• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الدعاء.. انسياب للفكر واندماج للقلب

د. ناصر باهنر

الدعاء.. انسياب للفكر واندماج للقلب

أ) من وجهة نظر الإسلام:

يؤكد الإسلام وبشدة على موضوع الدعاء ويدعو المسلمين لتكريس جزء من أوقاتهم اليومية للعبادة والدعاء والتضرع إلى الله. وفي أهمية الدعاء قال النبيّ (ص): "الدعاءُ سلاحُ المؤمن وعمودُ الدين ونورُ السماوات والأرض".

جاءت عن النبيّ (ص) والأئمة المعصومين (ع) أدعية تمثل أفضل النماذج في قضية الدعاء. كما أنّها تعتبر ذخراً عظيماً وغنياً من العلوم الإسلامية. والدعاء على عدة أنماط:

1 ـ تتطرّق بعضها إلى تجليل الله وحمده. ومثل هذه الأدعية تحيي ذكر الله في القلوب وتمكننا من معرفة مصدر الكمال.

2 ـ يتقدّم الإنسان في بعض الأدعية الأخرى بالرجاء لاكتساب مجموعة من المحاسن والصفات الكمالية الإنسانية وبهذا يُلقّن نفسه بهذه الفضائل بطلب من الله أن يوفقنا رويداً رويداً للتأهب لنيلها.

3 ـ نذكر في بعض الأدعية الأخرى بعض احتياجاتنا ونسأل الله أن يلبي متطلّبات حياتنا وندعوه لقضائها. وهذه الأدعية تعتبر مؤشراً على أنّ الإنسان يعي ما ينقصه في الحياة ويدعو ربّه لقضائها ولاسيما إن طالب فيها باكتساب الفضائل المذكورة في الفقرة (2).

4 ـ تتجاوز بعض الأدعية حدود الشخص والمنافع الشخصية وتتكرس للمجتمع وأبناء النوع الإنساني ولاسيما أصحاب الحقوق. ومثل هذه الأدعية تحظى بتأكيد كبير في سيرة المعصومين (ع)، وهي مظهر من مظاهر الإنسانية وحبّ الإنسان. يؤكد القرآن الكريم على دعم الدعاء بالعمل وبذل الجهد. وأنّ الدعاء دون السعي لا يثمر عن نتيجة. ويعود عدم استجابة الله لبعض الأدعية إلى أسباب متنوعة، منها: أعمال الداعي وأفكاره السيئة وكذلك إهماله الشؤون الهامة والواجبات الشرعية مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالله – عزّوجلّ - لا يقضي حاجة مَن يكتفي بالدعاء وكذلك دعاء مَن تتضارب أفعاله مع دعائه. وقد يعزى عدم استجابة الدعاء أحياناً إلى أنّ الشخص وفي غفلة منه يطالب بما لا يعود عليه بالنفع، فيمنع الله عند الاستجابة طلباً لخيره. وفي بعض الأحيان يحجب الله استجابته عن أدعية المؤمنين لأنّ هذه القضية تدعوهم لمواصلة الدعاء وتعميق التفكير بالله – عزّوجلّ - مما يستجر تسريع نموهم ونضجهم المعنوي وتغدو هذه الأدعية ذخراً لآخرتهم. إنّ الدعاء الذي يتوجه به الإنسان إلى الله لقضاء حاجته دون انسياب فكره واندماج قلبه مع الله لا تنال الاستجابة من البارّي العلي القدير.

ولمضمون الدعاء أيضاً دور في الاستجابة له حيث سرعان ما ينالها إن كانت تهدف لضمان الآخرة أو قضاء حاجة بقية المؤمنين. ومن جهة أخرى، لا تنال الاستجابة إن تضمنت طلباً غير حميد. إنّ تلبية الأدعية لا تدل بالضرورة على صلاح الداعي بل يقضي الله أحياناً حوائج الآثمين أيضاً ليزدادوا انغماساً في متاهات فنائهم.

(إنّ للدعاء والتضرع إلى الله وكما تؤكد بعض المصادر الإسلامية آداباً ومراسيم يفضل وصفها بالحسبان).. بإمكاننا الاطلاع على الأدعية المنصوص عليها في الدين الإسلامي ضمن ما جاء منها في القرآن الكريم أو نقلاً عن المعصومين (ع) في مصادر مثل الصحيفة السجادية ومفاتيح الجنان.

 

ب) إدراك الأطفال والناشئة حول هذه الموضوع:

يمكن تقسيم أدعية الأطفال وتضرعهم إلى الله نوعياً وبحسب ما جاء في معطيات تحقيقات أجريت بهذا الخصوص إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: الأدعية الساذجة، المادّية والمتمركزة على الذات.

الثاني: الأدعية الأقل سذاجة ومادّية وتركيزاً على الذات.

الثالث: أدعية صقلت عنها إلى حدّ كبير مختلف حالات الصدأ السابقة فاكتسبت طابعاً روحياً وإنسانياً.

كما نستوحي من أدعية الأطفال أنّها تُصنف بحسب مضامينها إلى عدة مجاميع، منها:

1 ـ أدعية إنسانية تخص الأسرة، الذات، الأصدقاء والآخرين. ومن جهة أخرى لا يغفل الأطفال عن الحيوانات الأهلية وغيرها من الحيوانات أيضاً بالنظر لارتباطهم العاطفي معها واستئناسهم بها.

2 ـ أدعية شخصية في سياق شكر الله والثناء عليه، والإذعان بارتكاب الخطايا وطلب العفو والصفح وارتقاء مستوى السلوك، والمطالب المادّية أو المطالب المتعلقة بقضايا المدرسة والأعمال الشخصية.

3 ـ أدعية تطالب بالوقاية من الأخطار الفيزيائية في الدنيا أو شفاء النفس أو الآخرين من المرض.

4 ـ أدعية تتكرر في إطار المحفوظات وتتضمن الأدعية المذكورة ضمن العبادات والمنصوص عليها من قبل الدين وكذلك الأدعية التي تتم قراءتها في المدرسة.

تشمل أدعية الأطفال الصغار في مرحلة الابتدائية والأطفال في السنين الأولى من الابتدائية حتى بلوغهم سن التاسعة، مواضيع عديدة حيث يلجأون إلى الدعاء والتضرع بغية تحقيق هذه المطالب. إنّ أدعيتهم رغم استهدافها لتلبية احتياجات الغير أحياناً إلّا أنّها أغلبها لا تخلو من حالة التركيز على الذات، فدعاؤهم لأصدقائهم مثلاً ينطلق من ميلهم في تحسين علاقاتهم الودية معهم. ويسود بينهم الدعاء لنيل العطايا والهدايا المادّية بينما تندر بينهم الأدعية المتضمنة للإقرار بالخطايا وطلب الصفح الإلهي.

قلما يلجأ الأطفال في هذه السنين إلى الأدعية من النمط الرابع مقارنة مع بقية الأنماط. ويرى الطفل أنّ الله يحضر فيزيائياً في المكان الذي يلجأ فيه هو للدعاء أو يخيل إليه بأنّ الله يستمع إلى كلامه ومطالبه من الجنّة التي تعلو رأسه و بوسائط مادّية. وحتى في المستويات العمرية الأدنى يتصوّر الأطفال بأنّ الله يعاهدهم فوراً على الاستجابة لدعائهم وهذا ما يمكن برأيهم إدراكه عن طريق الألفاظ والأحلام أو شعور خاص بينما يذهب الأطفال الأكبر إلى أنّ أدعيتهم تنال الاستجابة بشكل سحري تماماً. فعلى سبيل المثال، قال أحد الأطفال: لو طلب طفل من الله أن يُعينه في أداء واجباته المدرسية، فسوف تحل تلقائياً جميع مشاكله مع واجباته.

لابدّ من تقصي أسباب عدم استجابة الأدعية بحسب رأي هؤلاء الأطفال في أخلاقيات الأطفال. أي أنّ الطفل لم يعرض طلبه على الله أثناء الدعاء بشكل وافي وبأسلوب مناسب أو أنّه قام بأعمال قبيحة. وأنّ مطالبه لا تحظى بقبول من الله. وبناء على هذا يعمد الله لمعاقبته عن طريق عدم استجابة دعائه. ويتطابق ما ذكر حول هذا الموضوع مع معلوماتنا حول طبيعة احتياجات الأطفال دون التاسعة من العمر وطابعي التركيز على الذات والسذاجة المترسخين في تفكيرهم.

يتمتع التلاميذ في حوالي العاشرة وحتى الثانية عشرة من العمر بخبرات أوسع وقدرة أكبر على إدراك مفاهيم ومعاني الألفاظ. ويكثر في هذه السنين توجههم إلى الأدعية الإنسانية وتمتاز أدعيتهم الشخصية باستبطان أكبر وبتوسّع مضامينها حول تهذيب الأخلاق والأفعال. وبالنظر لزيادة تنبه الأطفال في هذه السنين إلى الأخطار البيئية التي تحيط وتعمّق شعورهم بالحاجة إلى الأمان يزداد تطرّقهم للأدعية من النوع الثالث. وبالنظر لزيادة الاهتمام بالأدعية من النمط الرابع قياساً إلى غيرها، أثناء العبادات العامّة سواء عند الإتيان بها في المدارس أو المساجد، ولقضاء الأطفال فترة أطول في هذه الأجواء، تستأنس نفسه مع مثل هذه الأدعية.

ويتحوّل مفهوم الله في العبادات خلال السنين الأخيرة من الابتدائية من نمطه الإنساني إلى نمط ميتافيزيقي غيبي. وبعد فترة قصيرة تنحسر تدريجياً مع اقتراب مرحلة البلوغ الفكرة الفيزيائية عن الله وتحل محلها تصورات أكثر تطبعاً بالحالة الروحية فأدعيتهم تُلبى بنحو شُبه سحري بحسب رأيهم كما أنّهم يستغنون عن تحليل استجابة الدعاء بتفعيل دور أنفسهم بل يسهمون في ذلك عوامل أخرى أيضاً فطفل ما يفسر دعاءه لشفاء صديقه بأنّه الله وبسبب هذا الدعاء يأخذ بيد الطبيب ليعالج صديقه، وكذلك عدم استجابة مطالبهم لا يعود برأيهم إلى قبح أعمالهم فقط بل يعتبر انبثاق الأدعية من تعجرف، طمع، مادّية وحماقة الإنسان وما إليها، من أسباب تبلور هذه الحالة.

ولمرة أخرى نستنتج هذه الحقيقة وهي أنّ المفاهيم المتنوعة تنسجم في هذه المرحلة مع إدراك اجتماعي خاطئ أو نمط النضج، الحساسية الاجتماعية وتوسّع القوى الإدراكية لدى الأطفال. ومما يلفت الانتباه هو أنّ وجود المكوّنات العينية في التفكير الإجرائي والذي يختفي تدريجياً حتى نهاية هذه المرحلة قد يكون السبب في تبلور النقائص الموجودة في هذه المفاهيم.

وتنحى المفاهيم الأخرى الخاصّة بالدعاء والعبادة منحى أكثر واقعية منذ حوالي الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من العمر أي بانتهاء مرحلة الطفولة وتظهر مفاهيم تتعمق فيها الحالة والأنماط الروحية بزوال أثر المكوّنات المادّية في فكر الإنسان. وتبلغ الأدعية الانسانية في هذه السنين وكذلك في فترة البلوغ ذروتها، كما يزداد التركيز على ارتقاء السلوك، الإذعان بالخطايا وطلب العفو في الأدعية الشخصية وتهدف هذه الأدعية إلى طلب العون في قضايا الدراسة قضاء احتياجات الأبوين ويتجلى في هذه الأدعية بوضوح مؤشرات التوصل إلى إدراك الحالة الروحية وجود الله. فيما تختفي فكرة الاستجابة السحرية للأدعية وتتبلور أدلة أكثر عقلانية لتلبية الدعاء تستند إلى العوامل الإلهية والمعنوية بأكثر من سائر العوامل. ويبدو لهم أنّ هناك عوامل أخرى إلى جانب الدعاء والعبادة قد تستجلب تلبية الدعاء كما في قول أحد الأطفال: (أنّ الله يمدّ الطبيب بالعلم ليشفي على يده المريض الذي توجه الداعي بالدعاء له). إنّهم يؤمنون بأنّ الله – عزّوجلّ - ولوعيه بمصلحة عباده فإنّه يحجم أحياناً عن تلبية أدعيتهم غير الضرورية وغير الصادقة والمتجردة عن الإيمان أو غير الصالحة. وتتضح لهم هذه الحقيقة وهي أنّ الإنسان لا ينال الاستجابة إلّا إذا حظى بالاستعداد الروحي المطلوب، ففي غير هذه الحالة لابدّ أن يرفض الله طلبه.

وفي السنين التالية، أي بعد البلوغ، يرى الناشئة أنّ بعض الأدعية وبحسب المنهج الإلهي السامي والمتحكم بمنظومة الكون ينال الاستجابة وبعضها الآخر لا ينالها ولكننا لا نستوعب هذا المنهج الإلهي والحكمة الإلهية.

وبالإجمال لا يمكننا أن نستنتج بأنّ هذه الانطباعات تتطابق مع خصائص هذه السنين. ومن هذه الخصائص الحساسية في السلوك الفردي والاجتماعي، الوعي الأخلاقي الفردي والقدرة على التعامل مع المجردات على مستوى التفكير التجريدي.

ارسال التعليق

Top