• ٢٣ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الفساد الاقتصادي.. الضوابط والموانع

د. إحسان الأمين

الفساد الاقتصادي.. الضوابط والموانع

مع كلِّ التوجيه الروحي والتربية الأخلاقية التي يُوفِّرها الإسلام للناس حتى يكون تعاملهم مع الملكية والمال تعاملاً متنامياً، ومع كلِّ المبادئ التي يطرحها لتنظيم الاقتصاد وعدالة توزيع الثروة.. مع كلِّ ذلك فإنّ الناس ليسوا جميعاً بمنزّهين، بل يوجد دائماً أُناس لسبب تربوي وآخر، يحاولون استغلال الفرص وسهو المجتمع أو غفلة القانون فيمدّون أيديهم إلى المال العام لنهبه وسلب الناس حقوقهم بأنواع من الفساد المالي، فكان لابدّ من وجود روادع وموانع تحول بينهم وبين ذلك وتلاحقهم لاسترجاع الأموال المغصوبة، ولم يغفل الإسلام هذا الجانب، فكان له خطوات عملية على هذا الصعيد، منها:

أوّلاً: تقنين الأحكام المتعلِّقة بالمعاملات، وتحديد مساحة الحلال والحرام فيها. وملاك الأحكام ومقتضاها هو: وجوب ما لابدّ منه، وتحريم ما فيه فساد، وكراهة ما لا ينبغي، واستحباب ما فيه مصلحة راجحة.

ونجد في طليعة قائمة المحرّمات الاقتصادية، عناوين أُمّهات المفاسد فيها والتغليظ على فاعليها ومنها:

-         حرمة أكل أموال الناس بالباطل، بكافّة أنواعه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) (النساء/ 29).

-         ومن ذلك الرشوة، قال تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 188).

وقد سمّى القرآن الرشوة والمال الحرام سُحتاً في عدّة موارد من القرآن، منها قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة/ 41-42).

والسُّحت: المحظور الذي يلزم صاحبه العار كأنّه يسحت – يقشر – دينه ومروءته، وقد روي عن النبيّ (ص) أنّه قال: "كلّ لحم نبت من سُحْتٍ فالنار أولى به"[1].

-         حرمة السرقة، وقد شدّد الإسلام العقوبة عليها، لغرض الصدّ والرَّدع عنها، قال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة/ 38-39).

ويُقام حدّ السرقة بشروط معيّنة مذكورة في كتب الفقه، ومنها أن تكون السرقة من حِرزٍ مصون، خُفيةً، من غير حاجةٍ ولا شبهةٍ.. وغير ذلك من الشروط، وقال المُفسِّرون بأنّ الإصلاح هنا: إرجاع الأموال المسروقة إلى أصحابها.

-         الرِّبا، وهو مصدر لزيادة الثروة بالباطل من غير عمل، على حساب آخرين يزدادون فقراً وحاجة، وقد شدّد الله تعالى على حرمته وغلّظ القول على آكليه، ووصفهم بأنكر الصفات، بل هدّدهم بحرب من الله ورسوله، ليعلم بذلك سوء فعله وأثره.

قال تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (البقرة/ 275-276).

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 278-280).

-         الفاحشة والزِّنا، وهما من مظاهر الفساد المستشرية في معظم دول العالم، حيث تعمل في هذا المجال عصابات ونوادٍ وشبكات دولية ومحلية، ويسمّى ذلك بـ"تجارة الرقيق الأبيض"، وهناك دول مُصدِّرة وأخرى مستوردة، وبعضها ذات "إنتاج وطني" ومكتفية ذاتياً، وتذهب ضحية هذا العمل الشنيع سنوياً مئات الآلاف من الفتيات المغرّر بهنّ، واللاتي يخدعن بحجّة العثور على عمل وظيفي أو خدمي لهنّ ثمّ يجبرن على الزِّنا تحت شرائط مُذلّة وقسريّة صعبة.. وشدّد الإسلام على حرمة الزِّنا وهو أحد الآثام الكبائر.

قال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا) (الإسراء/ 32).

وقال تعالى: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور/ 33).

وقال المُفسِّرون: قوله تعلى: (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) ليس للقيد والشرط، وإنّما هو لبيان فظاعة الأمر ومنتهى بشاعته، بإكراههنّ على الزِّنا وهنّ يردن التعفُّف عنه..[2] وإرادة التعفُّف مستحصلة عند سائر النساء بفطرتهنّ، فلا تستسيغ الرذيلة إمرأة، إلّا عن إكراه وإجبار.

-         القمار، وهو من وسائل الكسب غير المشروع، والذي يأتي من دون عمل ولا نفع للمجتمع، ويكون وسيلة لسلب ونهب أموال الناس بالباطل، ليذهب إلى جيوب المقامرين الماكرين وأصحاب النوادي المتكسبين بالحرام، وغالباً ما يجتمع القمار مع محرمات أخرى كالخمر وغيرها من المواد المُخدّرة، وكذلك الفاحشة والزِّنا.

قال تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة/ 90-91).

وتدلُّ الإحصائيات على أنّ حوالي 44% من حوادث المرور[3] سببها تناول الخمر، وبنسبة مقاربة كان الكحول السبب في حوادث القتل العائلي وجرائم الاغتصاب وحوادث الانتحار، وكذلك القمار فإنّه يُخرِّب البيوت ويُؤدِّي إلى العداوة بين المتقامرين الذين قد يقتل بعضهم البعض بسبب الخسارة.

وتقف وراء محلات القمار والنوادي الليلية شبكات فساد، حيث تستغلُّها لتهريب الأموال، أو ما يُسمّى بغسيل الأموال وتبييضها، وكذلك لاستدراج واستغفال كبار الموظفين وتقديم الخدمات القذرة لهم لترتيب الصفقات المالية الفاسدة.

ثانياً: النهي عن التصرُّف السيِّئ، كالإسراف والتبذير وصرف الأموال بغير وجه حقّ، والتغليظ عليهم حتى أنّه وَصَفَ المترفين بالمجرمين[4]، بقوله تعالى: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود/ 116).

وكذلك ذمّ المُبذِّرين ووصفهم بأنّهم إخوان الشياطين، فقال تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء/ 27).

وحجب الله تعالى حُبّه عن المُسرفين، فقال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31).

وفي مقابل ذمّ التصرُّف الطائش بالأموال، ذمّ البخل والشُحّ واكتناز الذهب والفضّة وعدم إنفاقها، لأنّه يؤدِّي إلى تعطيل الثروة عن دورها في التنمية وخير المجتمع، فضلاً عن خير مالكها نفسه، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة/ 34-35).

ودعا الله تعالى إلى الاعتدال في الإنفاق كحد وسط يتنعّم الإنسان بما مَنَّ الله عليه وينفق ممّا يزيد عن حاجته في سبيل الله ونفع المجتمع، بلا تبذير ولا تقتير، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67).

 

ثالثاً: تحديد شرائط الصلاحيات المالية:

عمد الإسلام إلى الوقاية من الحادثة قبل وقوعها من خلال اشتراط مواصفات معيّنة لمن يعطى المال وسلب صلاحية الإنفاق ممّن لا تتوفّر فيه بعض الشروط.

فقد اشترط الإسلام بلوغ الرُّشد، بعد البلوغ الجسمي، للولد اليتيم حتى يُسلَّمَ له المال ليتصرّف به وفق إرادته، ويُراد بالرُّشد: حُسن التصرُّف بالمال، وذلك يتم بالتصرُّف فيه على نحو متعقل، قال تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (النساء/ 6).

وفي الآية دلالة على أهمية التزام ذلك في سائر الأولاد، بل سائر مَن يؤتمنون على المال، ولذلك نهى القرآن عن إعطاء السُّفهاء الأموال، وهم ضعفاء العقول، ممّن لا يحسنون التصرُّف، فإنّ بهذه الأموال قوام الملّة وسعادة الأُمّة، فلا يجوز إعطاؤها لمن لا يعرف قدرها ولا ينفقها في محلّها، ليبذرها ويستهلكها في توافه الأُمور، ولذلك أجيز شرعاً الحجر على السفيه، وهو مَن يُبذِّر ماله فيما لا ينبغي، وحجز أمواله والإنفاق عليه منها بالمعروف، قال تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا) (النساء/ 5).

فإذا كان هذا حال الناس العاديين، فهل يجوز أن يولّى السفيه ولاية المسلمين أو تسلّم له أموالهم، لينفقها في لذّاته وأنسه وطربه؟ هيهات ذلك، فإذا كان السفيه لا يؤتمن على ماله الشخصي، فكيف يؤتمن على أموال الأُمّة؟

وقد قال الإمام علي بن أبي طالب (ع): "إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بِضَعفة الناس، كيلا يتبيّغ – يهيج ويطغى – بالفقير فقره"[5].

 

رابعاً: المحاسبة والمساءلة:

وهو باب مفتوح على المتموّلين، سواء كانت أموالهم خاصّة، أو أموال الناس والدولة، فالحساب أشدّ، وقد مرّت علينا الآية الكريمة، في قوله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) (النساء/ 5)، وذكرنا هناك أنّ السفيه، وبموجب هذه الآية، تحجر أمواله إذا لم يحسن التصرُّف فيها وكان يُبذِّرها فيما لا ينبغي، فكان من حقِّ الحاكم أن يحجز أمواله وينفق عليه بالمعروف، ويمنعه من أن يصرف هذه الأموال في أُمور لا تستحق ذلك، وهي أمواله الخاصّة، والآية المباركة تُعبِّر عنها بلفظ: أموالكم، إشعاراً بأنّ الأموال الخاصّة للأفراد، تعود بالنتيجة لجميع الناس، وينبغي أن تستثمر بما فيه صلاح المجتمع ونموه و"قيامه".. وبالتالي فَمَن أساء التصرُّف: حوسب وسُلِبَ منه حقِّ التصرُّف، فحجر وحجزت أمواله.

هذا في الأموال الخاصّة، فكيف بالأموال العامّة التي تعود إلى الناس جميعاً، وأموال الدولة وأموال الوقف والصدقات والمساجد... إلخ، فبلا شك يجب أن تكون عليها رقابة ومحاسبة، ليعلم فيمَ تنفق وكيف، وهل تصرف بصلاح المجتمع، وبالحدود التي حدّدها الشارع ودوّنها القانون، من دون فساد وسوء تصرُّف، وإلّا فلابدّ حينها من كف يَدِ المُتصرِّف بها ومحاسبته ومعاقبته إن كان قد أساء وأثم، وإعادة الأموال المسلوبة إلى محلّها.

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (النساء/ 29).

 

خامساً: رعاية الموازين والمعايير:

للقوانين والأنظمة التي تنظم الاقتصاد والتجارة والمناقصات والمقاولات والبيع والشراء وسائر المعاملات.. كبير الأثر على حفظ الحقوق ورعاية العدالة ومنع الفساد، ولذلك أكّد الإسلام على رعاية القسط في التشريع، ووضع المعايير العادلة التي تحفظ حقوق الناس، قال تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) (الأنعام/ 152).

وقد جاءت الرسالات السماويّة بمبادئ العدل والقسط وبَيَّنت الحقّ من الباطل وأرست أصول العدل، قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد/ 25).

وأكّد القرآن الكريم – في معالجته وملاحقته للفساد – على موضوع رعاية الموازين وإيفاء الكيل، كعنوان عام، للعدل في المعاملات التجارية، مذكِّراً بأنّ الله تعالى خلق العالم ووضع الميزان، كي يحفظ لكلِّ ذي حقٍّ حقّه، فقال تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) (الرحمن/ 7-9).

وقد ورد في التفسير أنّ الله تعالى ذكر (الميزان) ثلاث مرّات، وفي كلِّ مرّة له معنىً جديد، فالأوّل يُراد به (العدل)، والثاني يُراد به (الآلة)، والثالث يُراد به (الموزون)، والغرض من ذلك كلّه، مراعاة العدل في الأحكام، وفي المكيال، والميزان[6].

وفي سورة هود، نقرأ على لسان النبي شعيب، دعوته لرعاية المكيال والميزان، ورعاية حقّ الناس، معتبراً الإخلال بذلك من مظاهر الإفساد، فقال: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ) (هود/ 85).

وهذا كلّه يُبيِّن أهميّة القوانين الاقتصادية ودورها في صدّ الفساد، فإنّ القوانين التي تحفظ للناس حقوقهم وتضمن لهم العدالة في الامتيازات والمجالات، وتمنحهم المجال والفرص بصورة متساوية للمشاركة في المزايدات والمناقصات، وتمنع وتحاسب على التلاعب أو العطاءات المباشرة من دون مناقصة ومزايدة، والتي تمنح على أساس المحسوبية والمنسوبية.. إنّ هذه القوانين تقلل فرص الفساد وتُضيِّق مجال المناورة على الفاسدين وتزيد من حالة التنافس الاقتصادي الشريف والمكشوف بعيداً عن التعاطي السرّي والمحدود للمعاملات والمداولات الاقتصادية، كما يمكن تقسيم العطاءات لتكون أصغر، وبالتالي يتم توزيع الامتيازات والأرباح على شركات أصغر ومقاولين أكثر، بدلاً من انحصارها بعدد قليل ومن فئة خاصّة متمكنة عملاً بقوله تعالى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (الحشر/ 7).

 

سادساً: إعادة توزيع الثروة:

مهما كانت الضوابط الاقتصادية، فإنّ حرِّية التملّك والحثّ على العمل والتشجيع على الاستثمار وعمارة الأرض واستحباب التجارة والزراعة.. وغير ذلك من النشاطات الاقتصادية المفيدة للمجتمع، وحركة الاقتصاد وسرعة التنمية وغير ذلك من العوامل يؤدِّي بشكل وبآخر إلى نشوء ثروات مالية كبيرة عند البعض وظهور طبقة من الأغنياء.

ولا يمنع الإسلام من الغنى، لأنّ المنع يؤدي إلى قتل حركة الاقتصاد وغياب الحوافز الباعثة على العمل والاستثمار، ولكن في نفس الوقت يحثّ الإسلام على عدم الاكتناز، بل الإنفاق من المال على المحتاجين والفقراء وفيما ينفع الناس والمجتمع من الصداقات الجارية.

وفرض الإسلام على المال الفائض عن حاجة الناس الزكوات ليعود جزءٌ منه إلى الدوران في خدمة المجتمع ورفع مستوى الطبقات الفقيرة، فكانت الزكاة في الأنعام، وهي: الإبل والبقر والغنم، وفي الغلات، وهي: القمح والشعير والتمر والزبيب، ويرى البعض وجوبها في سائر أنواع الحبوب، وكذلك تجب في النقدين: الذهب والفضّة.

ووجَبَ الخُمس، أي دفع 20% من الغنائم مطلقاً والمعادن والكنوز، وما يخرج بالغوص والمال الحلال المختلط بالحرام، ممّا لا يعلم مالكه، ويُراد بذلك تطهيره، والمال المجهول المالك، الذي لا يعلم صاحبه، ويرى الإمامية وجوب الخمس في فائض المؤونة، ممّا يزيد عن مصاريف السنة من الأرباح.

ولم يكتف الإسلام بهذه الفرائض، بل أعطى لولي الأمر صلاحية فرض زكوات إضافية بحسب حالهم، وبحسب حاجة المجتمع، إذا كان من واجبات الدولة توفير الحياة الكريمة للعيش بكفاية للمحرومين والمحتاجين من المجتمع، وهذا مشابه لما يُسمّى بالضرائب اليوم، والتي تتغيّر وتزداد بحسب واردات الأفراد المالية، وبحسب الظروف الاقتصادية، قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (التوبة/ 103).

وكلّ هذه الإجراءات تهدف إلى إعادة توزيع وتقسيم الثروة حتى لا تتكدّس عند أفراد ويحرم منها آخرون، مشاركون لهم في الحياة وآمالها، وفي تحمُّل الصعاب التي يواجهها البلد ويدافعون عن سيادته وحرماته، فكان من حقهم، وقد حرموا لأسباب عديدة، ربّما أكثرها خارجة عن إرادتهم، أن يشاركوا الأغنياء بعضاً من أفراحهم، كما أنّهم يشاركونهم وربما يحملون عنهم جلّ أتراحهم.

قال تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (الحشر/ 7).

الهوامش:


[1]- مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، مادة سُحت.

[2]- التفسير الواضح المفسر، الصابوني، في تفسير للآية.

[3]- موقع بي. بي. سي بتاريخ 25/ 7/ 2000.

[4]- الترف: التكبُّر والطغيان من الغنى والسعة، والتبذير: تضييع المال، وبذّر المال، مزّقه إسرافاً، والإسراف: تجاوز الحد.

[5]- نهج البلاغة، خطبة 209.

[6]- التفسير الواضح الميسر، في تفسيره للآيات.

المصدر: كتاب نظرية الإصلاح من القرآن الكريم

ارسال التعليق

Top