• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

البعد الغيبي في حياة المؤمنين صمام الأمان

د.خضير جعفر*

البعد الغيبي في حياة المؤمنين صمام الأمان
تنتصب ثقافة الخشوع والدموع شاخصاً مائزاً للإسلاميين في ميادين المنازلة ومعتركات الصراع التي يتلاوون الأذرع وسط معامعها مع خصومهم والتي بدونها لا مندوحة من الاعتراف بأنّ المواجهة بينهما يعوزها التكافؤ، حيث تفوِّق الخصم المادي الذي لا يكابر في إنكاره أحد، يُرجح كفة الخصوم لإمتلاكهم كل أسباب القوة المادية والإعلامية والتنظيمية والعسكرية وهذا من شانه حسم الموقف لصالح الطرف الأقوى، لأنّ المعادلات المادية لا تتعاطف مع العزل في مساجلات الوغى وإن كانوا أخياراً أبراراً ولا ترحم آلاته وآلياته من لا يرحم نفسه حينما يزجها في معركة خاسرة ومحسومة النتائج سلفاً لأنّ النوايا الطيبة والأحلام الوردية لا تشفع في المعمعة وعندما يحمى الوطيس. بيد أنّ معركة طويلة الأمد يحتدم فيها الصراع مستعراً عبر خطوط الزمان والمكان وعلى طول امتداداتهما لا يمكن للسلاح المادي وحده أن يكون سيد الموقف ليحسم معركة الحضارات والقيم في جولة واحدة، أو أن تضع الحرب أوزارها بانتصار الأقوى مادياً، ذلك ما أبطلته سنة الحياة وقوانينها وما لم تشهد على صدق مقولاته الذاكرة البشرية أو مذكرات التاريخ وأرشيف أحداثه، إذ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة تفوقها في العدة والعدد، وكم وكم سقط السلاح من أيد مفتقرة إلى الثقة بالله والنفس والمبادئ وانتصر سعف النخيل وجريده وتغلبت قبضات الأكف العزلاء على أشد الجيوش فتكاً وأكثرها تدريباً وتأهيلاً، وبما يعني وجود أسلحة أخرى لا تقل تأثيراً وحسماً عن أسلحة الفتك المادي، إنها أسلحة الغيب والإيمان به، وهي أسلحة فعالة لا يملك العدو لها ضداً نوعياً يبطل مفعولها، لذلك يقف – رغم كل ما يملكه من سلاح وأسباب تدمير – مذهولاً عاجزاً عن مواجهة من يمتلك سلاح الإيمان بالله والثقة بنصره والإصرار على مواصلة دربه والتوسل إلى الله والتذلل بين يديه، والتضرع له في الخلوات، المفضي بانفجار المآقي بدموع الشوق له والرغبة إليه ومناجاته في جوف الليل استدراراً لرحمته واستمطاراً لمزن رضاه. فقد تجف الأرواح في ميادين الصراع وسوح الجدل الفكري والسياسي والمساجلات الإعلامية فينسى المؤمن ما لديه من أسلحة النصر، وقد يغفل عن أنّ الدعاء سلاحه ووسيلته للحديث مع واهب الوجود، وأن دموع السر تطفئ غضب الرب وتلطف شغاف القلب، وأنّ التلقين الواعي للنفس بحب الله والقرب منه والتزلف إليه محطات للتزوّد بالوقود الروحي لدفع ماكينة العمل الإسلامي إلى الأمام بخطوات متسارعة تتلاشى معها الأتعاب وتتضاءل لديها الصعاب الأنصاب، لأنّ الحب أقوى زخم روحي يدفع النفس باتجاه المحبوب ونيل وصاله ورضاه، وإن حب الله الصادق من قبل العبد لا يختلف عنه حب الله لعبده وفق منطوق آياته سبحانه (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (المائدة/ 54)، حيث يقدم سبحانه حبه للمؤمنين على حبهم له ومن أحب الله ذاب بين يدي رضاه وفي رحاب قربه وصغر ما دونه في عينه واستسهل الصعاب في سبيل الوصول إليه على عجل (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) (طه/ 84)، وبالتالي فهو انسلاخ من حبال الدنيا وانسلال من شراك إغوائها، وفي كل ذلك تتغير معادلات الصراع لصالح القيم الخالدات التي تنتصر – بنصره تعالى – على ما سواها من مقولات، وتسمو لذة القرب ومشاعر الحب على المعاناة والأوجاع والمشكلات فيصرخ العاشق الواله بشوق يفوق الألم "إلهي إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى" لأنّه يدرك جيِّداً أنها صفقة رابحة وتجارة رابحة تلك التي كتبت يد الرحمة الإلهية الحانية بنود فقراتها عقداً وعهداً (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) (التوبة/ 111)، وحدد الثمن (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة/ 111)، ولذلك اختفى عنهم الرهب بالرغب وانزوى الرعب في أجواء الحب، ولم يعد وجود للخنوع من الخشوع، والذل مع الدموع لأنّ التعامل مع الخالق يعني الاستغناء عن المخلوقين وما لديهم. إنّ البعد الغيبي في حياة المؤمنين وحركته صمام أمان لدرء وسوسة النفس الأمارة بالسوء وردع لإغواءات الشيطان وإغراءات الدنيا الفانية ومن لا يحصّن نفسه بالخشوع ويسقي أشجار محبة الله بالدموع فليس أمامه إلا النكوص والرجوع والجفاف والركوع أمام أصنام الذات وأوثان الحياة، وتلك هي الطامة الكبرى التي ما فوقها طامة والكبوة المهلكة التي لا تنفع معها طقوس عبادة جامدة ولإشكاليات صلاة هامدة لا حياة فيها ولا حركة ولا روح إذ "لا صلاة لمن لا صلاة له تنهى عن الفحشاء والمنكر". ذلك أنّ الجفاف الروحي والجدب المعنوي واليبس العاطفي أخطر آفات العمل الإسلامي التي لو تعرضت لها روح الإسلامي العامل لأفقدته أهم قوى الجذب والمغناطيسية والاستقطاب في أمة تطالب الإسلاميين أن يشيعوا في أوساطها الصفاء والنقاء والتوكل والتعبد والدعاء، وإلا ما الفرق بينهم وبين أي سياسي محترف ينطلق في تعامله مع الآخرين من رؤى مصلحية ضيقة وأنماط تفكير مادية هابطة تتقاطع جملة وتفصيلاً مع رسالة الإسلاميين الهادفين، الهداة الصامتين، والدعاة إلى الله بغير ألسنتهم وإنما بسلوكهم وهم يعتمدون الحكمة والخلق الرفيع وشفافية الروح ومغناطيسية الأدب الجم والأريحيات التي تشع على الآخرين حباً وخيراً وقيماً وبذلك يكونون مصاديق لوعد الله للمؤمنين (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) (مريم/ 96)، بكل ما في المودة والحب من تأثير إيجابي فعّال للإسلامي الخلوق في مجتمع يرقب سلوكه ويتملاه وهو يرى فيه النموذج المطلوب المحبوب المرغوب. ترى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) (الحديد/ 16). *أستاذ أكاديمي من جامعة طهران. المصدر: مجلة المجتمع/العدد1379 لسنة 1999م  

ارسال التعليق

Top