• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإسـلام وحرية الرأي

حسن السعيد

الإسـلام وحرية الرأي

◄من بين أبرز الملفات التي أُعيد طرحها مؤخراً، على نطاق واسع، في المنتديات والصُّحف والندوات والدراسات، هو ملف "الإسـلام وحرّية الرأي".

فقد كَثُر الحديث حول موقف الإسلاميين، وموقف الإسلام من الحقوق المتعلقة بحقّ إبداء الرأي، في أُمور السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والتعليم والحرب، أو تلك المتعلقة بحقّ الصحافة في نقد الحكومات وأجهزتها الرسمية، أو المتعلقة بحقّ التكتل أو ما يُسمّى بحرّية تشكيل الأحزاب ذات الطابع الإصلاحي أو المعارض. وهناك مَن يسمي كلّ هذه الحقوق بالحرّيات السياسية العامّة.

ففي العقد الأخير، تكرّس الحديث، بشكل ملفت للانتباه، حول موقف الإسلام من حرّية الرأي. وتحديداً من شباط/ فبراير 1989م، حيث غدا موضوع حرّية الرأي والتعبير موضع تنازع واستقطاب حاد وتوتر دائم في العالمين العربي والإسلامي، ابتداءً من تفجير مشكلة رواية "آيات شيطانية" للروائي سلمان رشدي، في نهاية الثمانينات، مروراً بكتابات نصر حامد أبوزيد، وقيام دعاوى حِسبة للتفريق بينه وبين زوجته بحجة كفره، وكذا أُغنية للمغني اللبناني مارسيل خليفة، التي كتبها الشاعر الفلسطيني محمود درويش، وتضمّنت جزءاً من آية من القرآن الكريم، وصولاً إلى رواية الكاتب السوري حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر" التي أثارت جدلاً حاداً في مصر، انتهى إلى إيقاف صحيفة (الشعب) الناطقة بلسان حزب العمل المصري، وتجميد نشاط الحزب.

إنّ موضوع حرّية الرأي والتعبير محل تنازع حاد بين الإسلاميين والعلمانيين من جهة، وبين الإسلاميين أنفسهم من جهة ثانية، الأمر الذي يتطلّب بحثاً معمقاً لهذه الإشكالية، من أجل تجليتها ورفع الغبار عنها، كما يقول رفيق عبدالسلام.

في ضوء ذلك، ينبغي رصد هذا الاهتمام المتزايد بالموضوع من زاويتين: الأُولى تتمثل بضرورة التوفر على دراسة الإشكالية، ومعالجة ما يُثار حولها من شُبهات، على المستوى الإسلامي، وصولاً إلى (تجليتها ورفع الغبار عنها)، ومن ثمّ بلورة الموقف النهائي إزاءها، عبر الغور في مظان الكتاب الكريم والسُّنة المطهّرة، وما قام به فقهاء المسلمين من تأصيل في هذا الاتجاه.

أمّا على المستوى العلماني، فلابدّ من استحضار أقصى درجات الحذر والشك، الذي يرقى إلى الريبة في خلفيات ودوافع هذه الإثارات، التي تستدرجنا – بين الفينة والأخرى – لخوض معارك فكرية، تحت ذريعة البحث العلمي تارة، أو مد جسور الحوار ثانية، أو تعميق مناخات التنوع والإثراء ثالثة.

ومع اعترافنا الكامل بحُسن نوايا البعض من طلاب الحقيقة - وإن كانوا هم الاستثناء للأسف الشديد -، إلّا أنّنا لا يمكن أن نحسن الظن، ببلاهة، بأُولئك المتغربين الذين ما فتئوا يعيدون مقولات المستشرقين وشبهاتهم، بصيغ جديدة، وطروحات فضفاضة، بيد أنّ العارفين سرعان ما يكتشفون بصمات (ماكدونالد) و(وفلهاوزن) و(جب) و(مرجليوت) و(ماسينيون) و(جولدتسيهر).. فوق لافتات هذه الإثارات، حيث تختبئ وراء عناوينها "شنشنة أعرفها من أخزم"!.

فالمفكِّرون العلمانيون "المتمغربون"، في معظمهم، ينسجون مناخاتهم الفكرية بخيوط أوروبية وألوان لا تذكرنا بأي لون محلي، وإذا حدث لمفكِّر علماني متمغرب – على حد تعبير أحد الباحثين – أن أخذ عنصراً محلياً في حسبانه، فهو في الغالب اعتداله في مهاجمة الإسلام، لكنّه في قرارة نفسه يتحسّر لتخلف "مزعوم" في هذا المجتمع، الذي لا يسمح له بمهاجمة الإسلام، بمثل الحدة التي كان يهاجم (فولتير) بها الكثلكة.

ففي مثل هذه الأجواء، التي تفوح ريبة تنأى بها عن المظهر (البريء) الذي تتلبّس مسوحه! فإنّ من الواضح أنّ هناك دافعين وراء الإثارة: أحدهما بريء فعلاً، وثانيهما مغرض، يستهدف إلهاء الساحة وإرباكها بسيل من الإشكاليات، وإثارة الجدل لأجل الجدل وحسب! دون أن يبذل المعاندون والمكابرون أي جهد حقيقي يتوخون فيه الوصول إلى حقيقة الأشياء، مهما كانت الحجة دامغة، والبيِّنة واضحة: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير) (غافر/ 56).

ما يدعونا إلى هذا التحليل عدّة قرائن ومؤشرات ذات دلالات عميقة:

أوّلاً: إنّ التجربة الغربية الحديثة، التي يأخذها أكثر الناس مثالاً على حرّية الرأي والتعبير، تتضمّن قيوداً هائلة وصارمة تمنع هذه الحرّية في مجالات محددة مثل "اللاسامية" والموضوع اليهودي عامّة، وأمسى الكثير من الباحثين والمؤرخين الأحرار يستنكفون من الخوض في الموضوع اليهودي واستتباعاته، لما يحيط به من قمع فكري، جعل مواضيع مثل "المحرقة" اليهودية مقدساً دينياً جديداً في الغرب، لا يمكن أن يطاله بحث، أو نقد، أو نقاش!.

وما جرى لكلّ من المفكِّر الفرنسي المسلم (رجاء غارودي)، والمؤرخ البريطاني (ديفيد ايرفينج)، والسياسي النمساوي (جورج هايدر) زعيم حزب الأحرار اليميني.. أرقام شاخصة تكشف مدى الزيف الديمقراطي للغرب. فقد أُحيل (غارودي) إلى المحكمة العسكرية، في كانون الثاني/ يناير 1998م، ليحاكم وفق قانون "غيسو 990"، الذي يمنع بموجبه كلّ مفكِّر حر من مناقشة المجازر المزعومة بحقّ اليهود في ألمانيا، خلال الحرب العالمية الثانية. وقد (تجرّأ) غارودي حينما ناقش هذه المسألة، في كتابه (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية).

وقُل مثل ذلك عن المؤرخ البريطاني الذي حوكم في بريطانيا، في كانون الثاني عام 2000م، لأنّه نفى وجود غرف الغاز، وأثبت أنّها كذبة كبيرة!.

أمّا السياسي النمساوي، فكانت خطيئته أنّه قلل من عدد ضحايا غرف الغاز.. وحين فاز حزبه، في انتخابات شباط عام 2000م، أقام الأمريكان والإسرائيليون والأوروبيون الدنيا ولم يقعدوها، في محاولة للحيلولة دون مشاركة هذا الحزب وزعيمه في الائتلاف الحكومي.. وتعرّضت النمسا إلى ضغوط شديدة إلى حدّ المقاطعة، من قبل مجموعة الاتحاد الأوروبي، فيما سحب الكيان الصهيوني سفيره من فينا!

والمثير للدهشة حقّاً، حين نرى الغرب، والسائرين في ركابه، وقد ملأوا الدنيا نحيباً على الديمقراطية المغيبة وحرّية الرأي المفقودة.. أثناء مشكلة (آيات شيطانية).. لم يرتفع صوت واحد احتجاجاً على منع كتاب (بروتوكولات حكماء صهيون) وفي فرنسا نفسها!.

ثانياً: إنّ ما تقدّم يمثِّل شروخاً عميقة في بُنية المنظومة الغربية، ساهمت في تعرية قيم (السيِّد الأبيض)، ممّا أدّى إلى تخلخل البُنى الثقافية والسياسية والقيمية للعلاقات الدولية.

وليس من الغرابة أن تُحدِث كُتُب مثيرة (صدرت في الثمانينات من القرن المنصرم) مثل (هزيمة الفكر) لكرافت، و(ديكارت هو فرنسا) لكلوكسمان، حركية وضجة ثقافية في أوساط الفكر الغربي، كما أنّه ليس من الصدفة أن تركّز فئة أخرى من الغربيين على النظر إلى القضية من زاوية تعرية الذات وفضح نتوءاتها المرضية، لمد الجسور مع الآخر مثل (خوان كربتسيلر) و(غربنغيوم) و(باجو).

ما نودّ قوله: رغم كلّ هذا.. فإنّنا لا نعدم البعض من العلمانيين يردد بأنّ المشروع الإسلامي يدعو إلى إلغاء الآخر! ليوفر هذا البعض لنفسه تقديم المبررات، بأنّ لا علاج لمعضلاتنا المستديمة وأزماتنا المزمنة، سوى تبني المشروع العلماني الغربي!!.

وليس ثمة شك، أنّ هذه الرؤية القاصرة ليست سوى أحد مظاهر أزمة الاتجاه النخبوي العلماني، وتكفي دليلاً على مدى انعزاليته وتبعيته.

ومرّة أخرى، نجد أنفسنا وجهاً لوجه، إزاء الإشكالية التي تثيرها الأوساط الفكرية – السياسية في الغرب، ويرددها – ببؤس – وكلاؤهم الفكريون في ديارنا، حول طبيعة الموقف من "الآخر". وترانا مضطرين لطرح السؤال: مَن هو يا ترى الذي يدعو إلى إلغاء الآخر.. الإسلام أم الغرب؟..  وهذا ما يستدعي وقفة متأملة، ومقدمة سريعة. ►

 

المصدر: كتاب الإسلام والرأي الآخر

ارسال التعليق

Top