• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التوافق الأسري مع أحداث الحياة

د. كمال إبراهيم مرسي

التوافق الأسري مع أحداث الحياة

◄- تعريف التوافق الأسري:

يأخذ علماء النفس التوافق الأسري بمعنيين نلخصهما في الآتي:

المعنى الأوّل: يجعل التوافق حالة "State" تظهر في تآلف أفراد الأسرة وتقاربهم، واجتماع كلمتهم، وارتباطهم معاً بروابط المودّة والمحبّة والرحمة، ويقابلها عدم التوافق، الذي يظهر في عدم التآلف والاختلاف والتنافر وعدم اجتماع الكلمة حول أمور الأسرة، وعدم الرضا عنها. ويقال التوافق الأسري في مقابل عدم التوافق الأسري.

أمّا المعنى الثاني: فيجعل التوافق، عملية ""Process يتم فيها إنجاز أعمال، وتحقيق أهداف، وإشباع حاجات، ومواجهة مشكلات، وتحمّل ضغوط، واحتواء أزمات في الأسرة، وينقسم إلى: توافق أسري حسن Family Well-Adjustment عندما تكون سلوكيات أفراد الأسرة وأهدافهم مُرْضية لهم نفسياً ومقبولة اجتماعياً في مواجهة ما يحدث في الأسرة من أحداث يومية أو أحداث طارئة، وتوافق أسري سيِّئ Family Mal-adjustment عندما تكون السلوكيات والأهداف غير مُرْضية نفسياً وغير مقبولة اجتماعياً.

تنقسم أحداث الحياة الأسرية إلى ثلاثة أقسام:

أ‌) أحداث عادية: وهي أحداث يومية شائعة تحدث في الأُسر جميعها تقريباً.

ب‌) أحداث سراء: وهي أحداث تقع لبعض الأُسر، فيها نجاح وتوفيق من الله في تحقيق الأهداف، وإشباع الحاجات الأساسية، وحصول المكاسب، والشفاء من الأمراض الخطيرة، والنجاة من الحوادث المميتة، وغيرها من الأحداث السارة التي تجعل الأسرة سعيدة بما يحدث لها.

ج‌) أحداث ضراء: وهي أحداث فيها ضغوط غير عادية، وتقع خارج نطاق الخبرة الإنسانية العادية، أو لا يتحمّلها الناس العاديون، وتسبّب الضيق والتوتر والإرهاق لأفراد الأسرة، فيها فشل وحرمان وخسارة، ومرض وموت وهجر وطلاق وإدمان وسجن أحد الأفراد الأسرة وغيرها من الأحداث، التي تجعل الأسرة في أزمة لما يحدث لها أو لبعض أفرادها. ونتناول فيما يلي التوافق الأسري مع هذه الأحداث في الحياة الأسرية.

- التوافق الأسري مع الأحداث العادية:

التوافق الأسري مع الأحداث العادية اليومية توافق سهل، ليس فيه صعوبات ولا ضغوط، أو فيه صعوبات بسيطة يمكن التغلّب عليها، أو فيه ضغوط خفيفة يمكن تحمّلها ومواجهتها بشيء من الجهد والخبرة. والأحداث العادية أحداث في نطاق الخبرة الإنسانية العادية، شائعة الحدوث في المجتمع، وتدركها معظم الأُسر "أحداثاً عادية"، لا تنفعل بها كثيراً، وتستجيب لها بردود أفعال تعوَّد الناس عليها وألفوها، حتى أصبحت جزءاً من عاداتهم الشخصية وتقاليدهم الاجتماعية، التي يحرص كلّ مجتمع على تعليمها لأبنائه من خلال عمليات التنشئة الاجتماعية في الأسرة والمدرسة والمجتمع. فكلّ مجتمع يعلم أبناءه كيف يتعاملون مع الأحداث العادية، وفق عاداته وتقاليده ومعتقداته بسلوكيات مناسبة للموقف والسن والجنس والأعراف السائدة في المجتمع.

ومع هذا قد تدرك بعض الأُسر هذه الأحداث "أحداثاً غير عادية" فتتأزم منها، وتستجيب لها بردود أفعال وكأنّها أحداث ضراء أو مصائب، فيسوء توافقها، وتضطرب العلاقات فيها. فمثلاً عندما يصاب أحد أفراد الأسرة "بنزلة برد" وهذا أمر يحدث في الأُسر جميعها، وتدركه معظم الأُسر "حادثاً عادياً"، ويذهب الأهل بالمريض إلى المستشفى، ولا ينزعجون بالمرض، في حين تدركه أُسر أخرى "حادثاً غير عادي" لا سيما إذا كان المريض، "الطفل الوحيد" أو "الولد على مجموعة بنات"، وينزعج الأهل بالمرض وتضطرب العلاقات في الأسرة حتى يتم شفاء المريض.

وقد يعود الزوج إلى البيت ولا يجد زوجته، وهذا أمر يحدث في الأُسر جميعها، وتدركه معظم الأُسر "حادثاً عادياً"، ويتفاهم الزوجان حوله، ولا يغضب الزوج من خروج الزوجة، ولا تضيق الزوجة من سؤال الزوج لها أين كنت؟. لكن في بعض الأُسر قد يثور الزوج لخروج الزوجة دون إذنه، وتنفعل الزوجة من سؤال الزوج واستجوابه لها، ويدبّ الخلاف بينهما، وتضطرب العلاقة الزواجية، ويسوء التوافق الأسري، وتمتد الخلافات بين الزوجين إلى العلاقة بالأبناء وبالأهل والجيران. وهكذا تتحوّل بعض الأحداث العادية في بعض الأُسر إلى أحداث ضراء أو مصاعب ونكبات، بسبب الخلل في إدراك أفراد الأسرة لها، وتفاعلهم السلبي معها، وردود أفعالهم السيِّئة نحوها، والتي قد تجعل توافقهم الأسري سيئاً.

- التوافق الأسري مع أحداث السراء:

يختلف التوافق الأسري في السراء من أسرة إلى أخرى، ومن فرد إلى آخر في الأسرة الواحدة، وفق ظروف كلّ منهم ومعتقداته وشخصيته وخبراته. فالبعض يبالغ في الفرح، وفي التعبير عنه، والتفاخر به، فيخرج عن الفرح المباح ويتوافق توافقاً سيِّئاً في السراء، ويعمل أعمالاً لا يقرها الشرع ولا القانون. والبعض الآخر يفرح بالخير الذي حصل عليه، ويشكر الله صاحب الفضل، ويعبّر عن فرحه في حدود المباح شرعاً، ولا يتعدّى حدود الله في السراء ولا في الضراء، يتوافق توافقاً حسناً مع هذه الأحداث.

فزواج الابن أو الابنة حادث سعيد، قد تبالغ بعض الأُسر في فرحها به، وتنفق الأموال الكثيرة على الحفلات والزينات من أجل التفاخر، أو تقليد الأُسر الأخرى، فيتحوّل حادث السراء إلى حادث ضراء بسبب ما يحدث في هذه الحفلات من تجاوزات للأخلاق والعادات والقيم والدين، أو بسبب خلافات أهل العروسين على تكاليف الفرح.

ويحدّثنا الواقع عن أحداث سراء تحوّلت بسبب الفرح الشديد بها إلى أحداث ضراء وكوارث، لا سيما عند أصحاب القلوب المريضة، الذين يعانون من ارتفاع ضغط الدم وانسداد الشرايين، والذين قد يموتون بالسكتة القلبية بسبب شدّة الانفعال بهذه الأحداث السارة.

وبشكل عام فإنّ التوافق الأسري في السراء سهل ليس فيه مشكلات لأُسر كثيرة، تعرف كيف تفرح، وتشكر ربّها على نعمة التوفيق، فيكون خيراً بها، وتجد التهنئة والمساندة الاجتماعية من الأهل والأصدقاء والجيران، فيزداد فرحهم وسعادتهم بما يحدث لهم، ولا يخرجون على المألوف في الشرع والعُرف في التعبير عن الفرح، فيكون توافقهم الأسري حسناً، فيه شكر لله، الذي يزيدهم فرحاً وسروراً بشكر النعمة، فهو القائل: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم/ 7)، فالشكر في السراء يزيد الفرح والسرور والاستمتاع بالنعمة.

- التوافق الأسري مع أحداث الأزمات:

لا تخلو أيّة أسرة من أزمات، تضطرب فيها حياتها، وتتوتر علاقات أفرادها، وتتأزم أمورهم، ويغدو توافقهم الأسري صعباً، يحتاج إلى الصبر والمثابرة، وإلى المساندة والمساعدة من الأهل والجيران والأصدقاء إلى أن تمرّ الأزمة وينتهي التأزم، وتستقر الأسرة.

ويقصد بالأزمة في الأسرة (Family Crisis) وجود حادث ضاغط (Stress Event) يصبيها في وجودها أو مالها، أو يصيب أحد أفرادها في نفسه أو ماله أو عرضه أو دينه أو عقله، أو يعرّضه للحرمان من شيء أو شخص عزيز عليه، أو يمنعه من تحقيق هدف أساسي في حياته.

أمّا التأزم فيقصد به انفعال أفراد الأسرة مجتمعين أو منفردين بالحادث الضاغط وفق إدراكهم وتفسيرهم له، وتقويمهم لإمكاناتهم وقدراتهم على التعامل معه، وردود أفعالهم في مواجهة الحادث. فالأزمة تختلف عن التأزم، لأنّ الأزمة هي الحادث الضاغط أو المشكلة أو الكارثة التي تحدث في الأسرة. أمّا التأزم فهو الإحساس بالحادث أو المشكلة والانفعال بها، وهذا الإحساس مسألة نسبية، تختلف من أسرة إلى أخرى، وتختلف في الأسرة الواحدة من فرد إلى آخر، وفق ما يدركه كلّ منهما في المشكلة أو في الحادث الضاغط من تهديد، وانفعاله به، وردود أفعاله له. فقد تدرك أسرة في حادث تهديداً خطيراً لها، وتتأزم منه بدرجة كبيرة، في حين تدركه أسرة أخرى غير ذلك، ولا تتأزم منه، أو تتأزم منه بدرجة بسيطة. وقد يدرك أحد أفراد الأسرة في هذا الحدث تهديداً كبيراً له ولأسرته، ويتأزم منه بدرجة كبيرة، في حين يدركه غيره في الأسرة نفسها غير ذلك فلا يتأزم منه، أو يتأزم تأزماً محتملاً، ولا تظهر عليه اضطرابات التأزم الحاد (Acute Stress Disorder).

- نموذج "هَلْ" في تفسير التأزم الأسري:

ويقدم "هَلْ"نموذجاً للتأزم الأسري (Model of The Family Stress) يحلل فيه عملية التأزم ويفسّرها، ويبيّن عواملها الداخلية والخارجية، وقد قام على هذا النموذج إستراتيجيات عديدة في الإرشاد والعلاج الأسري والزواجي ويعرف نموذج هَلْ "ABC – X" حيث (A) الحادث الضاغط (أو المشكلة)، و(B) إدراك الأسرة للحادث الضاغط وطريقتها في التعامل معه و(C) قدرة أفراد الأسرة على مواجهة المشكلة وتعاونهم في ذلك، (X) مستوى التأزم في الأسرة أي إحساس أفراد الأسرة بالمشكلة وانفعالهم بها.

ووفق هذا النموذج فإنّ التأزم في الأسرة ليس بسبب الحادث الضاغط أو المشكلة التي حدثت فقط، ولكن بسبب تفاعل أفراد الأسرة مع الحادث، وإدراكهم لما فيه من تهديد، وما يجدونه في أنفسهم من قدرة على التعامل معه، ومواجهة نتائجه أو التعايش معه. وتتلخّص عناصر هذا النموذج في الآتي:

أ‌) الأحداث الضاغطة  (A):

وهي أحداث قوية وشديدة، تتعرّض لها الأسرة وتسبّب لها الضيق والإرهاق والعنت والمشقّة بدرجة تجعلها خارج نطاق خبرة الإنسان العادي أي لا يستطيع تحمّلها الإنسان العادي، وتتضمّن تهديداً للأسرة أو لأحد أفرادها في النفس والعرض والممتلكات. من هذه الأحداث موت أو مرض أحد أفراد الأسرة، وولادة طفل معاق، وعقم أحد الزوجين، والتعثّر الدراسي لأحد الأبناء، والفصل من العمل، والإفلاس، والحوادث والإصابات، والإدمان، والخلافات الزوجية، والطلاق، ومروق أحد الأبناء، والانحرافات السلوكية، وزواج ربّ الأسرة على زوجته، وتعرّض أحد أفراد الأسرة للحرمان أو الإساءة من الآخرين، وغير ذلك من الأحداث الضاغطة على أفراد الأسرة، وتؤدِّي إلى اضطرابهم وتأزمهم.

ب‌) إدراك الأسرة للحادث الضاغط وتفسيره والانفعال به  (B):

وهي عمليات عقلية وجدانية، أو معرفية مزاجية، تتضمّن فَهْم أفراد الأسرة للحادث، واستيعابهم لأسبابه وظروف حدوثه، وتقديراتهم لآثاره عليهم، وانفعالهم بها. فأفراد الأسرة لا يتأزمون بالحادث الضاغط كما هو في الواقع، ولكن وفق ما يفهمونه، منه ويستوعبونه من نتائجه وآثاره. وإدراك الأسرة للحادث عملية عقلية ونفسية تختلف من أسرة إلى أخرى، ومن فرد إلى آخر في الأسرة الواحدة. فالأسرة التي تدرك أنّ الحادث وآثاره السيِّئة كثيرة تنفعل به، وتتأزم منه بدرجة أكبر من الأسرة التي تدركه غير ذلك.

ج) قدرة أفراد الأسرة مجتمعة أو منفردة على مواجهة الحادث الضاغط  (C):

وتتضمّن خبرة أفراد الأسرة بإدارة الأزمات، وقدراتهم على تحمّل الضغوط وأسلوبهم في مواجهتها، وما لديهم من إيمان بالله وبقضائه وقدره، وعلاقاتهم الاجتماعية ببعضهم البعض قبل الأزمة، وما يجدونه من مواساة ومساندة معنوية ومادّية من الأهل والأصدقاء والجيران ومن المجتمع.

وتوجد القدرة على مواجهة الأزمة بدرجات مختلفة عند الأُسر جميعها، ونتوقّع في ضوء "منحني التوزيع الاعتدالي" وجود هذه القدرة عند قلة من الأُسر (حوالي 16% من الأُسر) بدرجة عالية، وعند قلة أخرى (حوالي 16% من الأُسر) بدرجة منخفضة، وعند كثير من الأُسر (حوالي 68%) بدرجة متوسطة أو حول الوسط، ممّا يعني أنّ قلة من الأُسر تستطيع مواجهة الضغوط الأسرية بكفاءة عالية، وقلة أخرى لا تقوى على ذلك وتتأزم كثيراً بالمشكلة، وتصيبها الصدمة، أمّا أكثرية الأُسر فبين هذا وذاك، أحياناً تقدر على المواجهة فلا تتأزم كثيراً، وأحياناً أخرى لا تقدر وتتأزم كثيراً.

د) التأزم في الموقف  (X):

ويقصد به الإحساس بالأزمة، أي إحساس أفراد الأسرة بالألم النفسي من الحادث الضاغط، والذي يضم مجموعة من المشاعر المزعجة والمرهقة لأفراد الأسرة، الذين يكابدون المشكلة أو الأزمة، وينفعلون بها.

- أنواع مشاعر التأزم:

وتتنوّع مشاعر التأزم بالمشكلة وتتداخل، ويصعب الفصل بينها، ويمكن أن نصنفها من أجل الدراسة في ثلاثة أقسام رئيسة هي:

1- مشاعر الحزن والاكتئاب: وتضم مشاعر الغم والكدر والهم واليأس والقنوط والعجز والدونية والذنب والحسرة، وغيرها من المشاعر التي قد تُفضي إلى الاكتئاب النفسي أو الذهاني وقد تنتهي بالانتحار.

2- مشاعر الخوف والقلق: وتضم مشاعر الهم والشك والتوجس، والتهديد والفزع والرعب والهلع والجزع وغيرها من المشاعر، التي قد تُفضي إلى الاضطرابات النفسية والأمراض السيكوسوماتية، أو تؤدِّي إلى الاضطراب العقلي.

3- مشاعر الغضب والحقد: وتضم مشاعر الحنق والغيظ والضيق والقهر والظلم والكراهية وغيرها من المشاعر، التي قد تدفع إلى الانتقام والعدوان والعنف الأسري.

ويتحدّد مقدار التأزم (شديد أو متوسط أو خفيف). وشكله (خوف وقلق أو حزن واكتئاب أو غضب وعدوان) وفق تفاعل أفراد الأسرة مجتمعين أو منفردين مع المشكلة، وفهمهم لها وقدراتهم على مواجهتها. فبعض الأُسر تتأزم بشدة، وأخرى تتأزم بدرجة متوسطة، وغيرها تتأزم بدرجة بسيطة. ويغلب على مشاعر بعض الأسر في التأزم مشاعر الحزن والاكتئاب، ويغلب على مشاعر أُسر أخرى مشاعر الخوف والقلق، ويغلب على مشاعر أُسر غيرها مشاعر الغضب والعدوان.►

 

المصدر: كتاب الأسرة والتوافق الأسري

ارسال التعليق

Top