• ٣٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الفكر الاقتصادي الجديد والتخلف

هشام جعيط/ الترجمة: د. المنجي الصيّادي

الفكر الاقتصادي الجديد والتخلف

ينتقد عالمٌ في الاقتصاد مثل غونار ميردال عن حقّ نظريات التنمية لفترة "ما بعد الحرب"، وهي نظريات ترتبط بفكرة ضمنية للرفاهية تحيل "على علم النفس القديم الخاص باللذة والتصوّرات الأخلاقية للمذهب النفعي". لكن تبيّن أن نسقاً من القيم والمثل أصبح ضرورياً لكلّ بحث في هذا الميدان. وهو يحيل على مُثُل التحديث في أوسع معنى له ويشرح ذلك قائلاً: هو كلّ ما يسمى عقلنة، والرفع من مستويات الحياة، والاتجاه إلى المساواة الاقتصادية الاجتماعية، وإصلاح المؤسسات والسلوكيات، ودعم الديمقراطية كما معنى الانضباط الاجتماعي. نحن نوافق على ذلك عن طيب خاطر ونحيّي هذا التفكير الجديد عن التخلّف الذي ظهر حديثاً جدّاً في الغرب، فوضع حدّاً للأوهام القديمة وانفصل عن السذاجات والتساهلات، مجتهداً في تحديد سُبل الممكن بكيفية واقعية كما هي كريمة. لكن برامج مانده وميردال تبقى من بعض الجوانب وفي غاياتها، بعيدة من مطالبنا وأمانينا. وهي تشارف من جوانب أخرى الطوباوية إذ تعدّد التوصيات التي لا نرى إمكانية لتجسيدها. فضلاً عن كونهما لم يحلا فيما يبدو قضية الخيار بين الحداثة والتقليد، أو أنّهما تجاوزاها. وأخيراً فإنّ الأسباب التي يعرضانها بخصوص شرعية كلّ نقاش عن التنمية، لا تتعمق في الأشياء دائماً، مهما كانت صالحة.

وقد اعتقد الاقتصاديون مدة طويلة أنّ البلدان المتخلفة يمكنها اللحاق بسرعة بالبلدان المتقدمة بعد انقضاء الهيمنة الاستعمارية، كأنّ التخلّف مجرد مسألة اقتصادية يُمكن ربطها بوضع البلدان الأوروبية التي شملتها الحرب، وهو ما يكشف عن جهل مذهل للتطوّر التاريخي. إنّ حساباتهم وإحصاءاتهم وتقديسهم للمنتج القومي الخام، وتعلّقهم بالمظهر العددي، وإهمال البُنى العميقة، كلّ هذه الأمور تزيد في إغراقهم أكثر في أخطاء التقدير. لكن أخلاقهم الحاليين مهما حقَّ لهم أن يوجهوا من انتقادات فادحة كالتي سبقت الإشارة إليها، فإنّه يعوزهم البُعد التاريخي والسوسيولوجي، كما يعوزهم الحسّ الجدلي. ولذا، فلا يمكن مطالبة الاقتصاديين بأن يكونوا أكثر من اقتصاديين، حتى وإن كانت رؤيتهم للأمور تتسم بأكبر اتّساع ممكن. يبقى أنّ الإصلاحات الجذرية التي اقترحها ميردال أو مانده مقبولة. أجل، يجب التصدّي مسبقاً لقضية الزراعة، وتغيير علاقة الفلاح بالأرض، وإدخال التقنيات الزراعية التي تستخدم اليد العاملة بصورة واسعة، والبحث عن تقنيات جديدة وتعميمها، وتحريك الإرادة والرغبة في التجديد في عالم الريف. أجل، من الضرورة إطلاقاً التخفيض من الفروق الاجتماعية العظيمة القائمة بين النُّخب المغرِّبة، إن لم تكن نخباً " إقطاعية"، والجموع الفقيرة. ومن يقدر على إنكار ما للدولة من هزال وعدم نجاعة ولا عقلانية، بالرغم من شكلها السلطوي؟ وكيف لا نؤيد ميردال حين يقول إنّ أغلبية ممثلي الدولة "يخصصون وقتهم وطاقتهم للحدّ من ازدهار المؤسسات الاقتصادية"، وإنّه يمكن مقارنة وضع المؤسسات في البلدان المتخلفة "بسياقة سيارة مكبوسة الفرامل وقد ضغط على معجالها إلى أقصى حدّ". إنّ الرقابة التي تمارسها الدولة على النشاط الاقتصادي الحرّ بواسطة إدارات مفرطة التدقيق، هي فعلاً عكس الرقابة الإيجابية، ولا تكتسي أي محفِّز على الإنتاج. إنّها معوّقات وقيود وحواجز توضع أمام حماس الفرد الخلّاق عن طريق حراسة مطلقة تتولّد عنها، فضلاً عن ذلك، نتائج معاكسة للنتائج المتوقعة. يعني ذلك في نهاية الأمر الاحتكار والرشوة وتوقف التنافس النزيه. ومن البديهي أيضاً أنّ قضية التعليم في صلب كلّ سياسة جدية للتنمية تجعل أساسياً تطوير التعليم الزراعي والتقني عامّةً، واستخدام الأُطر ذات الكفاءة فوراً. لقد قام ميردال بتشخيص عن الجنوب الشرقي الأسيوي، ينطبق في أكثره على العالم العربي. واقترح إصلاحات من المرغوب فيه العمل بها في العالم العربي. لكن مهما كانت مطالعة كُتُب هذين العالمين - ميردال ومانده - مرضية للفكر من عدّة جوانب، فهي تترك شعوراً غامضاً بالقلق. وقد بيّنت آنفاً الاعتراضات المبدئية التي يمكن أن نواجه بها ذينك الاقتصاديين. لا شك في أنّه يجب أن نضيف أنّهما يبدوان وكأنّهما يعالجان بلدان العالم الثالث كشيء فكري مجرد، وكأنّه لم تكن به إنسانية مهيكلة ومقاومات اجتماعية وعواطف سياسية. وفي الجملة، كأنّ العالم الثالث لم يكن سوى حقل متناهٍ للنشاطات الإصلاحية الواجب تجربتها، وأنّه لا يعوز إلّا حُسن الاستعداد لفرضها.

لكن من البديهي أنّ أغلب النُّظم المنبثقة من الاستقلال أفادت خلال فترة امتدت من خمس عشرة إلى عشرين سنة، من حرّية استثنائية للعمل وأضاعوها بسبب أخطائهم وجفولهم أو لتهورهم المنكر خلافاً لذلك، ولجمودهم غالباً، حين جدّت تجارب مؤلمة أحياناً. وإن كان حقّاً أنّ ميردال لا يقدّر الصعوبات الناشئة عن مجرد تسيير المجتمع حقّ قدرها، فالحقيقة كذلك أنّه كان للعقل المتبصر خلال تلك المدة، أن يدرك فوراً ألف تجاوز كان من اليسير إصلاحه، وألف إصلاح كان يسهّل القيام به. وذاك القرح الهائل المتعلق باللاعقلانية، من وراء كلّ نُسق اجتماعي ومن وراء كلّ أيديولوجيا، فهل كان المسيرون غير أكفاء إلى هذا الحدّ؟ وهل يمكن إبداء الرأي الآتي والقول بما أنّهم انبثقوا عن مرحلة الكفاح، فهم أقدر على المنازعة والتهديم والإنكار ممن هم على التأسيس والبناء والتسييس؟ لا شك في ذلك. لكن لا يكون لأي شعب إلّا الحكّام الذين هو جدير بهم في نظر التاريخ. أمّا من حيث الجدلية، فما كان هو ما كان يمكن أو يجب أن يكون ولا تفكر الإنسانية كما يفكر الفيلسوف قطعاً. وفي خضم التاريخ الذي هو بصدد التكوين، فليس هناك إلّا الأفعال والأفعال المضادة والأحكام الفورية واللاوعي الضروري. فلو فكّر جميع الناس تفكيراً جدلياً فلا بقاء للجدلية ويصبح العمل مشمولاً.

إنّ القائد الذي يبحث عن مقارنة الماضي بالحاضر ليحملنا على قياس المسافة المقطوعة يكون ذلك من حقّه: إنّ الرقي موجود بصورة شاملة. إنّ الاقتصاديين في الستينات اعتقدوا أنّ خيار إفريقيا والعالم العربي ومصيرهما اللّحاق مثلاً بالمستوى الاقتصادي للغرب، وإنّ الاقتصاديين اليوم يُبدون قلقهم من فشلنا، لكنّهم في كلتا الحالتين استمروا لا محالة في قياسنا بمقياس الإنسان، وهذا أمر له مغزى عظيم. كنّا من أنصاف البشر وها نحن نصبح بشراً. لكن علينا أن نكون أكثر من ذلك لنفس السبب. إنّ النجاح يستدعي النجاح، ويحفز تحقيق أكثر الأحلام جنوناً على أوسع الآمال، ويبعث على السخط الخلّاق، شريطة ألا يتحوّل هذا السخط إلى يأس تاريخي لا يمكن قبوله إطلاقاً. فعلى السياسي والاقتصادي الانتقاد والعمل من أجل التغيير وتحسين العيش ومراجعة جديّة للواقع التطبيقي. ويدخل ذلك في منظور من العمل الذي ليس له أن يثبت على عرض المسافة المقطوعة - الذي صار ذريعة للجمود -. لكن الضمير التاريخي الذي يُوضع على مستوى المدى الطويل وبالنسبة للفيلسوف الذي يشمل نظره كلّ شيء، فقد انطلق التاريخ لصالحنا من جديد. كنّا لا شيئاً منذ عشرين سنة لكن اعتقدنا إثر انتصاراتنا السياسية أنّنا نساوي الكثير. على أنّ الواقع يردنا اليوم إلى الحيطة، فنحن لا نعادل شيئاً عظيماً لكن لسنا لا شيئاً وهو أمر لا رجعة فيه. عشرون سنة، عشر سنين! هذا قليل في حياة الأُمّم، ومهمل في مسيرة فترة من فترات التاريخ. يجب مرور جيل أو جيلين أو ثلاثة أجيال حتى تتبلّور الأمور وتثمر البذور المزروعة. وليس هناك ما يستبعده المفكّر السياسي أكثر من الشعور الفياض بالسرعة، لكن من البديهي أنّه يجب تكلّف الاعتقاد في هذه العجلة "دفعاً إلى الأمام"، وشحذاً للهمم، ولئلا يكون الركود والموت. كما أنّي لم اعتقد أبداً في التنبؤ بالكوارث، الخاص بمستقبل البلدان المتخلفة. ومن الدلائل الكثيرة على ذلك وعملاً بتناقض غريب، هناك دليل وهو أنّ مثل هذه الرؤية الكارثية نمت اليوم عند الاقتصاديين والمستقبليين، وهي لا تنفك تبعث الخوف والقلق فتساعد على ميلاد ضمير جديد سوف يقوم بإعادة التوازن والتصحيح والتقويم ويحمل على المراجعة والإصلاح.

 

المصدر: كتاب الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي

ارسال التعليق

Top