• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

دور الحجّ في ترسيخ السّلام في العلاقات الاجتماعية

محمّد مهدي الآصفي

دور الحجّ في ترسيخ السّلام في العلاقات الاجتماعية

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا) (العنكبوت/ 67).

من مهام الحج تحقيق السلام في العلاقات الاجتماعية، وتوفير فرصة نموذجية للسلام في العلاقات فيما بين الناس، في فترة الإحرام في الحج، وتوفير رقعة نموذجية من الأرض؛ لتمكين السلام في العلاقات الاجتماعية هي رقعة الحرم. ولكي نعرف موقع السلام في هذه الرحلة، لابدّ من أن نستعرض المراحل الأساسية فيها بإيجاز شديد، بالقدر الذي نستطيع أن نتعرف فيه على مواقع السلام في هذه الرحلة الإلهية. الحج رحلة الأنا والذات إلى الله على الطريقة الإبراهيمية أو اختزال لهذه الرحلة الشاقة التي قطعها من قبل أبونا إبراهيم (ع)، على الطريقة الرمزية التي تعتمدها فريضة الحج بصورة واضحة. هذه الرحلة تبدأ مهمتها من الميقات، وتنتهي بطواف النساء وطواف الوداع والآن نشير بإجمال إلى الأشواط الرئيسة التي يقطعها الحاج في هذه المرحلة من الأنا إلى الله تعالى.   1- التحرُّر من الأنا: تبدأ هذه الرحلة في الميقات بتجاوز الذات والأنا، ومحاولة صهر الذات والأنا في المسيرة الإيمانية إلى الله تعالى، وهذه هي المرحلة الأولى في هذه الرحلة الإلهية. وتصبّ هذه الذوات – بعد انسلاخها عن الأنا، ومختصات هذا الأنا – في الحشد البشري الكبير، في الطواف حول البيت، كما تصب السواقي والأنهر الصغيرة في البحر الكبير، فلا تستطيع أن تميز – بعد ذلك – أين هي مياه هذه السواقي من البحر الكبير، وهي رحلة شاقة وذات معاني كبيرة في حياة الإنسان، تستحق منا الكثير من التأمل والتفكير. تبدأ هذه الرحلة من الميقات، حيث يتجرّد الإنسان فيه من ذاته وأهوائه، وخصائصه التي تفرزه عن الآخرين وتفرده... وتحجزه عن الانصهار في المسيرة الإلهية الحاشدة، التي لا يتمايز فيها الأفراد، ولا يحجز بعضهم عن البعض شيءٌ من هذه النوازع، والفوارز التي تفصل الناس بعضهم عن بعض.. إنّ الميقات حدّ فاصل، بين الأنا وبين الجماعة المؤمنة. فقبل أن يدخل الحاج الميقات يعيش كما يعيش سائرُ الناس الأنا تمييزاً وتشخيصاً. وللأنا تظاهر وبروز في حياتهم، وللأنا سماته ومعالمه الواضحة. فإذا دخل الميقات تضاءل الأنا وخف صراخه وصوته وفقد معالمه ومميزاته، وفقد لونه وصبغته الصارخة، وهذا الإنقلاب في الشخصية والموقع يتمّ في الميقات. ويرمز إلى هذا الإنقلاب (لباس الإحرام). وقد قلنا: إنّ الحج يعبّر عن المعاني والمفاهيم التي تنطوي عليها بلغة الرمز. فعند الميقات يتجرد الحاج عن كل ملابسه وما تحمله من سمات شخصية وطبقية وقومية وإقليمية. إنّ لباس الإنسان يحمل هويته ويحمل الإشارة إلى شخصية الإنسان وانتمائه القومي والإقليمي والعقدي وطبقته ومهنته ودرجته في الثراء والفقر والمستوى الاجتماعي. فإذا بلغ الميقات تجرد عن ملابسه، ولبس ثياب الإحرام إزاراً ورداءً... وكانا قطعتين من القماش، لم يستعمل فيهما الخيط، كالآخرين على نحو سواء في غير بذخ ولا شرف ولا تمييز، وخلع عن نفسه ملابسه التي كانت تحمل هويته وتعبر عن شخصيته. إنّ هذه الخطوة الأولى في الميقات تعبّر عن انسلاخ الإنسان عن هويته وشخصيته وأنانيته وتعبر أيضاً عن العبور على الذات وتجاوز الأنا. وكما يجرد الميت عن ملابسه، لأنّ دور الأنا في حياته قد انتهى، ولم يعد للأنا حجم ولا دور ولا شكل في المراحلة الجديدة من حياته، كذلك الميقات مرحلة أخرى من الحياة ضمن هذه الحياة الدنيا، يتجرد فيها الحاج عن هويته وأنانيته، وينسلخ عن ذاته ليدخل الميقات، وكان الميقات مصفاة، وأول شيء تأخذه هذه المرحلة من الإنسان هو ذاته، فإذا تجرد عن الأنا وانسلخ عن ذاته حق له أن يتجاوز الميقات إلى الحج، وما لم يتخلص الإنسان عن ذاته فلا يحق له أن يتجاوز الميقات إلى لقاء الله. فإذا خلص في هذه المصفاة من ذاته اجتاز الميقات وتوجه إلى الحج. وإنّ أكثر ما يثير المتاعب في حياة الناس ويعكّر العلاقة فيما بينهم هو التصادم الذي يحدث بين الذوات والأنانيات، وعندما تذوب الذات عند الإنسان وتنصهر، ويخلص الإنسان من طغيان الأنا، ينتهي شطر كبير من مشاكل الإنسان، ولقاءاته السلبية مع الآخرين، وما يستتبعه من صدام وتردي العلاقة، وحالة الأثرة والأنانية، وحب الذات، فإذا خلصت حياته من الذاتية والأنانية تمكن أن يسلم من هذه المشاكل والمتاعب التي تعجّ بها حياة الناس في المجتمع، واستطاع أن يضع حياته وعلاقاته الاجتماعية على أسس سليمة وأن يحكم السلام في علاقاته مع الآخرين.   التجمل والترف: وفي الميقات يختص الإنسان مع خصلة أخرى من خصال الأنا، وهي خصلة ممدوحة لو كانت في الحدود المعقولة، التي لا تستأثر باهتمام الإنسان كله ولا تملك إرادته ولا تحكمها، فإذا تحولت هذه الخصلة إلى خصلة حاكمة على إرادته كانت صفة ذميمة من صفات الإنسان، وتلك هي خصلة التجمل، فهي خصلة ممدوحة في الحدود التي تظهر على الإنسان نعم الله تعالى وفضله، فإذا تحولت إلى خاصية من خواص الذات، مهمتها إبراز الذات وإظهارها، لا إبراز نعم الله تعالى وفضله، تحولت إلى صفة ذميمة من صفات الذات، وسلبته القدرة على تحمل الشظف والسير على طريق ذات الشوكة. وفي الميقات يدخل الأنا في هذه التصفية الإلهية، ويلزم الإحرام التخلي – في فترة الإحرام – عن هذه الخصلة، ويحرم عليه الطيب والتجمل، حتى بالنسبة للنساء، فيما يتجاوز الحد المألوف للمرأة في التجمل، وذلك لتمكين الإنسان من هذه الخصلة التي تشكل حالة تظاهر للأنا، وحالة ترف تؤثر تأثيراً سلبياً على إرادة الإنسان، وقدرته في مواجهة متاعب الطريق، إذا لم يعمل على تعديل وتهذيب هذه الخصلة، وإرجاعها إلى نصابها الممدوح، الذي يقره الإسلام ويأمر به.   سلطان الهوى والشهوات: وفي الميقات يمر الأنا بتصفية ثالثة، هي تخليص الإنسان من سلطان الهوى والشهوات والغرائز، وهي مسألة في غاية الدقة في الإسلام فقد قلنا إنّ تخليص الإنسان من سلطان الهوى والشهوات، ولم نقل من الهوى والشهوات ذلك لأنّ الإسلام لا يكافح الأهواء والشهوات في نفس الإنسان، وإنما يعتبرها ضرورة من ضرورات الحياة ومن دونها تختل الحياة، وإنما الذي يكافحه الإسلام هو سلطان الهوى، والشهوات على الإنسان وإرادته، وليست الأهواء والشهوات في حدّ ذاتها مصدراً للإنحراف والسقوط في حياة الإنسان، وإنما الإنحراف والسقوط يأتي من ناحية سلطان الهوى على إرادته، فإذا تمكنت الأهواء منه، وتحكمت الشهوات عليه وخضع واستسلم لها، عند ذلك فقط يتمكن الشيطان منه، ويتعرض الإنسان للسقوط والإنحراف. ولذلك فإنّ النهج الإسلامي في التربية يعمل على ترويض الأهواء والشهوات وتطويعها لإرادة الإنسان، وتمكين الإرادة منها، دون أن يكافحها ويحاربها ويستأصلها ويصادرها. والصوم نموذج واضح لهذا المنهج التربوي. والميقات هو الآخر يقع في هذا الخط التربوي. ففي الميقات يتعرض الإنسان لتصفية واسعة في (الأنا) و(الهوى)، ويمتص الميقات من نفس الإنسان سلطان هاتين الخصلتين، ويسمح له بالدخول في رحاب ضيافة الله – تعالى – بعد أن يجرده من هذه النزعة الحيوانية التي تطغى على تصرفاته وتحكم إرادته وفعله. والهوى عندما يحكم الإنسان يتحول إلى مصدر للشرّ في علاقاته وحياته الاجتماعية، ويسلب الأمن والسلام في حياة الناس، فليس ما بين الناس من خلاف وصراع وصدام مصدره الاختلاف في الرأي غالباً وإنما يعود السبب في نسبة كبيرة وواسعة في هذه الخلافات إلى عامل الهوى في العلاقات الاجتماعية ولو أنّ مئة وأربعة وعشرين ألف نبيٍّ عاشوا في مكان واحد لما اختلفوا فيما بينهم، لأنّه لا سلطان للهوى في نفوسهم. فالميقات نقطة تحول وإنقلاب في حياة الإنسان، وأهم ما في هذا الإنقلاب هو إضعاف الأنا والذات، وخصال وخصائص في حياة الإنسان. فإذا تجرد عن ذلك كان مؤهلاً للدخول في رحاب ضيافة الله في الحج. ومن عجب أنّ المذاهب الفكرية المادية تؤكد عكس ذلك تعزيز الأنا وتثبيت واعتماد عنصر الاعتداد بالنفس، وتنمية حالة الغرور والعجب. بخلاف الإسلام الذي يبني منهجه التربوي على أصل مكافحة الأنا وإضعافها وتحجيمها، وتحويل الإنسان من محور الأنا، إلى محور حاكمية الله تعالى وسلطانه في حياته، ويدعو الإنسان إلى التحلل من هذا المحور والارتباط بالمحور الرباني والانصهار فيه (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام/ 162).   2- الانصهار في الجماعة: فإذا تجرد الإنسان عن الأنا وانسلخ عن ذاته وجد نفسه فجأة في وسط حشد بشري كبير، لا يمتاز بعضهم عن بعض، ولا يكاد يفرق بينهم شيء، يتحرك ضمن موج بشري كبير هادر، ينطلق من الميقات إلى الكعبة، كما تصب الأنهر في البحر من كل ميقات من هذه المواقيت إلى الكعبة، التي وقّتها رسول الله (ص)، تجري أنهر كثيرة من الناس تصب في الحرم حول الكعبة، فتتجمع هذه الأنهر حول البيت الذي رفع قواعده إبراهيم ومعه ابنه إسماعيل – عليهما السلام – وفي هذا التيار البشري العظيم يتضاءل عنده الإحساس بالأنا، حتى لا تكاد تشعر به حواسه ومشاعره، فلا ترى في المطاف أفراداً يتحركون، وإنما ترى كتلة بشرية واحدة من الناس تطوف حول البيت العتيق. ولو أنّ الحاج الذي تجرد في الميقات عن الأنا، لم يكن يصب في المطاف في الجماعة المؤمنة، لكان يضيع ويفقد مقومات وجوده وشخصيته، ولكنه لا يكاد يتجرد عن الأنا ومعالمه وحدوده حتى يصب في الجماعة الكبيرة، كما تصب قطرات الماء في النهر الكبير، ويعود في المطاف إلى لون جديد من الحياة، وإلى حياة جديدة لم يألفها من قبل بهذه القوة والفاعلية، ولم يتذوقها بهذه الصورة تموت فيه الأنا، ويبعث الله في نفسه الإحساس بالجماعة، وينتقل إلى طور جديد من الحياة أهم خصائصه غياب الفردية، وحضور الجماعة؛ ويتكرس هذا الإحساس لدى الإنسان في المطاف وفي السعي، وفي الموقف في عرفات، وفي الأفاضة إلى المزدلفة، وفي المزدلفة، وفي منى، وفي العودة إلى الطواف والسعي يتضاءل لدى الإنسان المسلم الإحساس بالأنا، ويتأكد لديه الإحساس بالجماعة المسلمة، وبأنّه عضو من جسم واحد، وليس فرداً من مجموعة إنسانية، وبأنّ هذه الأُمّة كيان واحد ومصير واحد وما يصيبها من خير وشر يصيب الجميع، وبأنّه وحده لا يستطيع أن يتحرك إلى الله على خطى إبراهيم (ع)، إلا أن يذوب في هذا الحشد البشري الكبير المتجه إلى الله. إنّ الناس قبل أن يتجاوزوا المقيات إلى الحرم مجموعة من الأفراد، يتمايزون فيما بينهم، ويتزايدون، ويتفاخرون، ويتجادلون، ويضر بعضهم بعضا، ويعتدي بعضهم على بعض، وتجمعهم المجامع من المدن والضواحي والقرى فتتجمع في هذه المجامع البشرية ساحة للصراع والخلاف. أمّا عندما يتجاوزون الميقات إلى الحرم، ويصبون – من خلال قنوات المواقيت التي وقّتها رسول الله (ص) – إلى الحرم، فإنهم يتحولون إلى أمة واحدة، ويتحركون باتجاه واحد ويلبّون دعوة واحدة ويلبسون زيّاً واحداً، ويطوفون حول كعبة واحدة، ويسعون في مسار واحد ويؤدون مناسك واحدة، لا يختلفون ولا يتجادلون، ولا يتفاخرون، ولا يتضاربون، ولا يؤذي بعضهم بعضاً، وكأنّ الحرم يصهرهم في بوتقة واحدة، ويجعل منهم كياناً جديداً يختلف عما كانوا عليه.   الحرم الآمن: وأبرز خصائص هذا التركيب الجديد للمجتمع البشري الذي يستحدثه الحرم في حياة الناس هو الأمن، والإحساس بالأمن. إنّ هذا الأمن من خصائص ونتائج هذا التركيب البشري الجديد الذي يجده الناس في الحرم، وهو في نفس الوقت من أسبابه وموجباته. فإنّ الناس إذا شعروا بالأمن بعضهم من بعض، التقى بعضهم بعضاً دون حذر، وتعامل بعضهم من بعضن وتلاقوا، وتآلفوا، وتعاونوا. فالأمن يعد الناس ليكونوا أمة واحدة، والأمن يعطي للناس هذه الفرصة، التي تتطلبها عملية الانتقال من الحياة الفردية، التي يعيشها الناس عامة إلى هذا النمط الجديد، الذي يريده الله تعالى لعباده، والذي يرسم الحرم نموذجاً له، كما يصح العكس أيضاً، فإنّ الأمن والإحساس بالأمن هو النتيجة الطبيعية لهذا اللون الجديد من الحياة الاجتماعية. فإنّ الناس عندما يحشرون في الحرم لا يختلفون ولا يتشاجرون ولا يتفاخرون ولا يتزايدون ولا يتضاربون.   - الحرم رقعة نموذجية لساحة الحياة: والله تعالى يريد أن يكون وجه الأرض كله آمنا للناس، يعيش الناس بعضهم مع بعض في أمن ودعة وسلام لا يحنق بعضهم على بعض، ولا ينوى أحد لأحد شرا، يُؤثِر بعضهم بعضاً على نفسه، ويحب بعضهم بعضاً. يقول تعالى في صفة المهاجرين والأنصار في الصدر الأوّل من هذا الدين... (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر/ 9-10). ولكن الناس يرفضون أن يعيشوا كما يريد الله تعالى لهم. فجعل الله لهم من الحرم (رقعة نموذجية) للحياة الآمنة التي يريدها للناس. بدعاء عبده وخليله إبراهيم (ع): (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ...) (البقرة/ 126). هذا هو دعاء العبد الصالح إبراهيم (ع): وقد استجاب الله تعالى لدعاء عبده وخليله إبراهيم (ع) فقال: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) (البقرة/ 125). والمثابة: المحل الذي يرجع إليه الناس. وقد جعل الله – تعالى – البيت مثابة للناس يجمع الناس ويرجعون إليه، ويقصدونه من كل فج عميق، ثمّ جعله آمنا يأمن فيه الناس بعضهم من بعض، ولا يحذر فيه أحد الآخرين على نفسه؛ يقول تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا) (العنكبوت/ 67)، وجعل رقعة الحرم رقعة نموذجية لساحة الحياة كلها، كما جعل الشهر الذي يتم فيه الحج (ذو الحجة) من الأشهر الحرم. يقول الله تعالى: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران/ 97). وحتى (الجدال) الذي ينطوي على نوع من العدوان على الآخرين يحرمه الله تعالى على الحجاج. (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة/ 197). فإنّ الجدال منفذ للعدوان بين الناس. وكثير من العدوان يبدأ بين الناس من الجدال الذي يسعى فيه كل من الطرفين المتجادلين إلى إثبات الذات وتجاوز الطرف الآخر. والأمن في الحرم أمن شامل، يشمل حتى الحيوان والنبات، فلا يجوز الصيد في الحرم، ولا يجوز قطع النباتات والأشجار في منطقة الحرم إلا في حالات خاصة يذكرها الفقهاء.. ورحمة الصيد وقطع النباتات لا تخص حالة الإحرام، فإنّهما تحرمان على المحرم والمحل معاً في منطقة الإحرام. والحرم في الإسلام عينة صغيرة لساحة الحياة كلها، والذي يجب أن يعرف رأي الإسلام في الحياة؛ فإنّ هذه العينة الصغيرة والرقعة المحدودة من الأرض تجسد تخطيط الإسلام لساحة الحياة الواسعة، فإنّ العلاقة فيما بين الناس والارتباط والتلاقي هو الإفراز الطبيعي للحياة الاجتماعية. فمن أجل هذه العلاقة واللقاء والتلاقي خلق الله – تعالى – الإنسان اجتماعياً وأعدّه للحياة الاجتماعية. ولا يبلغ الإنسان الكمال والنضج الذي أعده الله تعالى له إلا في وسط هذه العلاقات واللقاءات والتلاقي في الحياة الاجتماعية. فلو أنّ إنساناً اعتزل الحياة وعاش وحده في جزيرة قاصية لم يبلغ بالتأكيد النضج والكمال الذي أعدّه الله – تعالى – له. وهذه اللقاءات والعلاقات إنما تثمر وتعطي وتنتج في حياة الإنسان، فيما إذا توفر له الجو السليم، الأمن والسلام. أما عندما تكون هذه العلاقة في جو من الريبة والحذر، والخوف والقلق والعدوان والكيد والمكر، فإنّ هذه العلاقة والارتباط فيما بين الناس لا تكاد تثمر هذه الثمرة، ولا تكاد تبلغ بالإنسان النضج والكمال، الذي يطلبه الإنسان في الحياة الاجتماعية، من خلال هذه العلاقات واللقاءات والارتباطات، بل قد تعود العلاقة في مثل هذا الجو إلى نتائج سلبية في حياة الإنسان. فالإسلام يخطط بناءً على هذا الفهم لضرورة العلاقة وحدودها في حياة الإنسان، ليجعل العلاقة فيها بين الناس في الحياة الاجتماعية في جو آمن وسليم، فيأمن الإنسان الآخرين على نفسه في حضوره وغيبته، وفي نفسه، وعرضه، وماله، ويأمن على نفسه من ألسنة الآخرين وأيديهم، ومن مكرهم وكيدهم وعدوانهم، فيعيش في جو من الأمن الشامل، ويبني علاقاته كلها مع الآخرين في هذا الجو الآمن، في السراء والضراء، وفي التجارة والبيع، وفي الزواج والعلاقات الاجتماعية، وفي علاقاته مع أصدقائه وزملائه، وفي علاقاته مع أعضاء أسرته، وفي ارتباطه بمن هو فوقه ومن هو دونه، وحينما يأخذ وحينما يعطي، وحينما يحتاج إلى الآخرين وحينما يحتاج إليه الآخرون... الإسلام يخطّط ويعمل؛ ليجعل العلاقة فيما بين الناس في الحياة الاجتماعية على كل الأصعدة في جو من الأمن والسلام، لتعطي هذه العلاقة الثمرات المطلوبة منها في الحياة الاجتماعية، ويخطط الإسلام ويعمل ليجعل الحياة الاجتماعية حياة آمنة مطمئنة ليتعايش الناس فيها بسلام. والحرم عينة صغيرة نموذجية في الحياة الآمنة والمطمئنة التي يطلبها الإسلام.. والإحرام عينة أخرى نموذجية للحالة التي يطلبها الإسلام للناس في الحياة الاجتماعية، في علاقة الناس بعضهم ببعض. ويعود الحجاج من الإحرام والحرم إلى واقع حياتهم ليأخذوا معهم النموذج الإلهي للحياة وللعلاقات الاجتماعية، ويعيشوا حياتهم بها.   3- الانتقال إلى المحور الإلهي: وهذه هي المرحلة الثالثة، من رحلة الحج الإبراهيمي. في المرحلة الأولى يتخلص الإنسان من فرديته وأنانيته وأعراض هذه الأنانية. وفي المرحلة الثانية يصب في الحرم في الجماعة المسلمة، وينصهر في هذه الجماعة (الأُمّة). وفي المرحلة الثالثة وهي الغاية الأخيرة في هذه الرحلة تصب هذه الجماعة في المطاف حول الكعبة. والكعبة في لغة الحج الرمزية رمز للمحورية الإلهية في حياة الإنسان. وإذا استطاع الإنسان في المرحلة الأولى من هذه الرحلة، أن يتخلص من جاذبية محور الأنانية في حياته، فإنّ المحور الإلهي يجذبه جذباً قوياً بطبيعة الحال. وإنجذاب الإنسان إلى هذا المحور، أمر طبيعي كامن في عمق فطرة الإنسان، والأنا هو الذي يحجز الإنسان عن هذه الجاذبية، فإذا تحرر عن حاجز الأنا فإنّ الجاذبية الإلهية تجذبه. والطواف بعد الإحرام رمز لذلك. فإنّ الاحرام من الميقات يرمز للتحرر من الأنا. والطواف حول البيت يرمز إلى الإنجذاب إلى الله تعالى، والحركة حول المحور الإلهي في الحياة. وعليه فإنّ حركة الطواف نقلة في حياة الإنسان من الأنا إلى الله تعالى. إنّه تعبير رمزي عن التوحيد في حياة الإنسان المسلم، إلا أنّ هذا التوحيد ليس هو التوحيد النظري، الذي يعرفه الناس، وإنما هو توحيد العبودية لله، وتوحيد الحب والولاء والاهتمام، كما ترسمه الآية المباركة من سورة الأنعام: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام/ 163). إنّ الطواف يرمز إلى الحركة الإنسانية الدائمة والمستمرة حول هذا المحور الإلهي في التاريخ، وإننا لننظر من بعيد إلى حركة التاريخ، فنرى أنّ حركة التاريخ تجسد (التوحيد) في حياة الإنسان، وأنّ الأنبياء – عليهم السلام – وأممهم – إلا في فترات قصيرة جدّاً – يجسدون هذه الحركة البشرية الدائمة حور محور الألوهية. ولكن عندما ندخل نحن ضمن هذه الحركة فسوف نواجه ألواناً من المضايقات والأذى والمشاكسات من الهوى في داخل أنفسنا، ومن الطاغوت في المجتمع، ومن شياطين الجن والإنس الذين يضايقون الناس في حركتهم إلى الله. وحركة الطواف حول الكعبة تجسد هذا الواقع بالدقة؛ فإذا نظرت من الأعلى إلى المطاف ترى حركة دائرة لجماهير الطائفين بصورة مستمرة، وكأنّ أرض المسجد الحرام تطوف بهم حول البيت في حركة منظمة وهادئة، أما إذا دخلت بنفسك في المطاف التقيت بالوجه الآخر لهذه الحركة الإنسانية حول المحور الإلهي، من المعاناة ومواجهة العقبات والمضايقات، وهو يختلف اختلافاً كبيراً عن الوجه الأوّل الهادئ والمريح.   لماذا عبر الانصهار في الجماعة؟ في هذه المرحلة نحن نفهم المنطلق والغاية في حركة الإنسان بصورة دقيقة، فالمنطلق الذي ينطلق منه الإنسان هو تجاوز الأنا والذات ويعبر الإحرام في الميقات عن هذا المنطلق. والغاية هي الحركة إلى الله وتوحيده – تعالى –، ويرمز الطواف إلى هذه الغاية. ولكن الإنسان في الحج يصل إلى هذه الغاية عبر الانصهار في الجماعة المسلمة، ومن دون الانصار في الأُمّة المسلمة لا يمكن الوصول إلى هذه الغاية.. إنّ التخطيط الإسلامي للحج يؤكد على حضور الأُمّة المسلمة تواجدها في موسم الحج من كل فج عميق. (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج/ 27). إنّ هذا الأذان والإعلان والدعوة الإلهية العامة للحج، من قبل الله ورسوله، والاستجابة من قبل الناس من كل فج عميق، يشكل بالتأكيد بعداً هاماً من أبعاد الحج. وعندما نستعرض آيات الحج، والكعبة والبيت، في القرآن منذ أنّ رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت، نجد اهتماماً كبيراً بحضور الناس في هذا البيت، وفي هذا الموسم، وأبلغ ما في ذلك تعبير القرآن عن بيت الله بأنّه بيت الناس (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا...) (آل عمران/ 96-97). ومن عجب أنّ الله تعالى يخص الناس – عباده – بأول بيت وأشرف بيت ويعلن عن أنه بيت للناس ثمّ يدعو الناس إليه (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (آل عمران/ 97). وفي دعاء إبراهيم (ع) نجد أنّ إبراهيم خليل الرحمن، عندما أودع أهله وذريته بهذا الوادي القاحل غير ذي زرع، دعا الله تعالى أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم/ 37). وأيضاً نجد في سورة البقرة: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) (البقرة/ 125). فالبيت مثابة للناس يجتمع الناس حوله، ويثوب إليه الناس، ويجمع الناس من كل حدب وصوب، ثمّ إننا في سورة المائدة نقرأ: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) (المائدة/ 97). فالكعبة تقوم حياة الناس، وتقوم حياة الناس بها، وعند الإفاضة يأمر الله – تعالى – عبادة أن لا ينفرد بعضهم عن بعض في الإفاضة، وإنما يفيض كلّ منهم من حيث أفاض الناس (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) (البقرة/ 199). إذاً حضور الناس حول البيت وتواجدهم في الموسم، وانصهار الفرد داخل البيت والحرم في الناس شيء أساس في الحج، في طريق حركة الإنسان إلى الله تعالى. ونتساءل بعد ذلك، لماذا؟ وهو سؤال مهم يرتبط بسر من أسرار هذا الدين، فإنّ هذا الدين يحرك الإنسان إلى الله – تعالى – ولكن من خلال الحضور في وسط الناس. فالحج حركة إلى الله، ولكن من خلال الانصهار في الناس، والصلاة معراج كل مؤمن، ولكن من خلال الجماعة، وحتى الاعتكاف الذي هو نحو من الاعتزال عن الناس يتم في المسجد الحرام ومسجد النبي (ص) والمسجد الجامع في الكوفة، والمسجد الجامع في أي بلد، وليس في أي مسجد معزول متروك، فنتساءل مرة أخرى لماذا لا تتم حركة الإنسان إلى الله في الحج إلا من خلال الانصهار في الناس ومن خلال الحضور في وسط الناس؟ والجواب: إنّ من غير الممكن أن يتجاوز الإنسان الأنا في عزلة من الناس، وهو شرط أساس في الحركة إلى الله تعالى. والإنسان قد يتصور إذا اعتزال الناس، وابتعد عن الحياة الاجتماعية، يتحرّر من الأنا والهوى والشهوات والرغبات، ولكنه يخطئ كثيراً، فإنّ نزعاتِ الأنانية تبقى مطوية في خبايا نفسه، وهو غير شاعر بها، فإذا دخل الحياة الاجتماعية واحتكَّ بالناس، برزت هذه النزعات المخبوءة، على السطح الظاهر من شخصيته، ولا يمكن اجتثاث هذه النزعات والقضاء عليها إلا في وسط الحياة الاجتماعية. إنّ هذه النزعات لا يمكن استئصالها إلا من خلال صراع مرير مع النفس في وسط الحياة الاجتماعية، ولا شك أنّ هذه النزعات، تختفي في حياة العزلة والرهبانية، إلا أنها تبقى كامنة ومختفية في النفس، فإذا صادفت فرصة مناسبة وجواً مناسباً تبرز مرة واحدة. ولذلك لابدّ من هذا الوسط الاجتماعي والحياة الاجتماعية، والحضور في وسط المغريات والمثيرات ليستطيع الإنسان أن يتجاوز الأنا بصورة كاملة. وحقيقة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى: أنّ حركة الإنسان إلى الله – تعالى – حركة شاقة عسيرة وصعبة، ولا يستطيع الإنسان أن يطوي هذا الطريق وحده، فإذا حضر نفسه في الجماعة المؤمنة، وانصهر في وسط الأُمّة هان عليه السير، واستطاع أن يطوي معهم هذا الطريق بكفاءة وجدارة ويسر. لذلك نقول في الصلاة، ونكرر في كل يوم عشر مرات (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة/ 5)، بصيغة الجمع، وليس بصيغة المتكلم الوحده، فإنّ الطريق إلى الله طريق صعب. وليس من شك أنّ سلوك هذا الطريق، وطي هذه المسافة مع الجماعة المؤمنة آمن وأسلم وأيسر. ولذلك نجد أنّ الطريق إلى الله – تعالى – يتمّ في الإسلام، عبر الحضور في الجماعة المسلمة والانصهار فيها، وليس بمعزل عنها.   الأبعاد الثلاثة للحجّ: 1-    مرحلة تجاوز الذات. 2-    مرحلة الانصهار في الجماعة. 3-    مرحلة الحركة إلى الله. وهذه المراحل الثلاث هي الأطراف الثلاثة في علاقات الإنسان؛ فإنّ للإنسان علاقة بالله تعالى، وعلاقة بالمجتمع والكون، وعلاقة بنفسه. وهذه العلاقات منظورة جميعاً في الحج. ومن عجب أن تكون علاقة الإنسان بالجماعة وانصهاره فيها، هو الجسر الذي يربط الإنسان بالله تعالى، وليس هو الحاجز والحاجب والعقبة كما في التصورات الرهبانية.   المصدر: مجلة ميقات الحج/ العدد 1 لسنة 1415هـ

ارسال التعليق

Top