن ان يكون: 1- فعلاً خاصاً به بصفته الفردية، فتعود عليه وحده نتائجه وعواقبه. 2- فعلاً يتجاوز صفته الفردية، وإن كان خاصاً به، ولكن تتجاوز نتائجه وعواقبه إلى المجتمع بأكمله. وعلى ضوء هذين الفعلين، كانت سعادة الإنسان في الآخرة بالقرب من الله، وفي الدنيا، بأن تكون أفعاله متفقة مع ضرورات الحياة والجماعة.. وسعادته هذه، هي المصلحة الكبرى المرادة من الشريعة. بهذا التكليف، يرتفع الإنسان من درجة الحيوان إلى ما فوق درجة الملائكة، لأن في استطاعته أن يفعل الخير والشر، وهو مخيّر بينهما، ومسؤول عنهما، وبذلك فهو حرّ وهو على نفسه بصيرة. ولتحقيق هذه الخلافة، شرِّعت للإنسان مجموعة من الحقوق: حق الحياة، حق الكرامة، الحرية بجميع صورها، العدل، والمساواة. هذه المحاور الثلاثة، على سبيل المثال، هي محاور أساسية في مقاصد الشريعة الإسلامية. وفي الوقت ذاته هي محاور علم الكلام وأبوابه. لذا، يصعب على علم الكلام ان يتناولها مجردة دون رؤية مقاصدية. وعلى الجملة، فإن علال الفاسي، في الوصل بين مقاصد الشريعة الإسلامية، وعلم الكلام الجديد، استطاع ان يحاور المتغربين من أبناء المسلمين ويحاججهم، انطلاقاً من مقاصد الشريعة، وهي مهمة تحتاج إلى جهود أخرى ليكتمل البناء، خصوصاً في عصر تعقدت فيه الأمور وتشعبّت.   الهوامش:
[1]- مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص 69-80. [2]- راجع مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص 73-74. [3]- المصدر نفسه، ص 68. [4]- المصدر نفسه، ص 45. [5]- ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية. [6]- علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 5. [7]- انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص 82. [8]- راجع خاتمة الكتاب، ص 275. [9]- ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 51.

[10]- علال الفاسي، المدخل، ص 18.

المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 21 لسنة 2002م

ارسال التعليق

Top