• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحسنة من الله والسيئة من العبد

د. محمد السيد الجليند

الحسنة من الله والسيئة من العبد
◄مهما يكن من شيء فالحسنة تنسب إلى الله تعالى سواء فسرناها بالعمل الصالح أو بالنعمة والرخاء، والسيئة تنسب إلى العبد لأنّها كانت بسببه ولما صح أنّه السبب في وقوعها وإحداثها صح نسبتها إليه كما في الآية الكريمة (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء/ 79) سواء كانت السيئة معصية أم كانت من قبيل المحن والمصائب فإنّ العبد هو السبب فيها وإذا كان الله قد قضاها وكتبها فليس في ذلك جبر ولا إلزام للعبد بها، وإنما هو تسجيل لما سيقع منه بناء على العلم السابق بما سيفعله العبد من أسباب تؤدي إليها.

والآية السابقة تقفنا على سؤال لابدّ منه وهو: إذا كانت الطاعة والمعصية أو النعم والمصائب مقدرة، فلماذا فرّق الله بينهما فأسند الحسنة إليه سبحانه، وأسند السيئة إلى نفس العبد مع أنّ الجميع بقضاء الله؟

هل لأنّ الإنسان هو السبب في نزول المصائب به أو لأنّه ارتكب المعصية باختياره فأسندت إليه؟ ولكن هل أثر الإنسان يعدّ سبباً تاماً في ذلك حتى تتوقف عليه النتيجة من جميع وجوهها؟

من المعلوم أنّ إحسان الله إلى عباده يقع منه سبحانه بلا سبب تقدم من العبد، بل يحسن الله إليهم ابتداء بالخلق والرزق والصحّة وتهيئة أسباب الهداية للعباد وينصبها لهم بلا سبب تقدم منهم، فالله سبحانه يبدأ علاقته بالعبد بالإحسان والفضل إليه وينتظر من العبد ما يقوم به إزاء هذه النعم، فلئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد، وللسيئة إذا وقعت من العبد فإنّها لا تكون إلّا لفراغ قلبه من معنى الحسنة، وإذا حصل ذلك من العبد فإنّ علاقته بربّه لا تكون في مرتبة الشكر على النعمة، بل تكون في مرتبة كفران النعمة ولكلّ مرتبة جزاؤها المناسب لها. وهناك فروق حاسمة في نسبة الحسنة إلى الله والسيئة إلى العبد.

أوّلاً: إنّ الحسنة إذا وقعت من العبد فالسبب الرئيسي فيها إنّ الله هداه إليها أوّلاً، ومنحه أسباب التعرّف عليها من العقل والشرع. فالله هو الذي خلق فسوى وقدر فهدى وألهم النفوس تقواها، كما قال أهل الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) (الأعراف/ 43) فجميع ما يتقلب فيه العبد هو من فضل الله وإحسانه إليه بدون سبب سابق يوجب للعبد حقّاً على الله. بخلاف السيئة، فإنّها لا تكون إلّا لذنب سبق من العبد وأوّل هذه الذنوب فراغ القلب من الاشتغال بالطاعة، وهذه من الأمور الدقيقة التي يجب التنبه إليها، وهي لا تكون إلّا من العبد وهي ذنب عدمي نتج عنه ذنب وجودي هو اشتغال القلب بالمعصية بعد فراغه من الاشتغال بالطاعة. وإذا تدّبر الإنسان ذلك علم أنّ ما به من نعمة فمن الله وما به من سيئة فمن نفسه فيشكر الله على النعمة ويستغفره على المعصية فيزيده الله هدى ويبدّل سيئاته حسنات. ويكون العبد في حياته متقلباً بين شكر الله على نعمائه واستغفاره من معاصيه. وهذه هي حياة المؤمن أن يحيا لله ويحب لله ويبغض لله.

والآية الكريمة إذا كانت جمعت بين الحسنة والسيئة في قوله (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) (النساء/ 78) فإنّ ذلك ليعلم المؤمن أنّ الكلّ لا يخرج عن قضاء الله الكوني. ولكنّه فرق بينهما حيث نسب السيئة إلى النفس لينبه إلى هذا الفرق الدقيق وهو أنّ السيئة لا تكون إلّا من نفس الإنسان ولسبب فراغها من معنى الهداية.

ثانياً: إنّ الحسنة يضاعفها الله للعبد إلى سبعمائة ضعف. ويثيب على الهم بها والعزم عليها بخلاف السيئة فلا يضاعفها ولا يعاقب على الهم بها ويمحوها بالتوبة وبالمصائب المكفرة وكما قال (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود/ 114) فكانت الحسنة أولى بأن تضاف إليه سبحانه والسيئة أولى أن تضاف إلى النفس.

ثالثاً: إنّ الحسنة لا يوجد وجه من وجوه تحققها في الخارج إلّا ويصح إضافته إلى الله تعالى، فهو محسن بها من كلّ وجه بخلاف السيئة فإنّها تقع من العبد والله كاره لها غير راضٍ عنها، كما أنّ النعمة إذا وقعت فهي من إحسان الله إلى العبد. أما المعصية فلا تكون إلّا لسب تقدم من العبد ويخلقها الله لحكمة. وهي باعتبار تلك الحكمة خير، وباعتبار سببها السابق من العبد عدل. وهذان الوجهان هما جهة تعلق القضاء بالسيئة أو المعصية والسيئة باعتبار هاتين الجهتين خير لا شرّ فيها. لأنّ تقدمها سببها الموجب لها من العبد فصارت لأجله عدلاً والعدل خير لا شرّ فيه. كما أنّ القضاء لا يتعلق بشيء إلّا لحكمة وتحقيق الحكمة خير لا شرّ فيه. وإذا كان فيها شر يصيب العبد فهو شر جزئي إضافي لا ينسب إلى الله وإنما ينسب إلى العلة الفاعلة، وهي نفس العبد. فهي التي أغوت بفعل المعصية وهي التي تتألم بعقابها، ومن هنا كان (ص) يقول في دعائه: «الخير بيديك والشر ليس إليك» والسيئة تضاف إلى النفس لأنّها قد فعلتها لا لحكمة ولا لغرض ينفع ولم يقصد العبد من فعل السيئة خيراً.

رابعاً: إنّ الحسنة التي يفعلها العبد أمر وجودي يصح إضافته إلى الله، وإتيان العبد لها يدل على معنى وجودي، قائم بالنفس وهو إيمانه بها وحبه لها واشتغال نفسه بطلبها لأنّ الحسنة فعل مأمور به، أو ترك محظور منهي عنه، وترك الإنسان للسيئات إنما حصل لمعرفته بأنّها سيئة وإنّها سبب البلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة فيقوم في نفسه معنى وجودي هو بغضه لها وكراهتها فتشتغل نفسه عنها. كما أنّ معرفته بالحسنات كالعدل والصدق وغير ذلك يكون أيضاً لأمور وجودية قائمة بالنفس هي حسب ذلك وطلبه الاشتغال به ولهذا فإنّ الإنسان يثاب على ترك السيئات إذا تركها كارهاً لها كافاً نفسه عنهم. هذا هو المعنى الوجودي الذي يثيب الله العبد عليه إذا قام بنفسه، أما مجرد ترك السيئات من غير معرفة بها ولا كراهة لها كأن لم يخطر على قلبه أنّها سيئة محظورة فلا يثاب على هذا الترك وإن كان يحمد على ذلك في الدنيا. وتكون السيئة في حقّه كالطفل الذي لم يقم في نفسه معنى وجودي يحمله على الكف عن القبائح، وكذلك فعل الحسنات. فإنّ المرء لا يثاب على فعلها إلّا إذا كان ذلك لمعنى وجودي قائم بالنفس يحمله على فعلها حباً فيها وطالباً لها وامتثالاً للأمر بها، أما لو فعلها بدون هذه القصود وتلك المعاني فإنّه لا يثاب عليها. وهذا يؤكد لنا دور النية وأهميتها في إحداث الفعل كما قال (ص): «إنما الأعمال بالنيات ولكلّ امرئ ما نوى» وهذا بالتالي يضع لنا الحد والفاصلة بين فعل العبد رياء وسمعة وبين فعله لله، فالله لا يثيب ولا يعاقب إلّا عن هذا المعنى الوجودي القائم بالنفس أما مجرد الفعل أو الترك بغير قيام هذه المعاني في النفس التي تدعو إلى الفعل أو الترك فهذا لا يثاب عليه ولا يعاقب.

والإنسان لا يفعل السيئة إلّا لجهله بعواقبها وطغيان عامل الشهوة والهوى على عامل الإيمان والهدى ولو قام في النفس العلم النافع بضرر السيئة ونفع الحسنة لقضت النفس بفعل الحسنة وترك السيئة فيكون كما قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28)، لأنّ العلم بعواقب الأمور هو الذي يحمل النفس على محبة الحسن وفعله وكراهة القبيح وتركه. لكن النفوس لما كانت حية متحركة ومتحولة فإنّ سعادتها تكون بتحركها نحو ما ينفع، فإذا اهتدت بهدي الله وعرفت الحقّ وتحركت نحوه فذلك هو المعنى الوجودي الذي تثاب عليه. ولكنّها إذا لم تهدِ ولم تعرف الحقّ فذلك أمر عدمي، هو فراغ النفس من معنى الهداية. وهذا الأمر العدمي لا ينسب إلى الله حتى يقال إنّ الله فاعل السيئة بالعبد أو جبره عليها. وإنما ينسب إلى النفس لإهمالها، وعدم اشتغالها بأسباب الهداية التي منحها الله لها. وهذا تولد عنه فعل السيئات كما سبق. ومن هنا صح نسبة السيئة إلى النفس من كلّ وجه.

خامساً: إنّ ما يجري به القضاء على العبد من الذنوب الوجودية كارتكاب الموبقات والفواحش. فإنّ ذلك يكون عقوبة للعبد على ترك الحسنات التي خلق لأجلها وفطر على محبتها، فلما لم يفعلها ـ وهو مخلوق لأجلها ـ عاقبه الله بأن زيّن له فعل السيئات فكان تسليط الشيطان عليه وتزيينه له فعل السيئات هو إلهام الله هذه النفوس فجورها. وكلّ هذا يرجع إلى عدم الاهتداء وهذا لا ينسب إلى الله حتى يقال إنّ الله فاعله بل هو مَن ظلم النفوس لأصحابها. وهذا الموقف يتضمن أمرين:

الأمر الأوّل: ظلم النفس صاحبها بعدم الاهتداء وفعل الحسنات. وهذا لا يصح نسبته إلى الله، لأنّ الله قدر فهدى.

الأمر الثاني: ظلم النفس (صاحبها بفعل السيئات) وهذا من فعل العبد باختياره، فلا ينسب إلى الله. ومَن تأمل آيات القرآن الكريم تبيّن له أنّ عامة ما يذكره الله في خلق المعصية أو الكفر يجعله عقاباً للعبد على ذنب تقدم، كما قال سبحانه: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (الصف/ 5) وأما مَن يخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى، وهذا ورد في القرآن كثيراً.

وإذا فهمت هذه القضية حقّ فهمها، فإنّها تبطل كلام الأشاعرة الذين يقولون إنّ الله يخلق الكفر والمعصية ويعاقب عليها لا لسبب ولا لحكمة.

سادساً: إنّ السيئة خبيثة لا تحل إلّا بالنفوس الخبيثة. والنفس الخبيثة لا يناسبها ولا يحل فيها إلّا العمل الخبيث.. والنفس لما أعرضت عن هدى ربها واشتغلت بفعل ما يكره كان خلق الطاعة فيها ـ بعد ما ضلت ـ وضع للشيء في غير موضعه اللائق به، وهذا ظلم، كما أنّ خلق السيئة في النفوس التي اهتدت وأذعنت وضع للشيء في غير موضعه وهو ظلم أيضاً.

فيجب أن ينزه الله عن هذا وذاك، فمن أراد أن يجعل الجاهل معلماً للناس إماماً لهم، وأن يجعل الجبان العاجز قائداً للجيوش إماماً فيهم، فقد وضع الأمور في غير موضعها اللائق بها، ويكون بذلك قد ظلم القائد والرعية معاً. وبهذه الفروق يتضح لنا أنّ الحسنة من الله والسيئة من النفس، وأنّه لا حجة فيها للمعتزلة ولا للأشاعرة على سواء.► 

ارسال التعليق

Top