• ٥ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التعاطي مع القوانين الوضعية

مركز نون للتأليف والترجمة

التعاطي مع القوانين الوضعية

 ◄ الإسلام قدّم رؤية واقعيّة متقدّمة جدّاً. فهو يرى أنّ الهدف والهمّ الحقيقيّ هو الناس، فالناس في أيّ مجتمع يلزمهم حكومة ونظام لأجل مصالحهم، لأجل أمنهم واستقرارهم، وأيضاً لأجل تطوّرهم، وحتّى يتمكّنوا من حلِّ مشاكلهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة وغيرها.

   الإسلام لا يريد أن يتنازعوا، بل أن ينظّموا حياتهم بشكل أو بآخر. إذا توفَّر هذا في دولة إسلاميّة فهذا جيد، لكن إذا لم تكن هناك دولة إسلاميّة، وهناك قوانين لدى هذه الدولة غير الإسلاميّة، قوانين ترعى مصالح الناس، تنظِّم الشؤون الحياتيّة للناس، تؤمّن هذا الهدف بشكل أو بآخر، هنا لا يأتي الإسلام ويقول: لأنّ هذه القوانين صادرة عن دولة غير إسلاميّة فهذه قوانين غير محترمة ولا يجب مراعاتها، اذهبوا واعملوا الذي تريدونه؛ أي الفوضى، فإنّ هذا خلاف الهدف ولا يقبل به الإسلام.    جاء الإسلام وقدّم، بحسب اجتهاد فقهائنا ومراجعنا الكبار، قدّم فهماً، يتحدَّث عن شيء اسمه حفظ النظام العام، حفظ المصالح العامّة للناس والمجتمع، عدم جواز الإخلال بالحياة العامّة والنظام العامّ والقوانين العامَّة التي ترعى شؤون الناس وحياتهم ومصالحهم. حتّى لو كان ذلك في ظلّ دولة غير إسلاميّة.  فلا ينبغي لنا بعد ذلك كلّه أن نخالف الأمر الذي دعا إليه الشرع الحنيف، بل ينبغي أن نكون منتظمين خلفه ملتزمين بتوجيهاته، إذ بها ننال خير الدنيا وعافية الآخرة. الدين والقانون[1] قد آن الأوان أن نعترف بالحقيقة القائلة: بأنّ البشر لا يستطيعون وضع دستور لهم بدون هدى الله. وبدلاً من المضيّ في الجهود التي لا تأتي بنتائج مثمرة، علينا أن نعترف بالواقع الذي يدعونا إليه الدكتور فرويدمان، حين يقول: "يتّضح بعد دراسة هذه الجهود المختلفة أنّه لا بدّ من هداية الدّين لتقييم المعيار الحقيقيّ للعدل. والأساس الذي يحمله الدين لإعطاء العدل صورة عمليّة ينفرد هو بها في حقّيته وبساطته".[2]    إنّنا نجد في الدين جميع الأسس اللازمة التي يبحث عنها المشرّعون لصياغة دستور مثالي، ولكي يتّضح صدق ما نقوله، نأتي بالدراسة الوجيزة التالية في أهمّ مشكلات التشريع الإنساني: (منها) مصدر التشريع، وأوّل الأسئلة وأهمّها بالنسبة لأيّ تشريع هو البحث عن مصدر هذا التشريع: من الذي يضعه؟! ومن ذا يعتمده حتّى يصبح نافذة المفعول؟.    لم يصل خبراء التشريع إلى إجابة عن هذا السؤال حتّى الآن. ولو أنّنا خوّلنا هذا الامتياز للحاكم، لمجرّد كونه حاكماً، فليس هناك أساس نظريّ وعمليّ يجيز تمتّعه هو أو شركاؤه في الحكم بذلك الامتياز، ثم أنّ هذا التحويل من ناحية أخرى لا يجدي نفعاً، فإنّ إطلاق أيدي الحكّام ليصدروا أيّ شيء لتنفيذه بوسيلة القوّة؟ أمر لا تُطيقه ولا تحتمله الجماهير.  ولو أنّنا خوّلنا سلطة التشريع لرجال المجتمع، فهم أكثر جهالة وحمقاً، لأنّ المجتمع، أيّ مجتمع! إذا نظرنا إليه ككّل، لا يتمتّع بالعلم والعقل والتجربة، وهي أمور لا بدّ منها عند التشريع. فهذا العمل يتطلّب مهارة فائقة وعلماً وخبرة، وهو ما لا يستطيع العامّة من الجماهير الحصول عليه، كما أنّها، وإن أرادت، لن تجد الوقت الكافي لدراسة المشكلات القانونيّة وفهمها. وللخروج من هذه المشكلة توصّل رجال القانون إلى حلّ وسط، وهو أن يقوم (البالغون) من أفراد المجتمع بانتخاب ممثّلين لهم، وهؤلاء بدورهم يصدرون التشريعات باسم الشعب. ومن الممكن أن ندرك حماقة هذا الحلّ الوسط، حين نجد أنّ حزباً سياسيّاً لا يتمتّع إلا بأغلبية 51% من مقاعد البرلمان يحكم على حزب الأقليّة، الذي يمثل 49% من أفراد المجتمع البالغين. والأمر لا يقف عند هذا الحدّ، لأنّ هذا الحلّ يحتوي على فراغ كبير جدّاً تنفذ منه أقليّة لتحكم على أغلبيّة السكان.    وهكذا نقف مرة أخرى أمام ظاهرة البحث عن أساس القانون ومصدره. والدين يستجيب لهذا التحدّي الخطير، الذي قد يدّمر سعادة البشريّة كلّها.. إنّه يقول: إنّ مصدر التشريع هو الله وحده، خالق الأرض والكون، فالذي أحكم قوانين الطبيعة هو وحده الذي يليق أن يضع دستور حضارة الإنسان ومعيشته. وليس هناك من أحد غيره سبحانه، يمكن تخويله هذا الحقّ.    إنّ هذا الجواب معقول وبسيط لدرجة أنّه يصرخ قائلاً- لو استطعنا أن نسمع نداءه -: هل هناك أحد غير الله سبحانه وتعالى يستطيع أن يسوّي هذه المشكلة المصريّة؟  لقد وصلت بنا هذه الإجابة إلى مكانها الحقيقيّ من التشريع والمشرّع، بعد أن استحال علينا المضيّ خطوة ما في ظلام الضلالة عن الهدى الحقيقيّ. إنّه لا يمكن قبول إنسان حاكماً ومشرّعاً للإنسان، ولا يستمتع بهذا الحقّ إلا خالق الإنسان، وحاكمه الطبيعي: الله. (وقد يعطي الله سبحانه هذا الحقّ لمن يشاء كالرسول الأعظم (ص) (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر/7)، نعم، ولكن الرسول الذي لا ينطق عن الهوى).

الهوامش:
[1] راجع: الإسلام يتحدّى، وحيد الدين خان، ص 159- 161، بتصرّف.

[2] Legal Theory . p .450.

المصدر: كتاب مواعظ شافية (سلسلة الدروس الثقافية/37)

ارسال التعليق

Top