• ٣٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القيم الأخلاقية ودورها في العلاقات الدولية

الشيخ مصباح اليزدي

القيم الأخلاقية ودورها في العلاقات الدولية

◄الذي نقصده بهذا العنوان هو الكيفية التي تكون عليها علاقة المجتمع الإسلامي بالمجتمعات غير الإسلامية. أمّا علاقة المجتمعات الإسلامية بعضها مع بعض فلا نجد ضرورة لبحثها هنا، باعتبار أنّ المجتمعات الإسلامية ككلّ تشكّل مجتمعاً واحداً إطاره العقيدة.

المهم هو معرفة طبيعة تعامل المسلمين مع غيرهم، ولهذا الموضوع أبعاد مختلفة، يمكن تشخيصها في ضوء الأمور السياسية والحقوقية في الإسلام.

فمثلاً: ما هي أقسام المجتمعات غير الإسلامية؟ وما هي الأحكام الفقهية والإسلامية في هذا المجال؟ إنّ الحقل الطبيعي لمثل هذه الأبحاث، هو حقل الحقوق في الإسلام.

ونقول هنا بصورة عامّة إنّ المجتمعات غير الإسلامية لا تخرج عن أحد قسمين: فهي إمّا مجتمعات تحترم حقوق المسلمين، أو مجتمعات لا تحترم حقوق المجتمع الإسلامي بل هي في صدد القضاء على النظام الإسلامي وربما الدين الإسلامي ككلّ.

فنطلق على مثل هذه المجتمعات اسم (المحاربين). أمّا المجتمعات التي ترعى حقوق المسلمين، فيمكن أن تتحدد العلاقة بينهم وبين المسلمين، طبقاً للمعايير الكلية في القيم الاجتماعية، كأصل (العدالة) أو أصل (الإحسان)، ويرجع في حالة التزاحم بين هذه الأصول إلى أصول (الأولوية).

 

أوّلاًـ العدالة:

من الطبيعي أن تتوقع أنّ المجتمعات التي تحترم حقوق المسلمين يقابلها المسلمون بالمثل، وذلك أصل عقلي، ومصداق من مصاديق العدالة التي رعاها الإسلام وأقرها في تشريعاته، ويجب على المسلمين أن يحترموا اتفاقاتهم مع غير المسلمين ماداموا يحترمونها. وحتى في حالة تجاوزهم على المسلمين، فيجب أن يكون رد المسلمين بالمقدار نفسه: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (النحل/ 126). ولا ينبغي تعدي ذلك (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة/ 190).

لابدّ إذن أن تراعى في حقّ هؤلاء القيم الاجتماعية كاحترام الدم والمال والعرض وغيرها. لكن قد يحدث أحياناً أن يهدر دم بعض الأشخاص داخل المجتمع الإسلامي نفسه، بل ربما وجب قتل مجرم ما، وقد يهدر عرض أو مال آخرين. لكن المهم أنّ الأصل في جميع ذلك هو إقامة العلاقات على أساس العدل وطبقاً للاحترام المتقابل بين المجتمعات.

 

ثانياًـ الإحسان:

هناك من المسائل ما تندرج تحت عنوان (الإحسان)، فكما أنّ المجتمع الإسلامي محكوم في داخله لبعض القيم الأخلاقية التي توجب على بعضهم أن يحسنوا إلى المساكين والفقراء والمحرومين، كذلك تطرح القيم نفسها بحدود معينة مع المجتمعات الأخرى.

فالمجتمعات التي تحترم حقوق المسلمين وترتبط معهم بمعاهدات معينة، تكون هي كذلك موضع احترام المسلمين ومحل عطفهم فمن المناسب جدّاً أن يجد هؤلاء المسلمين إلى جانبهم في حالة تعرّضهم إلى الكوارث والمصائب كالزلازل والسيول والمجاعات وغيرها. وهذا الأصل تجري مراعاته ضمن قاعدة (الأولوية) أي تقديم حاجة المجتمع الإسلامي على غيره، وتقديم المساعدات في حالة عدم التزاحم إلى المحتاجين من المسلمين ومن الكفار غير المحاربين.

إذن لا توجد أية مشكلة يمكن أن تواجهنا في علاقتنا مع تلك القيم من غير المسلمين الذين احترم الإسلام أرواحهم وأموالهم. لكن مع مراعاة أمرين مهمين في هذا المجال:

1 ـ المحافظة على سيادة المسلمين.

2 ـ المحافظة على سمعة المسلمين والمجتمع الإسلامي.

فلا ينبغي أن تقام علاقات المجتمع الإسلامي مع المجتمعات الأخرى بحيث يكون لغير المسلمين اليد العليا في هذه العلاقات، مما قد يخدش سيادة المسلمين واستقلالهم، ويجعل للكافرين عليهم سبيلاً، وهو ما يرفضه الإسلام بنص القرآن الكريم: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا) (النساء/ 141).

وليست مسألة قطع سبيل غير المسلمين على المسلمين بمسألة جزئية بل هي من الأمور الكبرى التي تندرج تحتها كلّ الأمور التي نعيشها في العصر الراهن، كالاستقلال الاقتصادي والاكتفاء الذاتي وما إلى ذلك.

إنّ الفترات التي شهدت اختلال هذه المعادلة هي فترات استثنائية، فربما خضع مجتمع إسلامي ما، نتيجة تكاسله أو غفلته لسيطرة غير المسلمين، وربما فقد استقلاله وسيادته، لكن ذلك أمر استثنائي لا يقرّه الإسلام ولا يريد للمسلمين أن يقرّ لهم قرار حتى يخلصوا أنفسهم ومجتمعهم من ذل سيطرة غير المسلمين ويستعيدوا سيادتهم واستقلالهم.

أما فيما يخص الأمر الثاني فقد يسيء المسلمون التصرّف، مما يفقدهم شيئاً من سمعتهم، وربما سمعة الإسلام نفسه.

وهذه من النقاط المركزية التي اعتاد المسلمون في أيامنا هذه إهمالها، وعدم حملها على محمل الجد. إنّ تصرّفات بعض المسلمين في تعاملهم مع غير المسلمين في أنحاء مختلفة من العالم من شأنها أن تسيء إلى الإسلام وتشوه سمعته.

إنّنا لا ندعو إلى تخلي المسلمين عن قيمهم التي يعتزون بها، ويوجبها الإسلام إرضاء لعرف غير مسلم وانسجاماً مع قيم اجتماعية باطلة، فقد يستنكر الغربيون حجاب المرأة ويستهجنون حشمتها ونوع لباسها، لكن ذلك لا يسوغ تساهلها في هذا الأمر بحجة مسايرة العُرف والانحراف معه وعدم استفزازه.

إنّ هذا الحديث بعيد عما نريد بحثه، بل المقصود هو حث المسلمين على عدم استفزاز غيرهم بدون ضرورة، بل بدون مسوغ، فقد يتنصل المسلم عن التزاماته مع غير المسلمين وينقض عهده معهم، بحجة أنّهم غير مسلمين.

 

- العلاقة مع غير المسلمين المحاربين:

المهم هنا هو علاقة المسلمين مع غير المسلمين المحاربين، ففي الوقت الذي لا يجد المرء أية صعوبة في تسويغ موقف الإسلام من غير المسلمين المحاربين الذين ينتهكون حقوق المسلمين، ويشنون الحرب عليهم، سواء من ناحية الرأي العام أو من ناحية القيم الأخلاقية الحاكمة في المجتمعات المختلفة، نجد صعوبة كبيرة في تسويغ ما يسمى بالجهاد الابتدائي في الإسلام، فذلك أمر غير مقبول في العُرف السائد حالياً، وقد أدى هذا الأمر بالكثير من علماء المسلمين في هذا العصر إلى توجيه حروب المسلمين في صدر الإسلام جميعاً وجهة دفاعية ليسهل تبريرها. لكن الحقيقة غير ذلك، وإنّ الأساس في هذا التفاوت، هو فلسفة القيم من وجهة نظر الإسلام ووجهة نظر الآخرين.

 

- الليبرالية والجهاد الابتدائي:

إنّ النظام الذي يسود العالم حالياً والذي يمكن أن يكون مقبولاً من قبل أكثر الشعوب، إنّما هو النظام الليبرالي الحرّ. ويسمى على مستوى الحكم (النظام الديمقراطي). إنّ بيان حقوق الإنسان وجميع الأمور التي يحترمها النظام العالمي والقيم التي تحكم العالم حالياً، إنما تستند إلى المبدأ القائل إنّ لكلّ إنسان ـ بصفته إنساناً ـ حقوقاً ثابتة لا تتغير.

فحرّية الأفراد وحرّية الجماعات وحرّية المجتمعات يجب أن تُحترم من قبل بعضها بعضاً وينبغي عدم التجافي، وهكذا يتم التعامل على المستوى السياسي في العلاقات الدولية، فعلى المجتمعات أن تحترم الحقوق، بعضها يحترم البعض وأن لا يتدخل الواحد في شؤون الآخر الداخلية. فغالباً ما تحتوي البيانات التي تصدر في ختام لقاء رؤساء الدول العبارة التالية: (على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية).

يستند هذا الأمر إلى قاعدة (حقوق الإنسان بما أنّه إنسان) بل اعترف بهذه الحقوق حتى أولئك الذين ينكرون الحقوق الطبيعية أو الفطرية على أساس أنّها حقوق موضوعة. فكلّ إنسان حر في ممارسة أعماله، ولا يحق لأحد التجاوز عليه مادام لم يتجاوز حقوق غيره.

بناءً على هذا لا يحق لأحد التدخل في شؤون المجتمعات الأخرى أو تحريض الشعوب على حكامها، حتى لو اختارت تلك الشعوب، والحكومات لنفسها نظام غير إسلامي وارتأت أن تعيش على أساس الشرك، وكذلك لا يحق لأي إنسان التدخل في حياة إنسان آخر، وبعبارة أخرى أنّ الإنسان الفرد والإنسان المجتمع، حر في ممارسة حياته الشخصية.

وقد جرى العمل على ذلك حتى صارت قاعدة عدم التدخل في الشؤون الداخلية شيئاً بديهياً في الأعراف الدولية، وبناء على هذا ظلت أية عملية تدخل في شؤون الآخرين تواجه الرفض والاستنكار من الجميع.

 

- نقد النظرية الليبرالية:

إنّ قضية كون الإنسان، والمجتمع حرّين في ممارسة الأعمال والتصرّفات التي يرتضيها في حياته، أصبحت من الأمور الشائعة، وهي غير مقبولة لدينا بصورتها المطلقة هذه. فقد أوضحنا أنّ الدليل إن اقتضى قيداً، فإنّنا سنقيد تلك الكليات، حتى إنّ الصدق الذي لا يناقش أحد في حسنه، لا يكون حسناً دائماً وفي كلّ الأحوال، بل قد يصبح أمراً مذموماً في بعض الأحيان. فنحن نرى أنّ القيم الأخلاقية ترجع كلّها إلى علاقة الإنسان بالله، لا بمعنى أنّ القيم أمور جعلية يجب أن يجعلها الله تعالى، بل هي ناشئة من الحكمة الإلهية وهدف الخلق.

يجب أن نبحث عن الهدف من خلق الانسان، وقلنا إنّ الهدف من خلق الإنسان إنّما هو التكامل الاختياري، والكمال ـ في نظر الإسلام ـ هو القُرب من الله تعالى والسعادة المعنوية الأبدية وترجع كلّ القيم الأخلاقية والحقوقية إلى هذا الأصل، وإذا ما أغمضنا النظر عنه، فسوف لن نستطيع اثبات أية قيمة أخلاقية بصورة قطعية وكلية.

واعتبار الحرّية على أنّها قيمة من القيم، أمر صحيح إلى حد ما، إذ لا يتحقق التكامل الحقيقي للإنسان إلّا باختياره، أّما الإجبار فلا ينتج تكاملاً ولا يؤدي إلى التكامل. لكن هذا يستلزم نفي حقّ أي انسان ـ مهما كان ـ في التدخل في حياة الإنسان الآخر. فأعطي حقّ التدخل لبعض أحياناً، لمنع أعمال يحاول الآخرون القيام بها. فمثلاً يجب منع الإنسان عن ارتكاب عملية الانتحار إذا ما حاول ذلك، ولا يعدّ تدخل شخص ما لمنع وقوع مثل هذا العمل شيئاً مخالفاً للأخلاق أو الحقوق، بل يعدّ تركه جريمة. وهكذا الأمر بالنسبة إلى المجتمعات.

إنّ قيمة أي مجتمع مرهونة بموافقة ذلك المجتمع في سيره مع الهدف من خلقه. ويُحترم من أموره وشؤونه ما كان واقعاً في سيره التكاملي هذا. أما ما كان يعود بالضرر على ذلك المجتمع وعلى المجتمعات الأخرى، فليس هناك قاعدة كلية لدينا تمنع من التدخل.

ومن الجدير بالذكر أنّ هذا التدخل لا يعد نفياً لحرّية الآخرين واختيارهم، بل إنّما وقع لتهيئة أرضية الاختيار الصحيح وتكريسه.

إنّ أهم تدخل هو التدخل الفكري والإرشاد والتوجيه. فالمجتمع الإسلامي مسؤول عن إرشاد المجتمع الذي يتخذ الفكر المنحرف منهجاً له إذ يجب عرض الإسلام عليه وبذل الجهد لإقناعه بدين الحقّ، وإذا ما أصر ذلك المجتمع ـ بسوء اختياره ـ على ضلالته وامتنع حتى عن سماع دعوة الإسلام، فهذا مجتمع لا يُقيم له الإسلام وزناً.

إنّنا نرى قيمة الإنسان بما يحقق من خطوات على طريق تكامله. فالقرآن ينظر إلى بعض الناس هكذا: (أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) (الأعراف/ 179). ويقول: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (الأنفال/ 55).

فلا يُقيم الإسلام نظامه الأخلاقي على أساس إنسانية الإنسان فحسب، بمعنى أنّ الإنسان لا يكتسب قيمته لمجرد كونه إنساناً. فلا قيمة للإنسان إذا كان مجرداً من الفكر والأيدلوجية. إنّ ملاك قيمة الإنسان في الإسلام، هو الإسلام والإيمان بالله. وإذا ما افتقد الإنسان هذين العنصرين، فإنّما تُحترم حقوقه وتُراعى مصالحه، على أمل أن يهتدي إلى الإسلام. وإذا ما أيقنا أنّ هذا المجتمع سوف لن يهتدي إلى الطريق المستقيم، وسيبقى دائماً عدواً للإسلام، فالمسلمون لا يرون لمثل هذا المجتمع أية قيمة، كما إنّ الله تعالى لا يرى له قيمة، فيرسل عليه العذاب ويمحقه محقاً. وهذا هو المجتمع الذي يحث الله المسلمين على محاربته: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ) (التوبة/ 14).

الحقيقة إنّ النظام الأخلاقي في الإسلام مبني على أُسس، هي غير الأُسس التي بنى عليها المجتمع البشري الحديث نظامه الأخلاقي.

إنّ قيمة الإنسان الأساسية هي بمقدار عبوديته لخالقه، وخطواته على طريق هذه العبودية. أي على طريق سيره التكاملي الحقيقي. وإذا أعطى أحياناً قيمة لغير المسلمين، فعلى أمل أن يهتدوا ويبلغوا سُبل الرشاد. إذ يتحتم على الإنسان ـ باعتباره عبداً لله ـ أن يطيع الله ويحقق هدف الله التشريعي. ومن وظائف المجتمع الإسلامي هداية المجتمعات الأخرى إلى الحقّ، وإذا وقفت بعض القوى بوجه هذه الهداية، فيجب إزالتها عن طريق تكامل الإنسانية. وإن أصرت وعتت في عنادها، فيجب شن الحرب عليها. فالجهاد الابتدائي حقّ، وقد وقع في صدر الإسلام، فليس صحيحاً ـ بناء على هذا ـ أن يسعى بعضهم لإعطاء الحروب الإسلامية جميعاً بُعداً دفاعياً، انسجاماً مع العُرف الدولي الحاكم حالياً، إلّا إذا كان هؤلاء يحاولون التحدّث بلغة الآخر من أجل أن يفهم الآخر، نحن أثبتنا بالبراهين المنطقية أنّ القيم ـ سواء الأخلاقية أو الحقوقية ـ مبنية على أساس (الحكمة والهدف من الخلق) وبدون هذا الأساس لا نستطيع إثبات حقّ أو قيمة واقعية. وعلى أساس هذا البرهان أيضاً ثبتت القيم والحقوق في مواقعها. ونحن لا يمكننا ـ بغض النظر عن مسألة الحكمة الإلهية والهدف من الخلق ـ إثبات أية قيمة أخلاقية أو اجتماعية على أنّها أحد الأمور البرهانية القطعية، بل هي قضايا مشهورة يستفاد منها في الجدل أحياناً.

إنّ من حقّ المجتمع الإسلامي، بل من واجبه أن يسعى لتقريب الناس جميعاً من هدف خلقهم ـ أي العبودية لله تعالى ـ فليست المسألة سيطرة مجتمع على مجتمع آخر أو توسيع دولة ما جغرافياً على حساب دول أخرى. فهذه أمور غير مقصودة أصلاً، إنّما الهدف هو تعبيد الآخرين لله تعالى وإبلاغهم الحقّ وحملهم عليه. والذي يقف بوجه هذا العمل عادة، هم حُكّام المجتمع، وهم أفراد معدودون يكوّنون السلطة الحاكمة في ذلك المجتمع، سواء كانت سلطة رسمية أو غير رسمية ـ أي تحكم من خلف الستار ـ فهؤلاء مهما كانوا، إنّما هم أفراد معدودون يقفون سداً منيعاً لكي لا يسمع الناس نداء الإسلام. لابدّ إذن من إزالة هذا الحاجز وفتح الطريق أمام دعوة الإسلام، لتأخذ طريقها إلى قلوب الناس وعقولهم.

نحن إذن نختلف مع النظام والعُرف الدولي السائد حالياً (أي الأخلاق المقطوعة عن الدين والأخلاق المقطوعة عن الله) اختلافاً أساسياً. نحن نقدم الأخلاق من خلال ارتباطها بالدين، وفي ظل الدين وفي ظل الاعتقاد بالله. ونرى في تعزيز الأخلاق ونصرة القيم الأخلاقية تحقيقاً لهدف الخلق. وبناء على هذا سيكون الجهاد الابتدائي مبرراً جدّاً رغم عدم قدرة النظام الفكري الحاكم حالياً على هضمه وتوجيهه. نحن غير ملزمين باحترام أصول الأنظمة الفكرية كافة.

نحن نمتلك نظاماً أخلاقياً خاصّاً ينسجم تماماً مع نظرة الإسلام إلى الحياة ويلتئم مع الأيديولوجية الإسلامية، تمام الالتئام، فلا تضاد ولا تناقض.

 

- الأصول الأخلاقية في الجهاد:

في الوقت الذي أباح الإسلام للمسلمين محاربة غيرهم، فتح باباً لنوع معين من الأخلاق:

- أوّلاً: إنّ هذه الحرب لم تُشرّع ـ كما أوضحنا سابقاً ـ لأجل استعمار الآخرين واستخدامهم، بل شُرّعت لهداية الناس وتوعيتهم وتمهيد الطريق أمامهم لبلوغ الكمال. وفي ضوء هذا الهدف تتحدد طريقة تعامل المسلمين مع المحاربين في المراحل المختلفة. فقبل الحرب يجب إبلاغهم دعوة الإسلام، وما لم تبلغ الدعوة أسماعهم لا يسع أحد محاربتهم.

وفي إحدى الروايات التي ينقلها الشيعة والسنة بصورة مستفيضة، يقول النبيّ (ص) للإمام عليّ (ع) وهو في طريقه إلى إحدى المعارك: "لئن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت..".

- ثانياً: وحين يلتقي الفريقان، كان يدعو الإسلام إلى نوع من القيم الأخلاقية الدقيقة. منها مثلاً: احترام المقدسات، سواء كانت هذه المقدسات موضع احترام غير المسلمين أو غير المسلمين والمسلمين، كاحترام مكّة والمسجد الحرام، حيث إنّ غير المسلمين يشاركون المسلمين إلى حدٍّ ما في بعض هذا الاحترام. ثم يمنع الإسلام الحرب في زمان محدد فلا حرب في الأشهر الحُرم وفي مكان محدد، فلا حرب في أطراف المسجد الحرام، إلّا إذا وقع عدوان على المسلمين، فعليهم أن يهبوا للدفاع عن أنفسهم، ولا ينبغي أن يكون احتراماً لزمان أو لمكان سبباً في هزيمتهم واندحارهم. كذلك يجب احترام الكنائس، وأماكن العبادة التي أقامها المسيحيون أو اليهود لعبادة الله.

وليس لأحد أن يتعرّض لشيخ أو طفل أو أي شخص محايد لم يشارك في الحرب.

فهذه الأصول وغيرها، أوجب الإسلام الالتزام بها، حتى مع أشدّ أعداء الإسلام، ولم يتسامح في تطبيقها، إلّا إذا بادر العدو إلى خرقها.

لقد أراد الإسلام للحرب أن تكون حرباً شجاعة شريفة واضحة فلا استغفال للعدو ولا مباغتة له، إذ لا حرب قبل الإعلان وإذا ما وقعت الحرب فلا مجال لعمليات الإبادة أو الحرق، حتى إحراق منازل العدو ومزارعه التي تمده بالغذاء والمال، إلّا إذا لجأ العدو إلى ذلك. فالحرب تحسم في ميدان القتال، وبالأسلحة المتعارفة في ذلك العصر.

وما بعد الحرب يأتي دور الأسرى الذين وضع الإسلام أُصولاً للتعامل معهم، أوضحتها الروايات، وتحدثت عنها كُتُب الفقه بإسهاب.

والحرب ليست هدفاً في الإسلام، حتى الحرب الدفاعية ـ كالحرب مع البغاة، فهي محدودة بحدود رفع الظلم ودفع التجاوز على النظام وفرض الأمن الاسلامي: (حتى تفيء إلى أمر الله) ـ أو هي جهاد ابتدائي، وهو لم يشرع لأنّه مطلوب لذاته ـ أي إنّ الحرب ليست هي الهدف ـ بل الهدف هو هداية هؤلاء إلى عبادة الله وإلى الإسلام. فالحرب في الواقع مع مَن يقف في وجه الدعوة الإسلامية، ولا يدعها تأخذ طريقها إلى أسماع الناس وقلوبهم. فالأصل إذن هو تعبيد الناس لله ودخولهم في الدين كافة حتى يعيش الجميع بأمن وسلام.

 

- الصلح أو الحرب:

ويُطرح ـ هنا ـ السؤال التالي: هل يمكننا القول ـ بناء على ما تقدم ـ إنّ الصلح في الإسلام هو الأصل والحرب أمر عرضي استثنائي؟ فحيثما وجدت فرصة لإحلال السلام لابدّ من الركون إليه وترك الحرب؟

(الصلح خير) ورغم إنّ عبارة (الصلح خير) وردت في القرآن في مورد اختلاف الزوجين، لكنّنا يمكن أن نستفيد من إطلاقها، لأنّ المورد لا يُقيّد ولا يخصص.

مما لا شك فيه أنّ الصلح خير، غير إن ّهذا لا يعني أنّنا نلجأ إلى الصلح مهما كان، وبأي شكل أُريد له. فكثيراً ما يستخدم العدو شعار السلام ـ كخدعة ـ وينادي به ليوفر الفرصة أمامه من أجل تجميع قواه والتقاط أنفاسه، ليعاود حربه على المسلمين من موقع أقوى. أما إذا كان الجنوح للسلم جنوحاً حقيقياً، وعلى أساس مقبول، فلا مجال لرفضه في نظر الإسلام: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) (الأنفال/ 61). ولا تترك مثل هذه الفرصة حتى في الجهاد الابتدائي، فإن أبدى العدو رغبة في ترك الحرب ومال إلى عقد معاهدة سلام مع المسلمين فلا مسوغ لترك فرصة السلام والإصرار على الحرب، إذا كان من شأن اتفاق السلام أن يفتح طريق الدعوة ويفسح المجال أمام دين الله ليبلغ الناس ويدخلوا فيه، ولو بصورة تدريجية. فالقتال لم يلجأ إليه، إلّا من أجل تعبيد الناس لله ودخولهم في طاعته، والإصرار عليه ـ مع زوال العقبة أمام التبليغ وانتفاء الموانع التي تمنع المسلمين من ممارسة نشاطهم التبليغي ـ أمر يرفضه الإسلام.

ولو اقتضت شروط مرحلية معينة قبول المسلمين الصلح لتجديد قواهم، فعليهم أن لا يفوّتوا فرصة السلام، وإن لم يحققوا أهدافهم بصورة تامة.

هذا إذا كان اللجوء إلى الصلح لجوءاً حقيقياً جاداً، أما إذا حاول العدو المخادعة واستغفال المسلمين بطرح شعار السلام فلا مسوغ لإجابته إلى طلبه وتمكينه من تحقيق هدفه في استغفال المسلمين: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) (الأنفال/ 62).

من جانب آخر يميل الناس دائماً إلى الدعة والاستقرار ويكرهون القتال، ولا يعترفون به إلّا حالة اضطرارية واستثنائية، لذا فهم ميالون لنداء العدو إلى الصلح، عند أوّل بادرة تصدر منه، ليعودوا إلى منازلهم وحياتهم الاعتيادية الطبيعية والمستقرة. ومهما بلغت التربية الإسلامية من القوّة والتمكّن من نفوس الناس فهي قاصرة عن انتزاع مثل هذه الحالة من نفوس الناس جميعاً، وهذا ما يجعل العدو يعقد الآمال على مشاريع الصلح ويحاول استغلالها لتحقيق مآربه التي أخفقت الحرب في تحقيقها.

لقد التفت القرآن الكريم إلى هذا النقطة، وحث المجاهدين على مواصلة الحرب حتى يتم لهم النصر: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 139).► 

ارسال التعليق

Top