• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

النفس الاجتماعية

النفس الاجتماعية

يتفق علماء الاجتماع على أنّ الشخصية والسلوك الفردي يتأثران – إلى حد بعيد – بالسلوك الاجتماعي لبقية الأفراد. ولا ريب أنّ هذا التأثر يعكس معنى الحياة الاجتماعية التي يعيشها هؤلاء الأفراد. فعن طريق النفس الاجتماعية يتم أحد شيئين ذي أهمية خاصة وهما: إما: مساعدة الآخرين. وإما: إنزال الأذى بهم.

فعلى صعيد مساعدة الآخرين، فقد فشلت النظريات الأخلاقية الغربية في إنشاء دافع ذاتي لدى الإنسان كي يساعد أخاه الإنسان الآخر في الحالات الاستثنائية الطارئة. وتسمى تلك الحالة بـ"التفرج على الجريمة مع شعور اللامبالاة" وهي عدم استعداد الأفراد لإنقاذ ضحية خلال جريمة تقع على مرأى منهم. ولعلّ أنصع مثال على ذلك هو حادث الاعتداء على امرأة اسمها "كيتي جنوفيس" في مدينة نيويورك سنة 1964م. فهذه المرأة تعرضت إلى حادث اعتداء على مقربة من بيتها. وحاول الجاني ضربها حتى الموت لمدة نصف ساعة، بينما كان أكثر من ثمان وثلاثين جاراً ينظرون إليها ويتفرجون على عملية قتلها من نوافذ شققهم القريبة من مكان وقوع الجريمة. ولم يبادر أي فرد من هؤلاء لمساعدتها أو حتى إخبار جهاز الشرطة بذلك. وأعزى علماء الاجتماع سبب عدم إكتراث الجيران بمنع حادث القتل على الأقل، إلى أنّ الأفراد في حالات طارئة كهذه لا يعرفون الأسباب والدوافع وراء عملية القتل. ولذلك فإنّهم لا يستطيعون تفسير طبيعة الاعتداء الذي أدّى إلى قتل المرأة. ولما كان الأفراد بحاجة إلى تفسير دوافع تلك الحالات الطارئة، فإنّهم ينتظرون مَن يتحرك قبلهم لإنقاذ الضحية كي يقوموا بدورهم المطلوب. فالتحرك الجمعي لا يتم حتى يتحمّل أحد الأفراد المسؤولية الأخلاقية ويبادر إلى مسرح الجريمة لإنقاذ تلك الضحية، وعندها يبادر الآخرون.

هنا تأتي النظرية الدينية الإسلامية لتصحح ذلك الإعوجاج في السلوك العملي الاجتماعي. فالدين لا يحثّ على مساعدة الآخرين وقت الكوارث والحالات الطارئة فحسب، بل يربط تلك المساعدة الاجتماعية بالجزاء الأُخروي كما جاء في المشهور من حديث رسول الله (ص) عندما دخل المسجد فقير يسأل الناس، فقال (ص): "مَن سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر مَن عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومَن سنّ سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر مَن عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"، وهو نص مطلق غير مقيد بالإنفاق. بمعنى أنّ تحمل المسؤولية الأخلاقية في المساعدة الاجتماعية من قبل الأفراد سوف يحرك بقية الأفراد نحو تحمّل مسؤولياتهم الاجتماعية أيضاً في مساعدة الآخرين ومنع الانحراف الاجتماعي. وهذا اللون من الحثّ الديني تظهُر مصاديقه الناصعة في مناسك الحج عندما يتجمع مئات الأُلوف من الأفراد في مكان واحد، وما أن يحصل أمر طارئ لفرد حتى يتجمع بقية الأفراد لمساعدته تطبيقاً للسنّة الشريفة.

والشيء الثاني الذي يُرتكب عن طريق النفس الاجتماعية أيضاً، هو إنزال الأذى بالأفراد. فإذا قام جندي في مؤسسة عسكرية مثلاً بقتل أفراد أبرياء، قام الآخرون في نفس المجموعة بالمشاركة في القتل دون أن يكون هناك دافع واضح نحو الإقدام على ذلك العمل الإجرامي. وهذا عين ما حصل خلال حرب فيتنام سنة 1968م، فقد قامت حضيرة من الجنود الأمريكان باقتحام قرية فيتنامية اسمها "مي لاي" وقتلت المئات من الأطفال والنساء والشيوخ دون مبرر أو ذنب اقترفه هؤلاء الأبرياء. وعند التحقيق في أسباب الجريمة تبيّن أنّ أغلب الجنود الذين شاركوا في ذلك العمل قالوا بأنّهم إنما قتلوا الأبرياء لأنّهم رأوا جنوداً آخرين من حولهم كانوا يقومون بعمليات القتل. فكان قيام فرد واحد بالقتل في البداية قد شجع الآخرين على القيام بنفس العمل، لأنّ المسؤولية الأخلاقية الفردية ذابت وانحلّت في العمل الجماعي. وممارسات النفس الاجتماعية هذه تفسّر الكثير من الجرائم التي ترتكب بحقّ الإنسانية، خصوصاً تلك التي تشرف عليها الحكومات الظالمة. إلّا أنّ الدين ورسالته الاجتماعية العادلة هذّبت النفس الاجتماعية بشكل لم يسبق له مثيل.

فالأمان الذي ينبغي أن ينعُم به الأفراد وقت المناسك وما بعدها ما هو إلّا نتيجة طبيعية للإلزام الذي أنشأه الدين عند الأفراد. وهذا الإلزام الأخلاقي الذاتي كان له أعظم الأثر في منع العمل الإجرامي الجماعي أو الفردي. فقد حَكَمَ المولى عزّ وجلّ بحرمة البيت الحرام، وأكّد على أنّ مَن عاذ به والتجأ إليه لا يخاف على نفسه ما دام فيه. ولعظم حرمته "أنّ مَن جنى جنايةً فالتجأ إليه لا يخاف على نفسه ما دام فيه. ولعظم حرمته "أنّ مَن جنى جنايةً فالتجأ إليه لا يقام عليه الحد فيه، لكن يضيّق عليه في المطعم والمشرب حتى يخرج فيحدّ. فإن أحدث فيه ما يوجب الحد أقيم فيه الحد، لأنّه هتك حرمة الحرم".

ولا شك أنّ الآيات القرآنية الكريمة تؤكد على إطار الأمان الجماعي وعلى منع الانحراف الاجتماعي في الحرم الآمن، كما في قوله تعالى: (.. وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا...) (آل عمران/ 97)، (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا...) (البقرة/ 126). وقد جاء في مرفوعة معاوية بن عمار: "قال رسول الله (ص) يوم فتح مكة: إنّ الله حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض. وهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحلّ لأحدٍ قبلي ولا تحلُّ لأحدٍ بعدي...".

وهذا التأكيد الإسلامي على أمام الحرم وسلامة الأفراد الناشطين في أداء المناسك التعبدية فيه لا يفسح مجالاً للنظريات الغربية – التي تتناول النفس الاجتماعية من منظاري "التفرج على الجريمة مع شعور اللامبالاة" و"إنزال الأذى الجماعي بالأفراد" – بتطبيق آرائها على المجتمع الإسلامي. والخلاصة أنّ النفس الاجتماعية التي هذّبها الإسلام، هي النفس المطمئنة الثابتة التي تتعامل مع الآخرين من منظار التعاون والتآخي والمشاركة في الآلام والأفراح الإنسانية. ولا شك أنّ مناسك الحج تعتبر من أفضل المصاديق لهذه النظرية الإلهية العظيمة.

ارسال التعليق

Top