• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التربية من المنظور الإسلامي

د. حسناء ديالمه

التربية من المنظور الإسلامي

لم يعد خافياً على أحد ما للتربية، بمفهومها الواسع ومضامينها العريضة، من أثر وأهمية في حياة الأفراد والمجتمعات وتجدّدها.

إنّ التربية إنّما تكون قاعدة أساسية لتطور الإنسان وارتقائه فكرياً فيما إذا استهدفت الإزدهار التام لشخصيته وعُنيِت بغرس النزعات الخيّرة في نفسه، وإذا لم تعتنِ بذلك فإنّ الإنسان يفقد أصالته وذاته.

فهي عملية اجتماعية تختلف من مجتمع إلى آخر حسب طبيعة المجتمع والقوى المؤثرة فيه والقيم التي اختارها، ليسير عليها في حياته.

فالتربية بهذا المعنى وسيلة وهدف، طريقة وغاية، تبدأ من بدء الحياة، ولا تنتهي برغم نهاية حياة الأفراد؛ لأنّها عملية اجتماعية تخص المجتمع، كما تخص كلّ فرد فيه.

والحديث عن التربية الإسلامية يستند إلى الحديث عن الإسلام نفسه؛ لأنّ الإسلام دين للبشر كافة، ولأنّه نظام يتضمن كلّ ما يتصل بحياة الإنسان من جوانبها المختلفة ككلّ "وهو منهج ربّاني للحياة البشرية، ينظّم شؤونها في الدنيا في كافة المجالات للفرد والأسرة والمجتمع، فيضمن للإنسان الفرد، والإنسان الأُمّة، والإنسانية جمعاء إذا ما اتقوا ربّهم في القول والعمل، السعادة في الدارين".

فالتربية الإسلامية هي تلك التربية التي تجمع بين "تأديب النفس، وتصفية الروح وتثقيف العقل وتقوية الجسم فهي تُعنى بالتربية الدينية والخلقية والعلمية والجسمية دون تضحية بأي نوع منها على حساب الآخر".

·      مفهوم التربية الإسلامية وأهميتها:

أ‌) التربية لغةً:

إذا تتبعنا معنى مصطلح التربية من الناحية اللغوية فإنّنا نجد أنّه يعود إلى أصول لغوية ثلاثة وهي:

الأصل الأوّل: ربا، يربو بمعنى: نما، ينمو وزاد، يزيد.

وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ) (الروم/ 39).

وقال الراغب الأصفهاني: الربّ في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حدّ التمام.

كما يقول البيضاوي في تفسيره: فربّاه بمعنى نمّاه، والتربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً، ثمّ خرجت الكلمة إلى وصف الله تعالى على سبيل المبالغة. ويقول الفيروز آبادي في القاموس المحيط: ربّ جمع وزاد.

والأصل الثاني: رَبَّى، يربِّي بمعنى نشأ وترعرع.

وعليه قول ابن الأعرابي:

فمن يكُ سائلاً عني فإني **** بمكة منزلي وبها ربيت

والأصل الثالث: ربّ يربّ بمعنى: أصلح، وساس، ورعا، وتولى. ومن هذا المعنى قول حسان بن ثابت كما أورده ابن منظور في لسان العرب:

ولأنت أحسن إذ برزت لنا **** يوم الخروج بساحة القصر

من درة بيضاء صافية **** مما تربّب حائر البحر

وقال: يعني الدرة التي يربيها في الصدف في قعر الماء، وبيَّن بأنّ معنى: تربب حائر البحر: أي مما ربَّبَهُ وترببه أي رباه مجتمع الماء في البحر.

قال: ورببت الأمر أربّه ربّاً ورباباً: أصلحته ومتّنته.

وقال: ربّ ولده والصبي يربّه ربّاً... وليّه حتى يفارق الطفولية.

ويمكن استنباط مجموعة من العناصر من خلال هذه الأصول اللغوية:

"أوّلها: المحافظة على فطرة الناشئ ورعايتها.

ثانيها: تنمية مواهبه واستعداداته كلّها، وهي كثيرة متنوعة.

ثالثها: توجيه هذه الفطرة وهذه المواهب كلّها نحو صلاحها وكمالها اللائق بها.

رابعها: التدرّج في هذه العملية، وهو ما يشير إليه البيضاوي بقوله: (شيئاً فشيئاً) والراغب بقوله: (حالاً فحالاً)".

ب‌) التربية اصطلاحاً:

للتربية في الاصطلاح تعريفات كثيرة، تتلاقى أو تتقارب في مضمونها، ولعلّ أكثرها وضوحاً التعريف الآتي:

"التربية عملية تشكيل الشخصية السوية المتكاملة في جميع جوانبها روحياً وعقلياً ووجدانياً وخلقياً واجتماعياً وجسمياً والقادرة على التكيف مع البيئة الاجتماعية والطبيعية التي تعيش فيها".

والمقصود من التربية الإسلامية أنّها: "تنشئة وتكوين إنسان مسلم متكامل من جميع نواحيه المختلفة من الناحية الصحّية، والعقلية، والاعتقادية، والروحية، والأخلاقية، والإدارية، والإبداعية في جميع مراحل نموه في ضوء المبادئ والقيم التي أتى بها الإسلام، وفي ضوء أساليب التربية التي بيّنها".

هذه التربية عملية مستمرة تمتد منذ طفولة الإنسان، وتستمر حتى وفاته.

وما دام الدين هو الحياة، فالتربية الإسلامية هي الحياة إذن، فهي لا تعني فقط الأخلاق أو العقائد أو العبادات، بل إنّها تعني ما هو أعظم من هذا وأكبر، بحيث يمكن القول "إنّ التربية الإسلامية تعني منهجاً كاملاً للحياة، وللنظام التعليمي بكامله، ومكوناته".

ج) أهمية التربية الإسلامية:

تبرز أهمية التربية الإسلامية في الارتقاء بالإنسان نحو الكمال، "وهوية الأجيال المسلمة لا تشكّل إلّا بهذه التربية عن طريق المفاهيم الإسلامية والقيم الأصيلة والأفكار العملية الناضجة والاتجاهات البنّاءة الصادقة بعد تجسيدها إلى سلوكيات وأعمال مفيدة". فإنّنا بالتربية الإسلامية نحرر الإنسان من أن يكون عبداً لحاجاته ودوافعه ورغباته، ونربي فيه المعالي والهمم التي تجعله متطلِّعاً للغايات الكبرى والأهداف النبيلة، يحمل الخير ويسعى للخيرية، يحب الفضيلة ويتحلى بالفضائل، يتطهّر من الرذيلة وينفر من الرذائل، يسهم في تلبية حاجات الإنسانية في التهذيب والسلوك السوي، وكذلك بالتربية الصالحة نحمي أُمّتنا من أن تتربى على الفساد بكلّ أشكاله والتبعية بكلّ صورها، ونحميها من أن ينشأ فيها جيل ينتمي لغير أُمّته فكراً وسلوكاً، ولا ينسجم مع البيئة الإسلامية التي نشأ فيها وتربى على أرضها.

·      العوامل المؤثرة في التربية:

مما لا شك فيه أنّ البشر متفاوتون متمايزون بعضهم من بعض، بحيث لا يتطابق اثنان منهم تطابقاً كاملاً.

ومن المعلوم أنّ العلماء والمفكرين اتفقوا على أنّ الشخصية الإنسانية تتأثّر في تكوينها وتفاعلاتها المختلفة، بعاملين رئيسين هما: العامل الداخلي أو الذاتي الذي يعرف بعامل الوراثة، والعامل الخارجي أو المكتسب الذي يعرف بعامل البيئة. "ويتضافر هذا العاملان، منذ اللحظة الأولى في حياة الفرد وحتى موته في تكوين شخصيته".

أ‌) عامل الوراثة:

عرف البشر تأثير الوراثة في النبات والحيوان منذ زمن طويل، إذ اكتشفوا أنّ البذرة الجيِّدة الصفات تنتج نبتة قوية ترث عنها صفاتها العامّة وخصائصها البيولوجية، وتعطي ثماراً صحيحة جيِّدة كذلك، وأنّ النبتة المريضة أو المصابة أو الضعيفة تنتج ما يتوافق مع صفاتها.

والإنسان مثل بقية المخلوقات، يتأثر بالوراثة، إذن "لم تكن البشرية تجهل قانون الوراثة تماماً فيما مضى، بل كانوا يجهلون خصوصياتها. إنّ علماء الماضي كانوا يعلمون أنّ في بذرة الزهرة ونواة الشجرة ونطفة الإنسان والحيوان ذخائر تنقل صفات الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة".

وقد أقر الإسلام مبدأ الوراثة في خصائص الأفراد، فمسألة اختيار الزوج التي لفت إلى أهميتها تقوم على مبدأ الوراثة، على نحو ما بيَّنه النبيّ (ص) في حديثه الشريف: "تخيّروا لنطفكم فإنّ العرق دسّاس".

والحديث يشير إلى أنّ أخلاق الآباء تنتقل إلى الأبناء بمعنى أنّه في حال توافرت في الآباء صفات الصلاح والفلاح والأخلاق الفاضلة، والنزعات الكريمة والميول الحسنة والنوايا الطيبة لابدّ وأن يكون للطفل نصيب منها وهو في بطن أُمّه. وسيكون على عكس ذلك فيما لو طغت نزعات الشقاء على والديه.

ب‌) عامل البيئة:

أكّد الباحثون المتخصصون على أهمية تأثير عامل البيئة في العملية التربوية، وتكوين شخصية الناشئين منذ فجر حياتهم الأولى.

إنّ الإنسان لا يخضع في سلوكه لتكوينه الداخلي فحسب، وإنّما يخضع للعوامل الخارجية التي تتفاعل معه، وتؤثر فيه. وبذلك تطبع البيئة آثارها في دخائل النفس، وتكسبها الخلق والعادات.

البيئة الأولى للإنسان وهي رحم الأُم، التي يحصل منها الجنين على مقومات بقائه. ولذا طلب الشارع من النساء تناول الغذاء الذي تتوافر فيه العناصر اللازمة لتكوين الجنين وحمايته واكتمال نموه. كما طلب من الأُم أن تبقى بحالة نفسية هادئة، لأنّ "حالة الأُم النفسية تؤثر على صحّة الجنين كما تؤثر في نفسيته مستقبلاً".

ويتعرّض الإنسان بعد ولادته للعديد من المؤثرات البيئية المختلفة، وهذه البيئة إمّا أن تكون طبيعية وإمّا اجتماعية:

فالبيئة الطبيعية ويقصد بها كلّ ما يحيط بالإنسان من الأمور المادّية، تتمثل في المناخ وما يشتمل عليه، الأرض ظاهرها وباطنها وموقع البلد و...، تؤثر في ألوان الناس وأجسامهم وعقولهم وأخلاقهم وعاداتهم، أمّا المجتمع البشري الذي يحيط بالإنسان وما يربط بين أفراد هذا المجتمع من صفات مشتركة وعلاقات متبادلة وعادات وتقاليد ونظم متبعة، كلّ ذلك يشكّل البيئة الاجتماعية. فهي "تكوّن الميول العقلية والعاطفية في سلوك الأفراد إذ تدفعهم إلى ألوان من الأعمال تذكي فيهم ضروباً من البواعث".

ولذلك حينما نتكلّم عن البيئة الاجتماعية للطفل نقصد بها الأجواء الاجتماعية التي تحتضنه، وتؤثر في أدوار نموه وتكامله، كالعقائد والأعراف والتقاليد وطريقة التفكير.

والإنسان يمرّ ببيئات تربوية متعددة، ابتداء بالأسرة ومروراً بغيرها من الجماعات كجماعة اللعب والجوار والمدرسة والعمل وغيرها، وفي كلّ هذه المراحل يكون عرضة للمؤثرات المختلفة التي تشكّل شخصيته وفق العادات والتقاليد التي تنسجم مع نظرة هذه الجماعات إلى الحياة. ويمكن تلخيص البيئة الاجتماعية بالمجالات الآتية:

·      الأسرة

·      المدرسة

·      المجتمع

·      الأسرة:

فالأسرة تمثّل المدرسة الأولى لتشكيل وتوجيه سلوك الفرد وعاداته وطبائعه. "ويُعتبر الأب والأُم القدوة المثلى للأبناء، يرون فيهما صورة الكمال ويقلدونهما ويحاكونهما في سلوكهما وتصرفاتهما، ويكتسبون بطريقة لا شعورية، كثيراً من القيم والمبادئ والمثل والفضائل الأخلاقية، وما يفتقر إليه الأبوان من السمات والصفات الصالحة ينعكس في مفهوم الأبناء الأخلاقي".

ولذلك قد أوصى الرسول (ص) باختيار الزوجة الصالحة ذات الدين حتى تنشأ أولادها تنشئة صالحة، وتغرس في نفوسهم التمسك بالدين ومكارم الأخلاق. قال الرسول (ص): "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجسمها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك". وكذلك أوصى الرسول باختيار الزوج الصالح ذي الدين والخلق الطيب فقال: "إذا خطب إليكم من توصون دينه وخلقه فزوّجوه إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض".

إنّ اهتمام الرسول (ص) بتوجيه أصحابه إلى اختيار الزوج الصالح والزوجة الصالحة إنّما يدل على اهتمامه بتهيئة الجوّ الأسري الصالح للطفل لكي ينشأ نشأة سليمة صالحة، يتربى فيها تربية حسنة، ويتعلّم فيها من والديه التعاليم الإسلامية الصحيحة، والعادات الحسنة، والأخلاق الحميدة.

وبما أنّ الفرد "في هذه البيئة الاجتماعية الصغيرة يتلقّى أوّل إحساس بما يجب وما لا يجب القيام به"، فقد جعل الإسلام لها قيمة اجتماعية مفروضة، وشرع لها قوانين تضبطها ودعا إلى إنزال أشد العقوبات على مَن يتعدّى عليها، وينتهك حُرمتها.

·       المدرسة:

إنّ المدرسة تتم دور الأسرة في تربية الطفل، "فهي المكان الذي يمكن أن نساعد فيه الأطفال على تنمية عقولهم وحواسهم بطريقة منظمة ومخططة ومنسقة، وذلك بتهيئة الجوّ المناسب لهم من حيث حرِّية السؤال والتعبير عن الآراء والمناقشة والإفصاح عن آرائهم بما يتناسب مع مستواهم العقلي".

والمعلّمون في المدارس ممثّلون للقيم، وإن كانوا يختلفون فيما بينهم، إلّا أنّهم يتشابهون فيما يُجلّون من بعض قيم كقيمة النظام والمعرفة واحترام الكبير، من هنا فإنّ المعلّم يحظى بالاحترام والتقدير في كثير من المجتمعات، نظراً للدور العظيم الذي يقوم به في تربية الناشئة.

ولذلك تؤدّي المدرسة دوراً مهمّاً في التربية، فالبيئة الاجتماعية فيها أوسع من بيئة المنزل وأكثر تنوّعاً وأكثر ثراء فيما تقدّمه من خيرات في المجال التربوي.

·       المجتمع:

المجتمع هو الدائرة الأوسع التي يعيش فيها الإنسان، يتأثر بما يسود فيها من قيم، ويؤثر فيها، يأخذ منها ويعطيها، يلهمها ويستلهم منها، نتيجة التفاعل الذي يحدث بينه وبين أفراد المجتمع.

ففيه تنشأ العلاقات بين الأفراد أو الجماعات، ويستطيع المجتمع بما يحمله من قيم ومبادئ أن يعطي الفرد القدرة على حسن التعامل مع الآخرين، والمشاركة في التفاعل الاجتماعي، وإحراز مكانة في الجماعة الذي ينتمي إليهم.

فإنّ المجتمع بهيئاته المختلفة: كالمؤسسات التعليمية والثقافية، والروابط الاجتماعية والمهنية والسياسية وغيرها ذو أثر كبير في سلوك الفرد وقيمه واتجاهاته.

وقد عُني الإسلام بصورة بالغة في أمر البيئة الخاصّة، فلاحظ أهم جوانبها المؤثرة في انفعال الفرد واكسابه العادات والأخلاق، ومنها "الصداقة"، فإنّها من أقوى العوامل التربوية التي تنقل خلق كلّ واحد واتجاهاته وميوله إلى الآخر.

قال النبيّ (ص): "الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يخالل".

وقد حثّ الإسلام بإصرار بالغ على مصاحبة الأخيار، والملتزمين بدينهم، ومصاحبة ذوي الشرف والنبل والاستقامة حتى يكتسب منهم حسن السلوك ومكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال.

وحذّر من مصاحبة الأشخاص المصابين ببعض الأمراض النفسية والعاهات الأخلاقية.

وقال النبيّ (ص): "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه رائحة طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد فيه ريحاً خبيثة".

ولذلك أجمع المعنيون في البحوث التربوية أنّ "المجتمع من أهم العوامل التي تعتمد عليه التربية وتستغله في تشكيل الشخصية الإنسانية وتحقيق رغبات الأفراد والطبقات داخل النطاق الحضاري العام، كما تعمل على تحقيق درجة عالية من التكامل الاجتماعي، كما أنّها في الوقت نفسه، تقلل من ظهور التوترات، ومظاهر السلوك المنحرف".

-         مصادر التربية الإسلامية:

إنّ التربية في الإسلام تعنى بإيصال الإنسان إلى إرقى صور الكمال الإنساني، لذا عرفت هذه التربية بأنّها عملية مقصودة تهدف إلى تنشئة الإنسان الكامل. ويزداد الكمال الإنساني كلما ازدادت طاعته لله سبحانه وتعالى، لذا فإنّ الهدف العام للتربية الإسلامية هو الإقرار بالعبودية لله سبحانه وتعالى. وليس أدل على ذلك من قول الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56).

ولكلّ تربية مصادر تستقي منها النهج الذي تسير عليه في تصوراتها، ونقصد بالمصادر تلك الينابيع والأصول التي تستند إليها التربية في محتواها وأهدافها وخصائصها، "وما دمنا نقول تربية إسلامية، معنى ذلك أنّ مصدرها الإسلام الذي دستوره القرآن الكريم، وهو المصدر الأوّل، والمصدر الثاني هو السُّنة النبويّة الشريفة الشارحة للقرآن، المبيّنة لمقاصده والمفصّلة لأهدافه".

وللقرآن الكريم وقع عظيم وأثر تربوي بالغ في نفوس المسلمين، والسرّ في ذلك أنّ له أسلوباً رائعاً ومزايا فريدة في تربية الإنسان على الإيمان بوحدانية الله وباليوم الآخر.

وهكذا السُّنة المطهّرة، لأنّ الرسول (ص) كان نموذجاً تربوياً كاملاً للإنسان، فهو مربٍّ عظيم ذو أسلوب تربوي فذّ يسمو بالفرد وينهض بالمجتمع. على هذا فإنّ القرآن الكريم والسُّنة النبويّة ينطويان على أصول تربوية تشكّل أُسس التصور الإسلامي للتربية كما يلي:

·      القرآن الكريم:

إنّ أعظم وأهم مصدر تربوي في حياة المسلم هو القرآن الكريم، ولا غَرو في ذلك، فهو كلام الخالق – سبحانه وتعالى – إلى خلقه، وهو الأدرى والأعلم بهذا الخلق، وبما يحتاج إليه، وبما يفيده أو يضرّه؛ لقوله تعالى: (ألا يَعْلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) (الملك/ 14).

وممّا يدعو إلى الدهشة أنّ أوّل ما نزل من القرآن الكريم آيات تربوية حيث قال جل من قائل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 1-5).

كما أقسم – تعالى – أحد عشر قسماً أنّ النفس الإنسانية قابلة للتربية والتزكية والتسامي.

فإنّ آيات القرآن هي المتكفلة بهداية البشر وتربيتهم في جميع شؤونهم وأطوارهم، في أجيالهم وأدوارهم، وإذا ما نظرنا إلى الأسلوب القرآني من الوجهة التربوية، نجد ثمّة المنهج التربوي القرآني الأصلح في مناهج التربية التي عرفتها البشرية، والتي تحقق إنسانية الإنسان، لما له من أثر عظيم في إصلاح الفرد والجماعة، وتربية الناشئة على القيم والأخلاق.

·      السُّنة النبوية المطهرة:

السنّة بالإجماع هي "ما أضيف إلى النبّي (ص) من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خلقي أو خُلقي. وقد أمر الله تعالى في كتابه العزيز بإطاعة الرسول (ص) في كلّ أمور الحياة بقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر/ 7).

فالسُّنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، وهي تمثل – في الوقت نفسه – مصدراً رئيساً من مصادر التربية الإسلامية، ولما كان القرآن الكريم دستوراً يعالج كلّ أمور الحياة وقضايا الإنسان، ويتناول أصول التشريع فقد وكّل الله عزّوجلّ إلى رسوله (ص) مهمة إيضاح هذه الأصول، من بيان حكمة التنزيل في كلّ أمر من الأمور، وتفصيل الأوامر والنواهي التي جاءت عامّة في القرآن الكريم، كما ورد في قوله – تعالى -: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل/ 44).

وكذلك تتناول السُّنة بيان تشريعات وآداب أخرى كما ورد في قول الرسول (ص): "ألا وإنّي أُوتيت الكتاب ومثله معه". فكلّ ما جاء به الرسول (ص) من أمور الدين ليس من لدنه وإنّما هو بوحي من الله تعالى: (وَما يَنطِقُ عَن الهَوى * إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحى) (النجم/ 3-4).

ولذلك يُعتبر تطبيقاً عمليّاً لبناء مجتمع إسلامي متكامل، وفق التربية الربّانية، وتحديداً للمثل الإسلامي الأعلى للحياة الذي يستهدفه، وما يجب أن يسود فيه علاقات، وأساليب التعامل التي ترتقي به.

وقد بذل رسولنا الكريم (ص) جهداً كبيراً في بناء النفس البشرية، ويمثل الجانب التربوي محوراً من أهم المحاور في رسالته، ومَن يدرس شخصيته (ص) فسوف يجده مربياً عظيماً ذا أسلوب تربوي فريد.

ولذلك كان "للسُّنة النبوية في المجال التربوي فائدتان عظيمتان:

أ‌) إيضاح المنهج التربوي الإسلامي المتكامل الوارد في القرآن الكريم وبيان التفاصيل التي لم ترد في القرآن الكريم.

ب‌) استنباط أسلوب تربوي من حياة الرسول (ص) مع أصحابه، ومعاملته الأولاد، وغرسه الإيمان في النفوس".

 

المصدر: كتاب الفكر التربوي الإسلامي عند الإمام جعفر الصادق (ع)

ارسال التعليق

Top