• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

كل شيء به قائم.. وكل محتاج إليه وله

مجموعة باحثين

كل شيء به قائم.. وكل محتاج إليه وله

◄- لماذا نثبت وجود الله؟
يسأل البعض أنه لماذا نقوم بإثبات وجود ما هو أظهر وجوداً من جميع الموجودات، وكيف نقدم عليه ما كان معلولاً منه ووجوده قائم فيه ؟
لقد تميّزت الأبحاث العقائدية في هذا العصر باتساع نطاق الحديث وكثرة الجدالات فيما يرتبط بهذا المطلب، وتوجهت أنظار العلماء الباحثين في الرد والدفاع والنفي والإثبات، حتى غلب الظن بأنّ ما هو مطروح في باب معرفة الله تعالى إنما هو إثبات وجوده ونفي الإلحاد به.
هنا نرى من الضروري الإشارة إلى النقاط التالية:
1-صحيح أنّ الأصل الأول من الأصول الاعتقادية هو التوحيد الذي يعني وحدة الخالق المدبر ومحضية الوجود المطلق، وهو غير إثبات وجود الله أو الاعتقاد به. ولكن التوحيد الذي هو أحد الصفات فرع إثبات الوجود، وبديهي أنّ الشيء لا يقوم إلا بأصله. وهكذا فإنَّ البحث في إثبات وجود الله تعالى قبل وحدانيته لا يخالف المنطق السليم والتسلسل العقلي.
2-مما لاشكَّ فيه أنَّ معرفة الشيء هي غير إثبات وجوده، لأنّ إثبات الوجود يبقى مجرد إشارة لغائب، بينما المعرفة هي عين الحضور. وشتان مابين الغائب والحاضر. ولهذا فإنّ حمل تلك الأحاديث و الآيات التي تتناول هذا الباب من الحقائق العظيمة على مجرد الإثبات ليس إلا جهلاً بحقيقة الأمر، يؤدي إلى إغلاق أعظم النوافذ الغيبية والفيوضات الرحمانية .
3 - الطريق القرآني والمنهج الإلهي في تعليم المعارف الربانية والإرشاد إلى الحقائق الإيمانية يركز النظر على مطلب التوحيد ويلفت الذهن إلى شبهة إنكار الحق، لأنّ الناس إنما حادوا عن جادة التوحيد وهم يعتقدون بفطرتهم بوجود الخالق.
أجل، لقد صارت الغفلة غالبة على أهل هذا الزمان وحادوا حتى عن فطرة الخالق. وإنما كان ذلك لأسباب سياسية وأغراض ذاتية نشأت من أعمال الكنيسة المسيحية، وصارت فيما بعد سبباً للفجور وتحصي الملذات وتلبية الغرائز والشهوات. ولا جل تبرير أفعالهم وفجورهم وأطلقوا الحجج العلمية حتى خيل إلينا أنّ انكار وجود الإله إنما نشأ عن شبهة علمية.
فالبحث في الإثبات لدحض الحجج الواهية، والغوص في التوحيد لتربية النفوس الواعية والسير في الأسماء لسلوك الطريقة الهادية (والله الموفق ).
4 – نقرأ في دعاء يوم عرفة للإمام الحسين (ع):
"كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من اظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عينٌ لا تراك عليها رقيباً "
فالله تعالى هو الوجود المطلق الذي لم يُر لشدة ظهوره وفرط نوره، فاحتجبت الأبصار عن مشاهدته، وبه ظهر الوجود:
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (النور/35)
ولولاه لما عرف أحدٌ أحداً. سُئل رسول الله (ص): "بماذا عرفت ربك؟ قال: بالله عرف الأشياء: فصرح عليه صلاة الأنام وعلى آله الكرام بتلك الحقيقة الكبرى وأبطل كل قياس. لا لبطلان النتيجة بل لضعف المقدمة.
ولهذا نفى بعض العلماء إمكانية الاستدلال على وجود الله تعالى من هذا الباب وعدّوا كل ما قيل مجرد إشارة ومحض تنبيه.
فلنرجع الآن إلى البراهين العقلية والآيات الآفاقية والأنفسية التي تشهد جميعها على وجوده سبحانه وتعالى.
- برهان النظام
إنّ النظر في أحوال الموجودات يدل على أنّ أبناء هذا العالم وبناء الوحدات التي تشكل أجزاءه قائم على أساس النظام. فلكل شيء مكانه المخصص له، قائم على أساس مقصد خُلق له. فالعالم مثل كتاب ألَّفه كاتب مطلع، كل جملة فيه أو كلمة تحتوي على سلسلة من المعاني والمطالب والمقاصد. والنَّظم الذي استُعمل في الكلمات والجمل قائم على أساس دقة خاصة ويشير إلى هدف ٍ معين.
إنّ كل إنسان يمكنه أن يقرأ إلى حد ما في خطوط و أسطر كتاب الخلقة ويدرك سلسلة من معانيه ويطَّلع على قصد وفكر مؤلفه. كل إنسان يمكنه أن يستنبط الأنظمة الحكيمة والآثار و العلامات المستعملة لتدبيره و إدارة عالم الخلق بوضوح وإن كان أمياً لا يقرأ و لا يكتب.
ولكن بالتأكيد إذا كان مطلعاً على العلوم الطبيعية، فإنه سوف يدرك أكثر بما يتناسب مع معرفته أمور النظام وآثار وعلائم الوجود والحكمة والتدبير في الخلق.
نجد أنّ  القرآن الكريم يؤكد بشكل منقطع النظير على الإنسان كي يطالع في صنع الخلقة وبناء الموجودات للتعرف على الله، كما نجد كلمات أئمة الدين (ع ) كخطب نهج البلاغة وتوحيد المفضَّل وبعض الأدعية والاحتجاجات زاخرة بهذا الأمر.
من المسلَّم أنّ أفضل طريق للعامة في معرفة الله هو هذا الطريق. فكيف تدل الأجهزة والأنظمة التي تحكم هذا العالم على وجود الله العليم الحكيم؟
جواب هذا السؤال واضح، فكما أنّ وجود أثر ما يدل على وجود القوة المؤثرة، كذلك فصفات وخصائص ذلك الأثر يمكن أن تشير إلى حد كبير إلى صفات المؤثر.
مثال: نحن أبناء البشر لا نطلع بشكل مباشر على محتوى ضمائر وأفكار بعضنا البعض ولا نشرف بشكل مباشر أيضاً على الملكات الأخلاقية الموجودة في الآخرين ولا يمكننا ذلك. وبديهي، أنني لا أستطيع أن أقرأ ما في ضميرك بشكل مباشر وبدون واسطة أو أن أطّلع على نياتك وصفاتك الأخلاقية، ولا أنت يمكنك أن تعرف ما في نفسي بشكل مباشر أيضاً. ولكننا في نفس الوقت نحكم بدرجة كبيرة على محتوى ضمائر بعضنا البعض بدون أن يكون هناك أدنى تردد أو شك بحيث نصل إلى اعتقاد معين حول شخص ما، ونعرِّفه بعنوان أنّه عالم. فبأي دليل؟ بدليل آثاره الشفهية أو المكتوبة التي سمعناها أو رأيناها منه، فنقول: هذا فقيه، وهذا حكيم وذاك راضي وذاك أديب لأننا سمعنا أو رأينا من الأول حديثاً أو نصاً فقهياً ومن الثاني حكيماً ومن الثالث رياضياً ومن الرابع أديباً. وبحكم السنخية التي هي لازمة بين الأثر والمؤثر لا يمكن أن يصدر من فاقد العلم حديث علمي، أو من الذي هو أديب فقط نصٌ فقهي و... فنحن مثلاً نشك في أنّ صاحب "الجواهر" الذي نعرفه فقيه كبير مع أننا لم نره، وفي حال رأيناه لما كنا نعرف ما في نفسه بطريقة مباشرة، ولكن كتابه "الجواهر" هو الدليل القطعي على أنّ مؤلفه كان فقيهاً كبيراً.
- تقرير البرهان
ويمكن تقرير برهان النظام على الشكل المنطقي التالي:
• العالم منظَّم (مقدمة صغرى)
• كل منظَّم لا بد له من منظِّم (مقدمة كبرى)
= العالم له منظِّم (صانع)   (نتيجة)
دليل المقدمة الصغرى يتأكد من خلال النظر في هذا العالم وأجزائه والاهتداء إلى النظام الحاكم فيه، بحيث أنّه لو انعدم النظام لفنى العالم ولسادت الفوضى التي لا تيّسر للإنسان البقاء. وعلى الإنسان أن يقرأ في صفحات هذا الوجود حتى يهتدي مباشرة إلى هذه المقدمة.
أما المقدمة الكبرى فهي بديهية، وإن خالفها بعض الناس ممن أصيبوا في عقولهم وفقدوا سلامة التفكير. ونتوجه إلى هؤلاء أنفسهم ونسألهم:
إذا دخلنا إلى صف من صفوف المدرسة ووجدنا على اللوح معادلة رياضية صعبة أو قانوناً فيزيائياً معقداً، فهل يمكن لنا أن نحتمل أنّ هذه المعادلة قد ارتسمت على ذلك اللوح الأسود، بفعل الصدفة، أيّ أنّ قطعة من الجص خرجت من لدن نفسها من  مكانها وانتقلت إلى اللوح فانتقشت بفعل ذلك تلك المعادلة الرياضية الصعبة، أم أننا سنحكم فوراً بأنّ الأستاذ رياضياً أو فيزيائياً قديراً هو الذي كتبها؟
إنّ العلم والتجربة أثبتا أنّه من المستحيل أن نجد ولو حالة صغيرة من حالات النظام والتناسق إلا وقد تمت في ضوء فكر ثاقب وعقل سليم ولهذا فإننا بمجرد أن نقف على نموذج من ساعة يدوية نسرع إلى نسبتها إلى صانع ماهر، ولا نعزو ذلك إلى الصدفة أبداً.
وهكذا نتذكر قول الإعرابي عندما سئل عن الله وكيف آمن به:
(البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير، أفسماءٌ ذات أبراج وأرض ذات أفجاج ألا تدلان على اللطيف الخبير؟)
- برهان الحدوث
من الأدلة المعروفة التي تستخدم لإثبات وجود الله سبحانه برهان حدوث العالم. وذلك من خلال النظر في بداية ونشوء هذا العالم المادي  والاستنتاج  بأنّه لا بد من وجود مبدأ له أخرجه من حيز العدم إلى الوجود.
قال أمير المؤمنين (ع): "الحمد الله الدال على وجوده بخلقه، وبحدوث خلقه على أزليته".
الحادث هو "الموجود المسبوق بالعدم" أي الذي لم يكن ثمَّ كان. والقديم هو "الموجود غير المسبوق بالعدم" أي الذي كان وجوده أزلياً ولم يكن له أية بداية.
والحادث - كونه وجد بعد أن لم يكن موجوداً - بحاجة إلى "علة" تأتي به إلى حيز الوجود، كما ثبت في "قانون العلية" من احتياج الممكن إلى علة.
فلو ثبت أنّ العالم - بعامة أجزائه المادية وصورها- حادث لزم أن يفترض له محدث أخرجه من العدم وأفاض عليه الوجود. فها هنا مقدمتان (إحداهما صغرى والأخرى كبرى) ونتيجة، وهي كالتالي:
1- الصغرى تتكفل بإثبات حدوث العالم.
2- الكبرى تتكفل بإثبات احتياج كل حادث إلى محدث وعلة.
=النتيجة  وهي أنّ العالم محتاج إلى مُحدث.
ولما كانت المقدمة الثانية (أي الكبرى) ثابتة عند الجميع لاعترافهم باحتياج كل حادث إلى علة محدثة، يتحتم تركيز البحث على إثبات الصغرى أي إثبات كون العالم حادثاً بمادته وصورته.
- إثبات حدوث المادة
لقد أثبتت العلوم الطبيعية الحديثة أنّ الكون يسير بإتجاه موت حراري وشيخوخة يصطلح عليها في الفيزياء "بالأنتروبي". فقد توصل إسحاق نيوتن نتيجة تحقيقاته إلى أنّ العالم يتجه باستمرار نحو التفكك والتحلل والبرود والاهتراء، وسيأتي اليوم الذي تتساوى فيه كل الأجسام في حرارتها.
لقد أثبت من خلال دراسته للحرارة أنّه في جميع التغيّرات الحاصلة في الحرارة يتحول قسم من   "الطاقة ذات الوجود الحراري" إلى "طاقة غير ذات الوجود حراري" ولا يمكن أن يحصل العكس: ويسمى هذا بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية أو بقانون الطاقة المتاحة.
هذا الكشف يثبت أنّ الحرارة تنتقل بصورة تدريجية من وجود حراري والعكس غير ممكن. ويعني هذا أن يأتي وقت تتساوى فيه حرارة جميع الأجسام (الموجودات) وحينذاك لا تبقى أية طاقة مفيدة للحياة والعمل والتحرك، ويترتب على ذلك أن تنتهي العمليات الكيماوية والطبيعية وتنتهي الحياة.
فوجود الحركة والحياة في هذا الكون إنما هو نتيجة التفاوت والاختلاف الموجود بين أجزائه في الحرارة، فإذا انتقلت الحرارة من الأجسام الحرارية إلى الأجسام الأخرى وتساوت الحرارة في الجميع وحلّت البرودة مكان الحرارة، فلن يبقى مجال للتفاعل الذي هو نتيجة الاصطكاك بين الأجزاء المتفاوتة والفعل وردة الفعل.
هذا هو الأصل العلمي الذي اتفقت عليه كلمة علماء الفيزياء الحديثة، ونحن نستنتج من هذا الأصل: حدوث المادة، بالبيان التالي:
إنّ الكشف المذكور يعد دليلاً قوياً على حدوث الكون إذ لو كان هذا العالم المادي أزلياً لزم أن تبرد الحرارة منذ زمن بعيد وأن تنعدم فيه الحياة منذ وقت طويل، لأنّ العالم محدود في طاقته فكيف يمكن أن يكون هذا العالم موجوداً منذ الأزل إلى الآن وهو يفقد كل يوم هذه الكمية الهائلة من حرارته نتيجة الإنفجارات المتلاحقة في ذراته؟!
وبعبارة ثانية: إنّ العالم لو كان أزلياً قديماً لكان ينبغي أن تنعدم الحياة والحركة فيه منذ أقدم العصور نتيجة فقدان أجزائه للحرارة وانتقال طاقاتها المتاحة إلى طاقة غير متاحة وتوقف العمليات الطبيعية والكيماوية. وللزم أن لا نجد على الأرض أيّ أثر للحياة والأحياء وأن لا يبقى إلى الآن أية حرارة للشمس لحصول الموت الحراري. الذي أشار إليه الكشف المذكور منذ زمن بعيد نظراً للكمية المحدودة للحرارة في الكون.
فنستنتج من ذلك أنّ لهذا الكون بداية وأنّه حادث وليس بأزلي، فالكون يشبه السراج النفطي الذي يفقد أجزاءً من وقوده عند الإضاءة باستمرار. فلا يمكن أن يكون مشتعلاً منذ الأزل، إذ يلزم من ذلك أن ينتهي نفطه ووقوده منذ وقت طويل. فإذا وجدناه لا يزال مشتعلاً استنتجنا من ذلك أنّه حادث وأنّ هناك من يزوده بالوقود ليستمر في الاشتعال.
إنّ نظامنا الشمسي، بل مجرتنا التي يعتبر هذا النظام الشمسي جزءاً صغيراً منها، ما تكون بالسراج النفطي المذكور، لأنّ هذه المجرة تملك طاقات محدودة، فلو كانت هذه المجرة قديمة في وجودها وانفجاراتها لزم أن يكون قد انتهى كل ما فيها من طاقات، وللزم أن لا نرى الآن أي أثر للعمليات والتفاعلات الطبيعية، والحال أننا نشاهد استمرار هذه العمليات والتفاعلات، ونلاحظ - تبعاً لذلك استمرار مظاهر الحياة التابعة لذلك. وهذا يكشف بجلاء عن وجود بداية لهذا الكون، ويبطل القول بأزليته وقدمه.
وبهذا البيان نكون قد أثبتنا حدوث العالم، وبإضافة الكبرى التي تثبت احتياج كل حادث إلى محدث، نستنتج أنّ هذا العالم محتاج إلى محدث.
ولا يخفى أنّ جميع علماء الفيزياء الكونية متفقون على أنّ لهذا الكون بداية. بل يذهب أكثرهم إلى تحديد عمر الكون من خلال الدراسات العديدة التي أجروها.. إذا، فإثبات حدوث العالم لا يتم فقط من خلال نظرية الطاقة المتاحة، بل هناك نظريات كنظرية الإنفجار الكبير والنظريات الفلسفية الأخرى التي تبتنى على قواعد عقلية واضحة.
- برهان احتياج النفس
إنّ النظر والتأمل في أعماق النفس الإنسانية يقود الإنسان إلى الإيمان بوجود خالق حكيم ذي صفات كمالية مطلقة لا حد لها.
وهذا التأمل يمكن أن يتحول إلى دليل ساطع وحجة قوية إذا عرفنا كيف نقرر بصورة منطقية. ثم يتجاوز هذا الدليل طبيعة النفس الإنسانية ليشمل كل وجود العالم الذي يلهج باحتياجه وفقره بوجود الغني المطلق.
إذا تأمل الإنسان في نفسه وجال في أعماق ذاته يدرك أنّ وجوده قائم على أساس الاحتياج والشعور بضرورة السعي والحركة لأجل الوصول إلى سعادة مطلقة لا تعرف الشبع.
وإذا أعاد النظر ثانية عرف أنّ هذه السعادة إنما تتحقق بوصوله إلى العلم المطلق والقدرة المطلقة والارتواء العاطفي الذي لا حد له. فإنّه إذا أدرك لذة ما، طلب أخرى وإذا حصل على مرتبة ما، تطلع إلى ما هو أعلى منها.
كل ذلك لأنّه يشعر في أعماقه بحاجة لا تعرف الشبع أبداً، وهذا ما نسميه بالفقر المطلق.
فيجول في أرجاء الوجود علّه يجد ريّاً لعطشه أو إشباعاً لجوعه اللامتناهي فيرى كل العالم مسافراً معه في رحلة الطلب والسعادة، ومتنقلاً في الوديان هرباً من النقص إلى الكمال.
فكيف يُطعم جائع جائعاً أو يروي ظمآن عطش رفيق.
هل يقع في اليأس أم يركن إلى الفقر وألم النقص أم ماذا؟
وإذ بكل العالم يحكي له قصة الجمال والروعة، والحكمة والتدبير. فآيات البحار أجمل من آيات الجبال، ثم الفضاء المتلألئ بألوان النجوم الباهرة، والكل أجمل من الكل يقص على المتأمّل حكاية النظام الدقيق.
هل يعقل أن يكون جوعي وعطشي احتياجاً لا يسد أبداً؟ وهل من الممكن أن أكون في ظل هذا العالم العظيم خرقاً واستثناءً؟
إحساسي بالعطش يدل على وجود الماء.. وأنا أقصده وشعوري بضرورة الارتباط بالجنس الآخر دليل على ضرورته.. وأنا أتزوج.
كل حاجاتي الجسدية أرى لها إشباعاً، فلماذا تبقى روحي جائعة، ويبقى طلبي للسعادة قائماً؟
لا، لا بد من وجود من يعطي هذه السعادة.
وهو المغني المطلق: الذي يملك الحاجات وهي مستجيبة لمشيئته ومنقادة إلى إرادته.
هذه قصة الدليل الذين ينكره من أضاع نفسه ونسيها: (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (الحشر/19)
فلنكتبه بلغة المنطق والدليل:
يقوم هذا الدليل على الأمور التالية:
أولاً: الاعتقاد بوجود الحاجات النفسية التي لا تعرف الشبع وأنّ هذا الشعور يشمل كل أفراد البشر منذ ظهورهم على هذه الأرض وحتى يومنا هذا.
ويمكن التعرف على هذا الأمر من خلال ملاحظة القواسم المشتركة بين الناس. نعم، لا يعني هذا أنّ الشعور ينبغي أن يكون بنفس النسبة أو أنّ الجميع يتحركون بصورة صحيحة لأجل تلبيته.
وتسمى هذه الحاجات بالأمور الفطرية، ويعد هذا الدليل عقلياً لموضوع الإيمان الفطري بوجود الله.
ثانياً: وجود هذا الشعور أكيد وصحيح، وهذا يدل على وجود متعلقه، أي أنّ ما يتعلق به شعور الإنسان الحقيقي ينبغي أن يكون موجوداً. ونقصد بالشعور الحقيقي ما هو مقابل الشعور الوهمي كشعور المتخدر بالحاجة إلى الطيران أو الشعور بالحاجة الماسة لممارسة بعض النشاطات الفنية حيث يظن صاحب هذا الشعور بأنّ حاجته تفوق كلّ شيء.
أما الدليل على وجود المتعلق، فإنّه ينبع من الاعتقاد بأنّ كلّ ظواهر العالم محكومة لنظام بديع، فنحن إذا كنا نطالع في كتاب عظيم احتوى على آلاف العبر والقوانين البديعة ثم وصلنا إلى نقطة مجهولة فيه لا نقول أنّ هذه النقطة هي عبث ولغو. وإنما نحكم على أنفسنا بالجهل وعدم المعرفة ونحاول أن نفكر فيها لكي نصل إلى اكتشافها.
نحن نعتقد بوجود المصدر الأصيل لهذه الاحتياج لأنّنا طالعنا كل نظام الوجود فلم نرَ إلا الإنسجام البديع بين كل أجزائه، وجدناه محتاجاً في كل أرجائه، فمن يعطي محتاج أكثر مما يعطي لكي يستمر في العطاء، ومن يأخذ لا يستغني عمن يأخذ منه لكي يستمر البقاء.
وهكذا فإننا نعتقد بضرورة وجود من يملك هذه الحاجات التي لا تعرف الشبع وهو الغني المطلق.
كل شيء به قائم، وكل محتاج إليه وله
ثالثاً: لا يثبت هذا البرهان وجود الله فقط، و إنما يثبت له صفات أساسية  كالعلم والقدرة والحياة، وهذه الصفات مطلقة ولا حد لها.
ولهذا فهو يعد من أهم البراهين التي توصل الإنسان إلى طريق معرفة الله سبحانه وتعالى.


المصدر: كتاب أشجار السعادة

ارسال التعليق

Top