• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

غرائب في عالم الحشرات

أ.د. دولار محمد صابر

غرائب في عالم الحشرات

قد يستغرب الكثيرون عند قراءة قوله تعالى: (إنّ اللهَ لا يَستَحِي أن يَضرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوقَها) (البقرة/ 26)، ويخطر ببالهم السؤال الآتي: بِمَ يتحدّى الله الناس في هذه الحشرة الصغيرة؟ هل يتحدّاهم في صِغرِ حجمها؟ أتستحق هذه الحشرة أن تكون موضع التحدِّي؟! أسئلة كثيرة تَرِد على الأذهان.
أنا لا ألوم مَن يسأل عنها أو يُفكِّر فيها إطلاقاً.. ليقرأ السائل ويطّلع على الكلام الآتي عن حشرة تلي البعوضة في حجمها، ثمّ يتساءل إن كانت البعوضة تستحق أن تكون مثلاً لهذا التحدِّي، أم لا؟
ذكرت مجلة العلوم الأمريكية (Scientific American) في المجلد السادس في عددها الثالث الصادر سنة (1989) موضوعاً بعنوان (الحُبُّ عند الذُّباب) هذا نصّه:
الحُبُّ عند الذباب (Love on the Fly):
أغاني الغزل عند ذباب الفاكهة في هاواي:
"مشهورٌ عن الضفدع و(الجُدْجُدْ)، بل حتى حشرة (الزيز) أنّها تُغني. ويبدو الآن أنّ ذباب الفاكهة أيضاً يعزف ألحاناً رومانسية؛ فعندما يلتقي الذَّكرُ الأنثى يستجيب لها بأغنية غزلية، وهذا بحد ذاته ليس غريباً، إلا أنّ ما يُميِّز ذباب الفاكهة عن غيره من الحيوانات هو تنوّع معزوفاته".
لقد نشر هذا الإكتشاف في مجلة (Science) من قبل (ر. ر. هوي) من جامعة (كورنل)، و(أ. هويكالا) من جامعة (أولو) في فنلندا، و(ك. كانيشيرو) من جامعة هاواي.
سبحان القائل (يا أيُّها النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إنّ الذينَ تَدعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخلُقُوا ذُباباً ولَوِ اجتَمَعُوا لَهُ) (الحج/ 73).
فأمرُ خلقِ الذبابة محالٌ، فتعال معي لترى العجب: فالعجب من صغر حجمها، وما امتازت به من صفات وخصائص تُحيِّر أدمغة العلماء، فما ذكرناه غيضٌ من فيض، وسنأتي على تفصيل تلك الإشارات أو الألحان التي ترسلها الذبابة، لتسأل نفسك: مَن خلق هذه الحشرات – التي لا حصر لها – ؟ ومتى خلقها؟ وكيف؟ وهل بمقدور عالم من العلماء أن يدَّعي خلق الذبابة أو تركيب شريط عليها لتعزف ألحاناً (رومانسية)، وتغنِّي أغانٍ غزلية إغرائية عندما تلتقي بالجنس الآخر؟!
ومَن غرس فيها تلك الحاسة التي تنشئ هذه الأصوات المتنوّعة؟ وما حجم تلك الخلايا والأجزاء التي سجّلت عليها تلك الألحان والأغاني، إذا كان حجم الذبابة على هذا القدر؟! فسبحانك يا خالقي أسلمتُ وجهي إليك فاعف عنِّي.
فالآن تأمّل ماذا سجَّل العلماء من ألحان وأغانٍ لهذه الحشرة:
لقد قام هؤلاء الباحثون بتسجيل أغانٍ لثلاثة أنواع من ذباب الفاكهة (دروسوفيلا) وحللوها على (راسم الإهتزاز)، ووجدوا أنّه يمكن تمييز أربعة نماذج صوتية متباينة: سلسلة طقطقات كالتي يصدرها الجُدجُد، وسلسلة بسيطة من النبضات، وأغانٍ من الأنغام البسيطة. إضافة إلى ذلك، فإنّه يلاحَظ اختلاف كبير في طريقة إصدار هذه الأصوات. فسلسلة الطقطقات التي يُصدِرُها ذَكَرُ (د. فاسيكوليسيتي) تتألّف من تفجّرات قصيرة متكررة من النبضات عالية التوترات (6 كيلوهيرتز في المتوسط) تطلقها اهتزازات عند قاعدة الجناح. وقد تمّ تسجيل أنماط مشابهة عالية التواتر من الزيز و(الكاتيديات) لم يُعرَفُ مثيل لها عند الذباب.
لقد منح الله تعالى عباده الفعل العقلي؛ فعرفوا بواسطته خفايا الكون، وابتكر العلماء والباحثون مختلف الأجهزة العلمية التي استطاعوا بها كشف ذلك، فمنها: كشفهم لأربعة نماذج صوتية مختلفة: سلسلة طقطقات، وسلسلة معقدة من النبضات، وسلسلة بسيطة من النبضات، والأغاني من الأنغام البسيطة، ولكلٍّ من هذه الأصوات تردداتها الخاصة.
سبحان الله، كأن ما ركَّب في ذباب الفاكهة إذاعةٌ ذات ترددات مختلفة، ويأتي العلم الحديث ليكشفها، فهل لهذه الحشرة فعلاً محطة إذاعية؟ نعود لنعرف مِمَّ تتألّف تلك النبضات المعقدة؟
تتألّف سلسلة النبضات المعقدة التي سجلت من (د. سيرتولوما) من 2 إلى 7 نبضات دورية، تليها (زغردة) طويلة. وهي أصوات توقيعية معقدة يُصدِرُها الذَّكر عندما يحرك أجنحته في دورية ثنائية. أمّا سلسلة النبضات البسيطة وأغاني الأنغام البسيطة فَيُصدِرُها كلّها ذَكَرُ (د. سيلفيستريس). فسلسلة النبضات البسيطة تشبه مُواء القط، وتتألّف من سلسلة من النبضات الصوتية بشكل دوري. تَنتُجُ من اهتزاز البطن. في حين أنّ أغاني الأنغام البسيطة ينتجها الإهتزاز السريع للجناح أثناء وقوف الذَّكر واضعاً رأسه تحت جناح الأنثى.
أجيبيني أيّتها الذبابة مَن عَلَّمَكِ هذه الألحان الرومانسية؟ هل سمعتِ الضفدع والجدجد وحشرة الزيز فَغَنَّيتِ على غرارهنّ؟ أم أنّ الخالق جَعَلَكِ موضع التحدي للناس؟ فلسان حال هذه الحق وغيره ممّا تكتشفه الأبحاث العلمية تدهش العلماء قبل غيرهم، وتضع مَن ينكر وجود الله أمام سؤال طال عهد الإنسان بالوصول إلى كنهه، وهو: ألا تدل هذه الأبحاث على وجود خالق؟
لسان حال هذه الحشرات يقول لنا: هذه التسبيحات التي تسمعونها من الذبابة هي من عند الله، وهو قادرٌ على جعلها في الضفدع والجدجد وحشرة الزيز، وأن يخلق أنواعاً مختلفة منها في ذباب الفاكهة هذه مع ضآلة حجمها، وهذا منتهى التحدي للبشرية.
تعالوا معنا لنعرف: كيف تنتج هذه الذبابة تلك النبضات التي تشبه مُواء القط؟
فهي لا تعزف ألحانها بآلات مصنوعة، بل تعزف هذه الألحان، وتصدر هذه الأصوات من اهتزاز بطنها. فهل في مقدور عالمٍ مطَّلع حتى على جميع علوم الدنيا أن يفعل ذلك ببطن حشرة واحدة لتصدر سلسلة من تلك النبضات الصوتية؟
في حين تنتج أغاني النغمات البسيطة من الإهتزاز السريع للجناح أثناء وقوف الذَّكَرِ واضعاً رأسه -تحت جناح الأنثى..
وأزيد علماً – أيُّها القارئ الكريم – بأنّ هذه الأصوات لا يسمعها أحد، بل إنّ أحدث الأجهزة التي تقيس الترددات قد كشفت عن وجودها، إنّ الإكتشافات السابقة لم تأتِ تلقائياً أو عن طريق الصدفة، بل جاءت نتيجة عمل كثيف وتجارب متعددة لعلماء مبرزين في هذا المجال، وكالآتي:
اكتشف (هُوي) وزملاؤه هذه المجموعات الصوتية الأربع من خلال دراسة 20 نوعاً فقط، تنتمي كلّها إلى مجموعة من ذباب الفاكهة تُسمّى (الدروسوفيلات مُصَوَّرَة الجناح)، التي يوجد منها في هاواي 106 أنواع. والإنتشار الكبير لهذه الأنواع من الذباب في هاواي لافت النظر، إذ أنّه لا يوجد مثل هذا التنوّع لذباب الفاكهة في أي مكان آخر كما هو موجود في هذا الأرخبيل من الجزر، الذي يستضيف عدداً كبيراً منها يصل إلى 500 نوع (يوجد في العالم كله 1000 – 2000 نوع فقط).
فكيف يمكن تفسير هذا التنوّع غير العادي؟
لقد تشكّل أرخبيل هاواي نتيجة نشاط بركاني منذ حوالي 5 – 6 آلاف سنة. ومنذ ذلك الحين، لم يستطع اختراق الألفي ميل من المحيط التي تفصل الجزر عن أمريكا الشمالية (وهي أقرب برَّ لتلك الجزر) إلا القليل من الحيوانات، إلا أنّ تلك الحيوانات التي استطاعت تحمّل عناء الرحلة (ومعظمها أشكال مجنّحة)، وُجدت منتشرة في عدد لا يحصى من المواطن البيئية الخالية، حيث تنوّعت وتطوّرت لتُشكِّل أنواعاً متميزةً تصنيفياً، حتى أنّه لَيُعتقَدُ أنّ الأنواع الخمسمئة من ذباب الفاكهة الموجودة في أرخبيل هاواي قد نتجت من أنثى واحدة أو أنثيين.
ألا يدلّ وجود هذا التنوّع من ذباب الفاكهة في العالم على وجود إله عليم قدير؟
ولنفرض – أخي القارئ – أنّ الرسول (ص) قد تحدّث عن هذه الأصوات وأخبرنا بأمر وجودها، ولم نسمع أصواتها، فهل كُنّا نُصدِّقه حقّاً؟ لاسيما إذا قيل هذا قبل مائتي عام. إذاً فلنسلم وجوهنا لله العلي الحكيم دون نقاش أو جدال.
انظروا إلى ما قدّمته هذه الذبابة الصغيرة إلى الإنسان من خدمات جليلة وبالذات لعلماء الوراثة، لأنّها سهلة التربية كبقية أنواع الذباب، ولأنّ كروموسوماتها الثمانية كبيرة تسهل رؤيتها، فظلت هذه الذبابة ضيفة كريمة في مختبرات علماء الوراثة، تخدم العلماء كي يدرسوا عليها، ويستفيدوا منها في أبحاثهم، فقيمة الحشرة في نفعها، لا في صغر حجمها، ولهذا ضرب بها المثل.
لابأس فيما ذكرناه، لكنّ العجب في وجود الإنجذاب بين ذَكَر الحشرة وأُنثاها. فهذه الحشرة الصغيرة كيف تعرف أن تميل وتنطق وتلحن؟ سبحان القائل (ومِن كُلِّ شَيءٍ َخلَقنا زَوجَينِ لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ) (الذاريات/ 49).
إذن تمتلك الحشرة توافقاً له سمات خاصة تقارب ما يكون بين الزوجين الإنسانيين من مودّة ورحمة، وما بين الذَّكر والأنثى من إعجاب.. إضافة إلى ما ذكرنا لها من صفات.. وفي هذا تحدٍّ كبير، تصوروا أنّ الله جعل الميل الجنسي في ذباب الفاكهة كما جعله في جميع المخلوقات التي تعيش في كوكبنا هذا من البشر وغيرهم، وقد تظهر صفات أخرى في هذه الحشرة وأمثالها تفوق الحصر، ولا تنتهي عجائبها إلى يوم القيامة مع تقدّم العلم.
إذاً مَن صنع هذا؟ ومَن أراد ذلك؟ فعظمة الخالق تكمن في هذا التنوّع، فلهذه الحشرة قرابة (2000) نوع، قارن بين هذا التنوّع وبين ما تقوم به شركة السيارات، إذ تجمّع خبراء كثيرين لإنتاج تصميم (موديل) جديد، وتقدم الشركة إغراءات مادية كبيرة لمن يقدم النموذج الأمثل للسيارة الجديدة، أفلا يدخل خلق ألفي صنف من هذه الحشرة على الخالق العظيم؟ وهل يوزن ذلك بما يقوم به الإنسان؟.


المصدر: كتاب قبسات علمية من القرآن والسنّة

ارسال التعليق

Top