• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التعددية الدينية.. قراءة إسلامية

مختار الأسدي

التعددية الدينية.. قراءة إسلامية

يرفض العديد من المفكرين الإسلاميين فكرة التعددية الدينية المختزلة ويقترحون بديلها تعددية دينية غير مختزلة، معتقدين بذلك انهم يستطيعون ترويج أو تسويق هذه الأخيرة في دائرة أوسع واخراج الأولى من الدائرة التي حُصرت فيها وهي الدائرة المسيحية فقط.
فالمطلوب في هذه القراءة الإسلامية، هو التعددية القادرة على التقييم الكامل للاختلافات المهمة بين الأديان والقادرة على تشخيص السُبل المختلفة المؤدية للتكامل الإنساني والسعادة المطلقة، إضافة إلى قدرة الإسلام على تسمية الأمور بمسمياتها أي دون اختزال أو تسطيح أو تبسيط.
ولعل أول مايطرح من توصيف للتعددية الدينية غير المختزلة هو استحضار فكرة اللاهوت الخلاصي في المسيحية واعادة قراءة فكرة القربان أو الفداء الذي يُقال انّ السيد المسيح نفذها نيابة عن البشر لانقاذهم وخلاصهم، وهي تقترب من فكرة شعب الله المختار، وهما فكرتان مدانتان في القرآن ولا ينسجمان مع لطف الله ورحمته وحبّه لعباده. إذ يقول القرآن الكريم مفنّداً هذين الرأيين:
(وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 111-112).
وهذه الفكرة تفنّد فكرة القربان المذكورة التي يؤكدها المسيحيون في أن جميع بني البشر بمن فيهم الأنبياء جميعهم (ع) يجب عليهم الانتظار في الاعراف الـLimbo لحين انبعاث المسيح وقيامه لكي يأتي ويحررهم أو يطلق سراحهم، وإن كان الكثير من الثيولوجيين المسيحيين المعاصرين راحوا يعارضون اليوم هذه الفكرة ويبحثون عن طرق أو مخارج لغير المسيحيين تسمح لهم بنيل الخلاص غير هذه الطريقة التقليدية الموروثة.
أما الطرح الإسلامي، الذي يراه أهله أنّه طريق الخلاص الوحيد أيضاً، والذي يبدو في ظاهرة فردانياً هو الآخرة، فجوابه انّ الإسلام لا يفنّد ما جاء به موسى أو عيسى (ع) أو أنّ الذي علّماه لبني البشر كان خطأً، وانما جاء الإسلام أو جاء نبي الإسلام محمد (ص) ليؤكد صحة ما جاء به الأنبياء السابقون، وان تعاليمهم لم تكن غير صحيحة، بل انها كانت كافية لهداية الناس وتربيتهم في فترات نزولها، وانما جاء الإسلام ليتمم ما جاء به أنبياء الله (ع).
وهذا يعني ان جميع الأديان المقدسة الموحى به إلى الأنبياء تسمى (الإسلام) بالمعنى العام للفظ، أي التسليم الكامل لأوامر الله، وانّ الدعوة الإسلامية هي دعوة صريحة لوحدة الاعتقاد والإيمان. يقول عزّ من قائل، في القرآن الكريم:
(مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران/ 67).
هذا عن أبي الأنبياء إبراهيم (ع). أما عن وحدة هدف أنبياء الله جميعاً يقول سبحانه: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (الشورى/ 13).
وهنا يطرح الإسلام نفسه حلاً وسطاً لتسوية الخلافات بين اليهود والمسيحيين، إذ يؤكد على العناصر المشتركة بين الديانتين، ولاسيما هو يعتبر عيسى المسيح واحداً من أعظم أنبياء الله في التاريخ البشري ولكنه ليس الله الابن (God the Son) أو أنّه المخلّص أو المنقذ وعلى طريقة القربان أو الفداء أو التعميد.
ويصوّر الدكتور ليغنهاوزن هذه التسوية الإسلامية بين الديانات بأنها شبيهة بالتسوية المحمدية المشهورة في قصة وضع الحجر الأسود في جدار الكعبة قبل بعثته، وكيف جاء الرداء الذي أمسكت بطرف منه كل قبيلة هو القاسم المشترك الذي أنهى النزاع بين القبائل في تلك الساعة العصيبة.
فلا تصحّ الدعوة إلى التعددية الدينية المختزلة أو الترويج لها مادام أنصار هذه التعددية يدعون إلى قبول عدد معيّن من الأنبياء واستبعاد غيرهم،.. وهنا يردّ القرآن الكريم على أصحاب هذه النظرة الأحادية بالقول:
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) (النساء/ 150-151).
يلتفت هيك إلى مفارقة واضحة في تعدديته المختزلة حين يدرك انّ الإسلام يعترف بالاختلافات بين الأديان ولكنه لا يسطحها بالطريقة التي يُريدها دعاة هذه التعددية فتراه يقول مثلاً: "يوجد في الإسلام اعتقاد راسخ بأنّ محمداً هو (خاتم الأنبياء) وانّ الله كشف في القرآن انّ الإسلام هو الدين الأكمل والأصحّ وهو المتمم لجميع الديانات السماوية السابقة، ولهذا، فإنّ المسلم يتعامل تعاملاً ودياً مع أولئك المعتقدين بالاعتقادات الإبراهيمية، بل وتتسع نظرته أحياناً لتستوعب كل أهل الكتاب حتى أولئك الذين يواجهون المقدس من أنصار الهندوسية والكونفوشيوسية والطاوية، وكذلك الكتب المقدسة لليهود والمسيحيين أي انّه يختزن احساساً متدفقاً للوحدة الفريدة ومن خلال الوحي القرآني نفسه..".

- رؤية التصوف للتعددية:
المتصوفة هم الآخرون يرفضون التعددية الدينية المختزلة، إذ انّ الكثير من كبارهم كانوا أشاروا إلى نوع من التعددية الدينية غير المختزلة ومنها ما أشار إليه جون هيك نفسه إذ نقل عن جلال الدين الرومي قوله: "المصابيح مختلفة ولكن النور واحد".
وهذا ما انتزعه من قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) (المائدة/ 44).
وقوله سبحانه: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ...) (المائدة/ 46).
ورغم قول الصوفيين أو تأكيدهم بأنّ الاختلافات بين الأديان ظاهرية وباطنها واحد، الا ان غالبيتهم العظمى يؤكدون ضرورة اتباع وصايا النظام الإلهي عبر شعارهم الشهير القائل: "لا طريقة بدون شريعة" و"لا سبيل للباطن إلا من خلال الظاهر، وانّ الظاهر المطلوب في العصر الحالي هو ما جاء به الإسلام".
كما انّهم لا يكتفون بأن يجلس المعتقد مطمئناً إلى هذا النور دون أن يبحث عن النور الأفضل، لأن ذلك قد يقوده إلى حالة من النفاق يرفضها القرآن والإسلام، بل ان بعض هؤلاء المنافقين وان أظهروا إيمانهم، الا ان مرحلة من مراحل نفاقهم ربما يكون الإنسان الزرادشتي المخلص أفضل منهم.
وهذا يعني، انّ النظرية القائلة بأنّ الحقيقة الإلهية تجد تمظهراتها في مختلف الأديان بل وحتى المتقاطعة مع بعضها بشكل واضح، لا تعني بأنّ الناس لهم كامل الحرية لأن يختاروا أي دين يوائم أو يتلاءم مع أوهامهم أو أهوائهم أو خيالاتهم، فحين يُسأل ابن عربي نفسه من قبل حاكم مسلم عن كيفية التعامل مع المسيحيين، يجيب بأنّهم يجب أن يُعاملوا كمتعاقدين ضمن القوانين الإسلامية أي متعهدين بعدم خرقها، مؤكداً في الوقت نفسه انّ الأفضل للناس في العصر الحاضر اتباع الشريعة التي جاء بها النبي محمد (ص).
وهذا يعني أيضاً انّ جميع الأديان السابقة تصبح لاغية أو باطلة، لا بعنوان انها مزيفة أو غير صحيحة، وانما هي قاصرة، حسب ابن عربي، وانها عديمة الجدوى، لا لأنّها لا تستحق ذلك وانما لأنها اندمجت أو تمت برسالة السماء الأخيرة وهي الإسلام. يقول ابن عربي في هذا السياق: "ان جميع الأديان السماوية أنوار واحدة، وبين هذه الأديان، الدين الموحى به إلى محمد (ص) الذي هو أشبه بنور الشمس مقارنة بأنوار النجوم. فعندما يشرق نور الشمس تختفي أنوار النجوم. أو ان ضوءها ينضم إلى ضوء الشمس، أن كونها تختفي لا يعني الالغاء أو الاخفاء لنور الأديان السماوية الأخرى الذي حلّ محله نور الديانة المحمدية" ويضيف: "في نظرتنا الشمولية للدين، اننا نؤمن بحقيقة جميع الرسل والأنبياء ونعتقد بكل ما أوحي إليهم.. وان أديانهم لا تُعتبر لاغية أو باطلة بتوهم – فعلاً – أنّها باطلة أو لا قيمة لها، وانما بعد مقارنتها بغيرها أصبحت هكذا. ان نظرية الالغاء هي نظرية الجاهلين القاصرين الذين لا يفهمون الفرق بين ضوء الشمس وضوء النجوم".
والخلاصة، المتصوفة والمتألهين في الإسلام كلهم يعتقدون بأنّ الديانات الموحى بها من قبل الله سبحانه، بما فيها المسيحية لا تشتمل على أي شيء مخالف مغاير للإسلام.

- اعتراض وجيه وشطط:
ويعترض البروفسور نصر على الإشارة الأخيرة القائلة بأنّ الأديان السماوية لا تشتمل على شيء مغاير للإسلام في ملاحظة لافتة مفادها ماذا يمكن القول إذا تمكنت الوثائق التأريخية من البرهنة على أنّ المسيح (ع) وحواريّيه كانوا يؤمنون بالتثليت والتجسيد!؟ ويجيب هو نفسه بقوله: ربما يمكن القول بأن هذه المذاهب قد تمّ تلقّيها برضى وقناعة من قبل المسيحيين المتأخرين، أي ان دلالتها التأريخية لا تصبح ذات قيمة مهمة. وهكذا في مسألة صلب السيد المسيح أو عدم صلبه.
ويتفق كلّ من جون هيك ونصر، على أنّ الأديان يجب أن تتحرر من مزاعمها القائلة بأن كل واحدة منها يمثل وحده الصحيح والحقيقي فقط وفقط وما عداه باطل ولاغٍ. ويؤكدان أنّ النظرات الجزمية أو القطعية تعني أصحابها فقط ولا تعني غيرهم، وهذا نفسه ينسحب على كلا المذكورين أيضاً وان زعم نصر انّه المدافع الوحيد اليوم عن الفكر الصوفي والتراث الديني في الغرب وان كتبه المكتوبة باللغة الانجليزية هي الأكثر انتشاراً في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولعل أكثر آراء الدكتور نصر شططاً هو التماسه عُذراً لنسبية المطلق في الأديان فيشير بفذلكة لا تخلو من ضعف وفي معرض تعليقه على اتحاد الناسوت باللاهوت، أو الاعتقاد المسيحي بذلك قائلاً:
"إذا كان هذا خطأً فعلاً أو غير صحيح، كيف يسمح الله بحكمته اللامتناهية وعدله المطلق، لواحد من أهم أديان العالم الذي ينضوي تحته الملايين من الناس الباحثين عن الخلاص، أن يكون ضالاً لألفين من السنين"؟ ويضيف مستغرباً: "هل هذا خطأ؟ أي مجرد خطأ؟ فإذا قال قائل انه خطأ فإنّه خطأ مروّع أو رهيب... اني لا أستطيع القبول بذلك..".
ناسياً أو متناسياً انّه ليس خلاف العدل الإلهي وليس خلاف الحكمة الإلهية السماح لعقيدة معينة ان تعبّر عن نفسها بخطأ مادام هذا الخطأ مترشحاً عن اثم طوعي سيعاقب عليه الإنسان، أو اثم يُعذر فيه آخر ويُصفح عنه بسبب الجهل أو القصور وليس التقصير.
ومن ناحية أخرى انّه ليس خلاف الحكمة الإلهية أن يسمح الله تعالى لمعتقد ما أن يغرق في الخطيئة ألفين من السنين! إذا كانت هناك ثمّة منفعة تقوم على أساس هذا الخطأ لعموم الخليقة، كأن يكون الاختلاف مهمة من مهمات التكامل والارتقاء وليس ذريعة للصراع والنزاعات والحروب. هذا إذا لم نقل أن ليس هناك حاجة لأن يهب الله الهداية المؤدية للخلاص إلى أولئك الذين قصّروا تقصيراً متعمداً في البحث عن الحقيقة، أي لم يكلفوا أنفسهم جدية البحث لتلّقي وقبول حقيقة أخرى، ولتكن الحقيقة الإسلامية مثلاً. بل بالعكس ان منتهى الرحمة الإلهية أن تكون الحقيقة مع آخر رسالة سماوية عهد بها سبحانه لآخر أنبيائه دون أن يكون هناك أدنى حيف أو غمط للأنبياء السابقين أو دياناتهم ان لم يكن العكس تماماً.
والجدير بالذكر، انّ الاختلافات الدينية، كما يوضحها القرآن الكريم، انما منشؤها الاثم، وتترشح من الكبر أو العناد أو عدم الاكتراث أو اللامبالاة في البحث الجاد عنها. كما ان بعض هذه الاختلافات والتناقضات تعبّر عن نفسها عبر نظريات متدافعة للصفات الإلهية أو للحرِّية الإنسانية أو لفكرة الخلاص، كما هو التناقض بين المعتزلة والأشاعرة حول مفهوم العدل الإلهي، أو عدم التوافق بين اللوثريين والكالفينيين حول حضور المسيح في القربان المقدس، أو بين الكاثوليك والبروتستانت حول مسألة التعميد وأمثال ذلك مما يمكن أن تتم المصالحة عليه بسماحة، إلا إذا كان منشؤه أهدافاً وأغراضاً هابطة خاصة، وهذا هو الاثم المتعمد الذي نقول ان من جرائه تأتي العقوبة الإلهية أحياناً في الأرض عبر الحروب والصراعات، وأخرى عقوبتها في الآخرة يوم يقوم الأفراد لرب العالمين، وكل يحمل طائره في عنقه ويوم ينادي المنادي (ألا لعنة الله على الظالمين) وليس في هذه العقوبة حيف مادام شعارها، كما يقول القرآن الكريم أيضاً: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) (الإسراء/ 14)، وحينها فكل إنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.

- توجيه لافت:
أمّا الاختلافات الجوهرية بين الأديان المختلفة مثل صلب المسيح أو عدم صلبه فإنّ الدكتور نصر يرى لذلك تخريجاً ضمن نسبية الحقيقة التي يروّج لها، كأن يقول انّ هذه القضية مثلها مثل الذي يستمع إلى قطعة موسيقية لـ باخ Bach فيفهمها كل من يستمع لها وفق قراءته الخاصة، وقد تأتي الافهام متباينة حسب الخلفية التي يكون عليها الفرد أو الأرضية التي يعتمدها، أو المجتمع الذي ينحدر منه.. ومثال آخر يمكن قوله عن الرعد الذي يُصوّر أنّه دوّى بقوة في مكان ما، ولكنه همهم بهدوء في مكان آخر، أي حسب المكان الذي سُمع فيه، وهذا أقرب إلى نظرية اينشتاين النسبية في شرحه للحركة والزمان والمكان وفقدان قيمة هذه الأبعاد الثلاثة في القراءات المتباينة لكل إنسان.
انّ الواقع الثيولوجي أو التفسير اللاهوتي لهذا الحدث المهم أو ذاك في مختلف الأديان لا يأتي مشوشاً أو متنافراً لحد القطيعة، فحينما يختلف المسيحيون والمسلمون – كما يرى الدكتور ليغنهاوزن – حول ما حدث في كالفري (أي مكان صلب السيد المسيح) حسب القراءة المسيحية للحدث – فإنّهم لا يقصدون انهم ببساطة يختلفون على قصص وحكايات رمزية في تعاليمهم الدينية الخاصة، وإنما لديهم وجهات نظر وأفكار متباينة حول حقيقة تاريخية بعينها وربما لا تتدافع أكثر من تدافع الحقيقة القائلة بأنّ الأفعال في اللغة الانكليزية عموماً تسبق المفعول به، فيما هي في اللغة الفارسية على العكس.

- اشكالية التناقضات العملية:
الشيء الأهم فعلاً في هذا التدافع هو التناقضات العملية بين الأديان، إذ يقوم دين معين مثلاً بتحريم أكل اللحم على أتباعه تحريماً مطلقاً فيما يطالب دين آخر أتباعه بتقديم اللحم كشعيرة دينية مقدسة في موسم مقدس. ويقوم دين بتحديد قبلة المصلي باتجاه جغرافي معين فيما لا يهتم دين آخر بتحديد اتجاه معين، وهذه أيضاً يمكن تدويرها لما يخدم التعددية بتفسير معيّن كأن يُقال مثلاُ فليحتفظ كلٍ بحقه في أكل اللحم أو رفضه أو أكل هذا النوع أو ترك ذاك وهكذا في مسألة القبلة إذ ان نفس الدين الذي يؤكد الاتجاه الجغرافي يقول في حقيقته: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (البقرة/ 115)، وتنديده بمن يحاول تعميق الاثارة وزرع الفتنة، فيقول: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ...) (البقرة/ 142)، وهذا يعني أن هناك شيئاً أهم من هذه الجزئية أو تلك، وان كانت هذه الجزئية قد جيء بها لترتيب أمر عملي يراد له أو يُفترض أن ينتظم لتمشية أعمال الناس وادارة أمورهم بشكل أفضل، وكان الله يحب المحسنين.

- بين السماحة والتسامح:
وهنا يمكن القول انّ التعددية الدينية لا تتأتى من قبول الآخر ومصالحته بأيّة طريقة كانت ووفق أي سبيل جاء، كما أنّ افتراض التسامح أيضاً لا يتأتى بالتنازل عن المعتقد لقبول الآخر أو تمرير ترضيته بأيّة طريقة.
وبكلمة أدق انّ الإسلام يفرق بين السماحة والتسامح إذ انّه يفترض التسامح مع المذاهب الأخرى ولكنه في الوقت نفسه يؤكد حرصه على طريقته الخاصة كما نزلت أو شُخصت من قبل الله تعالى. وهنا اثارة لافتة للدكتور ليغنهاوزن، يقول فيها:
"المؤلم فعلاً أنّ اليهود والمسيحيين والمسلمين كانوا وغالباً مازال بعضهم، غير متسامحين مع البعض الآخر، وان علاج هذا الداء ليس أن نتراجع ونزعم انه من غير المهم تحديد أي من المناهج نتّبع أو أي منها أجدر بالترويج والاتّباع، لأن جميع المذاهب منزّلة من السماء!! وبكلمة أخرى: انّ المسلمين لا يستطيعون أن يتقبلوا العلاج المقدم من قبل هيك وهو التسامح المبني على فكرة ان جميع الأديان انما هي مجرد استجابات إنسانية للمقدس. وحين يستشهد هيك بموضوع الحروب الدينية مثلاً كسبب لقبول أو طرح التعددية الدينية، فإن نصر يؤكد أن أغلب الحروب في القرن العشرين انما نشأت من العلمانية وأن أسباب أكثرها لم تكن بسبب الأيديولوجية الدينية، رغم اننا لا نستطيع انكار دور الاضطهاد الديني وماجرّه على البشرية من آلام وويلات... كما ليس صحيحاً، أو ليس كافياً الادعاء بأنّه ليس هناك سيادة دينية أو تفوّق مصادق عليه من قبل الله" ويضيف: "انّه ليس مناسباً للأسباب الثيولوجية المذكورة أن يكون الإسلام قد افترض بالتأكيد سيادته الخاصة، أي تفوقه على الأديان الأخرى ولكن لا من منطلق التأوّج أو الاستعلاء والفوقية أو تعالي هذه الهداية السماوية على الرسالات أو الأديان السابقة، وإنما من موقع احترامها وتقديرها واتمامها.. كما أنه ليس كافياً – والقول مازال للدكتور ليغنهاوزن – لإمكانية تحقيق التسامح الديني الحقيقي أن يتعلم البشر احترام معتقدات الآخرين الدينية الذين يعتبرونهم على خطأ، أي انّ المفتاح إلى التسامح ليس إزالة نسبة الاختلافات وحسب، وإنما الإرادة في قبول أو تلقّي تلك الاختلافات الأصيلة والواقعية بشفافية وسعة صدر. وبالنسبة للمسلمين، ان أي علاج مؤثر لاجتثاث الاضطهاد يمكن العثور عليه في الإسلام نفسه، وهذا يعني انّ العلاج هو الخضوع للإرادة الإلهية، وعلينا أن نتعلّم كيف نتذوّق أفضل ونتحدث أفضل، وكيف نحترم الآخرين من خلال احترام التسامح الممدوح من قبل الإسلام نفسه، إذا كنا نستحق فعلاً حمل شرف الدعوة للإسلام، أو جديرين بأن نُسمّي أنفسنا مسلمين"، باختصار شديد أن هناك مساحة معينة بين السماحة والتسامح يُفترض بكل صاحب رأي أن يحتفظ بها من أجل اقرار الأصحّ وتعميق الأفضل.

المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 105 لسنة 2000م

ارسال التعليق

Top