• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

نحو بناء شخصية فاعلة

سعاد النصار

نحو بناء شخصية فاعلة

أعتقد أنه قد آن الأوان في هذا الظرف الحرج العصيب الذي تجتازه الأمة العربية والإسلامية للتخلص من التأثير الخارجي الذي مورس على العقل العربي المسلم بسبب ظروف تاريخية لا مجال للتذكير بها، ومحاولة إعادة الفاعلية لروح الاجتهاد النابع من القيم الحقيقية الأصيلة لحضارتنا وهويتنا، والمساهمة في استرداد شخصية المسلم السوية المنضبطة بالقيم الإنسانية التي نادى بها الإسلام وتحصينها بالمرجعية الشرعية المهتدية بالوحي الإلهي والسنَّة النبوية• وانطلاقاً من وعينا الحاد بدور المرأة في بناء الإنسان وتأثيرها في توجهاته منذ كان نطفة، ثم رضيعاً تلقمه مع قطرات الحليب أولى بذور التربية والتوجيه، بل قبل ذلك منذ ارتباطها بزوجها يكون لها التأثير الكبير على حياته بأكملها لما غرسه الله فيها من حنان وعاطفة جياشة يمكن بها أن تؤثر وتوجه وتغرس كل ما تريد من قيم ومباديء، انطلاقاً من وعينا هذا استمد مقالنا مشروعية كتابته، وخصوصاً مع استمرار الحديث لدى مختلف الفاعليات الفكرية والثقافية والسياسية في مجتمعاتنا العربية عن ما يعرف بقضية المرأة، واستمرار النظر إليها من خارج التصور الإسلامي والعقل المنضبط بقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) (آل عمران/110).
وإن أهم ما يجب التذكير به باستمرار هو العمل على بناء شخصية المرأة المسلمة وتحصينها بالقيم الإسلامية والمثل العليا لإخراجها من حال التخلف والتبعية مادامت مسؤولة مثلها مثل الرجل أمام الله بحمل أمانة الخلافة وتعمير الأرض بما يفيد الإنسانية جمعاء يقول تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) (الأحزاب/27). والخطاب القرآني موجه هنا إلى الإنسان بإطلاق سواء ذكراً أكان أم أنثى. ومسؤولية الخلافة لا يمكن أن تتحقق إلا إذا قام بتأديتها عباد مخلصون، نساء ورجالاً، على وجهها الأكمل يقول تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) (التوبة/17)، وأول لبنة في بناء شخصيةمسلمة تستطيع حمل الأمانة والمشاركة الإيجابية في البناء الحضاري الذي يعيد للأمة مجدها وفاعليتها هو بناء عقيدة التوحيد في نفسها والإقرار النفسي والعملي بالعبودية لله وحده. وتوحيد الله توحيداً منزهاً عن جميع أنواع العبوديات: عبودية الذات، عبودية المال، عبودية السلطة، عبودية الشهوات، وهلم جرا... تولد في نفس الإنسان الاستطاعة على مواجهة كل أشكال التحديات، كما تغرس فيها الاطمئنان إلى قدرة الله الواسعة على رحمته وعونه. وإذا استطاعت المرأة أن تبني عقيدة التوحيد في نفسها، فإنها تكون قد استطاعت أن تتحرر من أشكال الخضوع المهين للآخرين مهما كانوا، كما تكون قد استطاعت أن تحرر فكرها ونفسها من قيود الخوف والجهل والشعوذة، وتنطلق حرة في عبادتها لله وحده لتحقق قدراً كبيراً من الاعتزاز بالنفس والشعور بالرفعة والكرامة، وإذا بلغت هذه الدرجة من الإيمان فإنها لا شك تتطلع إلى العطاء المثمر حسب إمكاناتها ومؤهلاتها الفكرية والجسدية بإخلاص وصدق ينبعان من اعتقادها بأن كل شيء لله عز شأنه، كما أنها تسعى إلى وضع لبنات أخرى لتكسب شخصية متوازنة ومتناغمة مع القيم الحضارية التي نادى بها الإسلام، ومن أهم هذه اللبنات الخلق القويم الملتزم بالاستقامة والصلاح الذي يتبنى قيمة التربية وطهارة النفس، فالمرأة باختيارها الإرادي للخير والتقوى والاستقامة وغيرها من الأخلاق الفاضلة بوصفها خياراً حراً إرادياً نابعاً من إيمانها بالله انطلاقاً من قوله تعالى: (ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها* قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها) (الشمس/7 ـ 10)، تدرك معنى ثبات القيم الخلقية في النفس فتعمل على تقويتها وتقويم سلوكها على أساسها، فلا تنساق وراء عواطف منحرفة أو شاذة وإنما تسمو بنفسها نحو عواطف مثالية تضبط سلوكها وأعمالها بضوابط الفضيلة ومكارم الأخلاق، وبذلك تكون تحب في الله وتكره في الله، وعلى أساس هذا الحب والكره تحب الحق والعدل والخير والجمال والاستقامة والصدق، وتكره الظلم والاستبداد والعنف والرذيلة والفسوق. وهذا الاختيار العقدي والسلوكي ينشئ المرأة نشأة جديدة ويجعل منها شخصية متماسكة متزنة مالكة لإرادة قوية تواجه بها مختلف الصعوبات والتحديات.

إن مثل هذا البناء ليس سهلاً في الوقت تراكمت فيه شتى ألوان المغريات والآراء التغريبية التي نأت بالمرأة عن أسس دينها وهويتها وأبعدتها عن فطرتها، واختلطت فيه المعايير والقيم، لكن حسبنا أن نعرف أن عمليات التغيير والإصلاح ومحاولات الخروج من دائرة التأثير الخارجي المهيمن دائبة في مجتمعاتنا وإن لم تستطع بعد أن ترقى إلى مستوى ما نطمح إليه، وحسبنا أيضاً أن نقف وقفة صريحة ومتأنية مع أنفسنا وذواتنا لكي نتجاوز الإحساس بالخطأ إلى مرحلة الكشف عن مسبباته وتصويبها انطلاقاً من عقيدة الأمة وقيمها من دون أي استسلام للفكر التغريبي. والمرأة مسؤولة إلى جانب الرجل مسؤولية كاملة عما نعيشه من هوان وتخلف وسقوط، ومدعوة مثله إلى بناء شخصية مسلمة فاعلة في معركة النهوض والتأصيل والارتباط بالجذور المسقية بنبعين أساسيين: الوحي، والسنَّة النبوية، ولن تستطيع ذلك إلا إذا ابتدأت ببناء عقيدة التوحيد في نفسها، وتفعيل الأخلاق الإسلامية في جميع سلوكها، وآمنت أن الانتكاسات التي تعاني منها الأمة ترجع في أحد أسبابها إلى استكانة المرأة للظلم وعدم وعيها إن القرآن في مجمل خطابه يركز على تكوين أمة مجاهدة قوية لا يفرط أو يتنازل أفرادها، نساء ورجالاً، عن حقوقهم التي وهبها الله لهم، والمرأة بتلك الاستكانة ربت أجيالاً ممن استكانوا بدورهم. إنها مدعوة إلى تجديد الإيمان بالعودة إلى الأصول وفقه الواقع وتربية نفسها لتستطيع تربية أبنائها وتؤثر فيهم وفي زوجها التأثير الإيجابي المطلوب الذي يقوم على استثارة كوامن الرحمة والحب والمودة، ولن تبلغ ذلك إلا بالعودة الواعية إلى القرآن الكريم واعتباره مصدراً علوياً للتعرف إلى حقوقها وواجباتها فينفتح آنذاك قلبها وعقلها ويتعمق إدراكها بالحياة والواقع، ويكون تأثيرها قد اتخذ الوجهة الصحية السليمة من أجل استرجاع أمة يرفع كل أفرادها شعار (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) (آل عمران/110)، ويكون خلقهم وسلوكهم القرآن ليشهدوا على الناس ويقودونهم إلى الحق والخير والعدل، يقول تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) (البقرة/143).

ارسال التعليق

Top