• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المعالجة التربوية للقضايا الحياتية

يزن أحمد عبده

المعالجة التربوية للقضايا الحياتية

- موقف المؤمن من متاع الدنيا:

كلمة المتاع تعني: "كلّ ما ينتفع به ويرغب في اقتنائه، كالطعام، وأثاث البيت، والسلعة، والأداة، والمال". وهذه المتع منها ما هو محرّم ومنها ما أباحه الله سبحانه.

وقد حثّ الله سبحانه عباده على الاستمتاع بما أباحه لهم من طيبات الرزق فقال: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 32)، وتوجيه النبيّ (ص) بيّن بهذا الخصوص وقد دلّ الكتاب والسُّنة على ذلك، أمّا الكتاب ففي قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31)، وأمّا السُّنة فقال (ص): "إنّ الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده".

لكن التمتع بما أباحه الله لا ينبغي أن يأخذ على المسلم كلّ همّه وهدفه، بل لابدّ أن يكون موقف المؤمن من المتاع كما بيّنه قول الله سبحانه: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص/ 77)، فهدف المسلم هو الآخرة، لكنّه لا ينسى نصيبه من الدنيا، وهو يعلم أنّ حقيقة الزينة هي: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا) (الكهف/ 7-8)، ويعلم كذلك أنّ: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا) (الكهف/ 46).

مع العلم أنّ سلوكه مختلفاً عن أهل الدنيا، فهو كما أخبر الله عنه بقوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف/ 28)، فإنّ المؤمن الذي يطلب الآخرة يتوحد مع غيره من المؤمنين، سواء من سبقوه بالاقتداء بهم، أو مَن يحيون معه بالصبر والتعلّم منهم.

وقصّة "أهل الكهف نموذج لطلاب الآخرة العازفين عن زينة الدنيا" التاركين لها عند تعارضها مع هدفهم وغايتهم من عبادة الله وطاعته، ولها من التأثير على النفس عند سماعها الشيء الكبير، إذ يقتدي بهم المسلم في كلّ زمان وجيل في التحرّك الصحيح المنسجم مع ما يصبو إليه، فيوازن بين الدنيا والآخرة عند تعارضهما، مقدماً - دون أن يتردد - طاعة الله على أيّة طاعة سواها، ويكون ولاؤه لله لا لغيره من منصب أو شهوة أو جاه أو سلطان.

فعلى المسلم، إنْ كان سلوكه غير منسجم مع هذه القاعدة، أن يعمل على تصحيحه وعلاجه، وإلّا كان من الخاسرين لأنّه يسعى وراء شيء زائل، فحقيقة الدنيا هي كما بينها الله بقوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا) (الكهف/ 45)، والمسلم يخاطب غيره موضحاً له هذه الحقيقة بقول الله: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد/ 20).

وفي قصّة صاحب الجنتين مثال آخر على موقف المؤمن من متاع الدنيا فهي تكشف لنا شعور المؤمن من أنّه "عزيز أمام الجاه والمال، وأنّ ما عند الله خيراً من أعراض الحياة، وأنّ فضل الله عظيم وهو يطمع في فضله". "وهو في وجه المغريات مستعل ولو كان في حاجة، لأنّه لا ينبغي له - وهو المؤمن المتصل بالله - أن يحيد عن منهج الله ويخاف دستوره، من أجل كسب مهما يكن من عِظَمِهِ فهو حقير، ومهما يكن من كثرته فهو زائل، ويبقى الله وحساب الله: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه/ 131).

 

- حقيقة التكريم والإهانة:

وهذه قضية أخرى بحاجة لمعالجة، فما موازين التكريم وما موازين الهوان، أهي - كما يظن الكثير - الغنى والفقر، فالغني مكرم عند الله لذلك أعطاه، والفقير مهان لذلك نجده محروماً، أم أنّ الأمر مختلف تماماً بموازين الله.

إنّ آيات قصّة صاحب الجنتين تكشف لنا عن هذه الحقيقة، معالجة تلك النظرة الخاطئة التي انتشرت بين كثير من الناس، فهي تبيّن لنا أنّ "المتاع الدنيوي الزائل ليس مظهراً للتكريم الربّاني والحرمان من هذا المتاع ليس مظهراً للهوان على الله".

فقوله سبحانه معقباً على تلك القصّة: (هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا) (الكهف/ 44)، دليل واضح على هذه الحقيقة، فالله خير ثواباً وخير عقباً لأوليائه "فلا ينقص لمؤمن درجة، لدناءته في الدنيا، ولا يترك لكافر عقوبة لشرفه، بل يعاقبه بذنبه ويظهر المؤمن عليه".

وهذا ما كان من محق الله لجنّات المتكبر الذي أغرته الدنيا حتى ظنّ أنّه إنْ كان هناك يوم بعث سيكون من المكرمين عند الله، لأنّه مكرّم في الدنيا بهذه النعم (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) (الكهف/ 36)، فما لبث أن نزل عليه العذاب: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) (الكهف/ 42).

وعندما يتأمل الإنسان في هذه القصّة لتنكشف أمامه هذه الحقيقة، فإنّه يعلم أنّ العمل الصالح والطاعة والعبادة هي مظهر التكريم، والمعصية والتكبّر والبُعد عن الله هو عين الهوان في الدنيا والآخرة.

 

المصدر: كتاب تعلّم الحياة مع قصص سورة الكهف

ارسال التعليق

Top