• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

يألفون ويؤلفون

أ. د. محمود عباس

يألفون ويؤلفون
◄س: من نعم الله على الإنسان أن يكون أليفاً مألوفاً. فكيف ترون هذا الخلق جعلا ربانيّاً في سلوك الأصفياء؟ في حياتنا أناس أنعم الله عليهم بسماحة النفس وحلاوة الروح وبشاشة الوجه.. تراهم لأوّل مرّة فتشعر أن بينك وبينهم ألفة من زمن طويل فتقبل عليهم وتطمئن إليهم والقلب مفتوح. وهذا جعل رباني لا يشتري بمال ولا جاه ولا منصب وإنما يتفضل الله به على من يشاء من عباده رزقاً لهم (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) (الأنفال/ 63). قال أحد التابعين لصاحبه: إنّ أكثر الذي ألقاهم يعرفونني ولا أعرفهم، ويحبونني ولم أصنع لهم شيئاً فقال له صاحبه: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) (الحديد/ 21)، ثمّ قرأ قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) (مريم/ 96)، والناس بطبعهم يقبلون على كل ودود أليف، ويطمأنون إليه وإذا تحدث إليهم فالأذان صاغية والقلوب مفتوحة. وقد امتدح رسول الله (ص)، هذا الصنف من الناس في قوله: "أكمَلُ المؤمِنينَ إيماناً أحاسِنُهُمْ أخلاقاً، المُوَطَّئُونَ أكنافاً، الذينَ يألَفُونَ ويُؤْلَفُون" وقد كان (ص) في هذا الجانب مثلاً أعلى كما أخبر عنه أصحابه (رض): "من رآه بديهة هابه ومن خالطه أحبه"، رأى الناس فيه نموذجاً لم يألفوه في ملك ولا سيد ولا كاهن. يأتيه الأعرابي في خشونة البداوة وغلظة القلب وبذاءة اللسان فلا يجد من صاحب الخلق العظيم إلا إنسانية راقية ولمسات حانية، فتذوب البداوة كما يذوب الجليد بل تذوب ثورة الغاضب كما تذوب قطرة الماء في قطعة من السكر، ويلين القلب الغليظ كما يلين الحديد.. جاءوا إليه بثمامة بن أثال أسيراً فدعاه النبي (ص) في رفق إلى الهدى مرة بعد مرة في ثلاثة أيام فلم يرد عليه إلا بوقاحة البدوي وغلظته، وتوقع هذا الأسير أنه سيعاقب بالموت ثمّ فوجئ بأنّ صاحب الخلق العظيم يأمر بإطلاق سراحه. وهو سلوك لم يكن حينذاك مألوفاً في بقعة من بقاع الأرض فكان لهذه المفاجأة وقعها الشديد على صاحب القلب العنيد إذ خرج من عند رسول الله (ص) حراً طليقاً ثمّ عاد إليه باختياره ليقول له: يا محمد والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إليَّ من دينك فصار دينك أحب الدين إليَّ، وما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، فصار وجهك أحب الوجوه إليَّ، ثمّ نطق بالشهادتين معلناً ثورته على أعداء الله في مكة قائلاً لهم: "يا أهل مكة. والله لن تأتيكم من اليمن حبة حنطة إلا أن يأذن بها رسول الله (ص)". فكيف لانت هذه القلوب القاسية دون سيف أو عنف، فأنت بالسيف تملك الرقاب وبالعنف تملك الأبدان ولكن لا تنفتح لك القلوبُ إلا إذا هزها منك خلق عظيم ليس في غيرك (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ) (آل عمران/ 159).   س: بعض الناس في حياتنا لا يألف ولا يؤلف. فكيف ترون مصدر الداء في سلوكيات المعاصرين؟ من الصعب أن يعيش الإنسان وحده معزولاً عن الناس بعيداً عن الألفة لا يحب أن يخالط الناس إما لسوء ظنه بهم وإما لقسوة قلبه واستعلائه بذاته على الآخرين. وليس لهذا خلق الإنسان فالخلق جميعاً يكمل بعضهم بعضاً وأكبر شيء في الأرض لا يستغني عن أصغر حجر فيها. وشر الناس – كما أخبرنا رسول الله (ص) – "الذي ينزل وحده ويمنع رِفْده ويجلد عبده"[1]، وهذا الصنف من الناس لا يألفه أحد ولا يحب أن يألف أحداً فإن دققت النظر فيما وراء هذا الصنف من أسرار وجدت ذاتاً مستعلية على الآخرين بوجاهة المنصب أو بكثرة المال أحياناً أو وجدت نفساً مريضة تسيء الظن بكل الناس (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) (النج/ 23)، وأبعد الناس عن الألفة من انطفأت في قلبه الأنوار فعاش فظاً غليظ القلب لا يتسامح ولا يلين ولا ترى على وجهه بشاشة تطمئن إليها فهو بغيض حتى إلى أقرب الناس إليه. بغيض إلى زوجه بغيض إلى ولده بغيض إلى ذوي رحمه أو جيرانه. وأسوأ ساعات الليل والنهار على أهله هي الساعات التي يرونه فيها فكيف بإخوانه وزملائه في مواقع العمل؟ فالناس لا يقبلون عليه إلا مكرهين (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (الأنفال/ 6)، ومصيبة المجتمع في هذا النموذج الغريب أن تراه على رأس عمل في هيئة أو مؤسسة فلا يجيد إلا أساليب الاستعلاء بالذات ولو على حساب المصلحة العامة. المهم عنده أن يحتفظ بهيبته في نفوس موظفيه وعماله فيستهويه التجهم والعبوس ليغرس المهابة والإكبار في نفوس العاملين (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ) (الزمر/ 60)، ولو أنّ هذا المتكبر كان على رأس نفرٍ من الجن يعملون له ما يشاء بأمر الله (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ) (سبأ/ 12)، لقلنا هكذا كان سليمان (ع) ولكن هذا المتعالي يقود مهارات وخبرات بشرية لا تجود بعطائها المثمر إلا في أجواء تسودها الألفة ولا يشعر فيها الإنسان بالهوان، وفي الحديث "أيْ عائشَةُ، إنَّ شَرَّ الناسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ، أوْ وَدَعَهُ النَّاسُ، اتِّقَاءَ فُحْشِهِ"[2] ونخجل من أنفسنا ونحن نسمع سيداً من سادات العرب في الجاهلية يوصي ابنه بأسباب السيادة التي تجعله أليفاً مألوفاً فيقول: يا بني ألِن جانبك لقومك يحبوك وتواضع لهم يرفعوك وأبسط لهم وجهك يطيعوك وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكرمك كبارهم ويكبر على مودتك صغارهم، نسمع هذا فنردد مقالة أحد التابعين إذ يقول: "ما أحوجنا مع حسن إسلامنا إلى كرم أخلاق آبائنا في الجاهلية.."، فالرجل العربي يوصي ابنه بأخلاق يتألف بها الناس وتحقق له السيادة فيهم من غير استعلاء أو كبرياء ويألفهم ويألفونه.. ويتودد إليهم بلين الجانب فيحبونه ويتواضع لهم فيرفعونه، وبلقاهم ببسط الوجه ليطيعوه، ويكرم صغارهم وكبارهم ليكرمه الكبار وينشأ على مودته الصغار.. نسمع هذا فنقول: أليس هذا هو خلق الإسلام الذي حفظناه نصّاً وضيعناه سلوكاً أضعناه سلوكاً حتى فقدنا الألفة في حياتنا الزوجية، وفقدنا الألفة في شوارعنا فلا يتودد أحدنا إلى أخيه، ولا يقيل له عثرة ولا يقبل له معذرة وكأننا أشتات متفرقات من جنسيات مختلفات لا يربط بيننا رابط.. فقد أهملنا الرابط وفقدنا المرجعية والاعتصام بحبل الله وهل تتحقق الألفة بيننا إلا بهذا (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران/ 103).   الهامش:
[1]- أخرجه الحاكم في المستدرك (4/170)، برقم (7704) من حديث ابن عباس (رض).

[2]- أخرجه البخاري (8/17)، برقم (6054) من حديث عن عائشة.

      المصدر: كتاب القرآن وقضايا العصر

ارسال التعليق

Top