• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

قول المرأة.. الكيفية والمضمون

السيد مالك السماوي

قول المرأة.. الكيفية والمضمون

  إنّ القرآن الكريم أرادَ للمرأة أن تقوم بدورها وبوظيفتها في المجتمع، بكلِّ فاعلية وحركية وابداع، وهو لا يسمح لأحد أن يقف حجر عثرةٍ في طريق سيرها وحركتها.. أو أن يمنعها من أداء رسالتها في الحياة.

وحتى تعيش المرأة في المجتمع الجدية في الحركة، والحرية في القيام بواجباتها ومسؤولياتها.. لابدّ للقرآن من أن يضع الضوابط التي من شأنها أن تحافظ على شخصيتها وفاعليتها وجديتها.. باعتبار أنّ الساحة الاجتماعية كثيراً ما تفرضُ على المرأة أن تتحرك في وسط الرجال.. في الشارع والسوق والمدرسة والجامعة.. إلخ. فلابدّ من أن تتحرك المرأة – والحالة هذه – بإنسانيتها لا بأنوثتها، حتى لا ينظر إليها من منظار ارواء الغرائز، واشباع الشهوات، مما يسبب لها الكثير من المضايقات.. ولا ترضى المرأة السوية أن تتحرك في المجتمع كأداةٍ للإثارة.. لينظر إليها كأنثى لا كإنسان. ويخطىء مَن يظن أنّ هذه الضوابط هي من أجل تحجيم دور المرأة في المجتمع، وشلِّ حركتها في الحياة، وتكبيل طاقاتها من الانطلاق.. إننا نَسْمَعُ كثيراً بحوادث الاختطاف والاعتداء على النساء في الغرب، حتى غدت هذه الحوادث ظاهرة بارزة في تلك المجتمعات، رغم أنّها تعيش الإباحية في علاقة الرجل بالمرأة، وقد صدرت قوانين وعقوبات للحد من ظاهرة الاغتصاب والتحرشات التي تتعرض لها الفتيات! ولهذا ينبغي أن نفرق بين الضوابط والقوانين لتنظيم الحياة وبين المعوقات. وسنستعرض في هذا المقال الضوابط التي وضعها القرآن الكريم في حديث المرأة وخطابها مع الرجال الأجانب.   - ضابطان أساسيان: لقد حدد القرآن الكريم ضابطين أساسيين ينبغي أن توفّرهما في خطابها: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا) (الأحزاب/ 32). الضابط الأوّل: عدم الخضوع بالقول (ضابط كيفي). الضابط الثاني: القول المعروف (ضابط مضموني). ولابدّ من الإشارة إلى أنّ هذه الآية وإن كانت خطاباً لنساء النبي (ص)، إلا أنّها تشكّل خطاباً عاماً لنساء النبي (ص)، إلا أنها تشكّل خطاباً عاماً للنساء المسلمات جميعاً، وان نساء النبي (ص) ينبغي أن يكنَّ الأكثر التزاماً من غيرهنّ من النساء باعتبار مكانتهنّ من القيادة الإسلامية، وما يستتبع ذلك من دور خطير وكبير. فيجب عليهنّ أن يكن بمستوى المسؤولية في سلوكهنّ: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ)، هذه هي طبيعة القيادة في الإسلام، فإنها لا تعني الامتيازات.. بل تعني مُضاعفة التكليف والقيام بأعباء الأسوة والقدوة.. ولهذا فإنّ الخطاب القرآني يمثل تشريعاً عاماً للنساء المسلمات: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا). ويجدر بنا هنا أن نقف على تفاصيل هذين الضابطين لمعرفة أبعادهما: فما معنى الخضوع بالقول في الآية المباركة؟ يقول صاحب تفسير الميزان: "هو ترقيق الكلام وتليينه مَع الرجال، بحيث يدعو إلى الريبة، ويثير الشهوة". ويقول صاحب تفسير مجمع البيان: "لا تُرقِفْنَ القول ولا تُلِن الكلام للرجال، ولا تُخاطبنَ الأجانب مخاطبة تؤدي إلى طمعهم، كما تفعل المرأة التي تُظهر الرغبة في الرجال". فالخضوع بالقول إذاً هو طريقةٌ معيّنة، وكيفيّة خاصة، في حديث المرأة، فيها نوعٌ من الترقيق والتليين، بحيث تبدو لضعفاء الإيمان من الرجال والذين في قلوبهم مرض، وكأنّها تدعوهم إلى نفسها، فيحاولون أن يتعاملوا معها على هذا الأساس. إنّ كثيراً من النساء اللواتي لم يكنّ ملتفتات إلى ضابط الكيفية والطريقة في الحديث والكلام، يتعرضن لإزعاجات مرضى القلوب الذين يتعاملون مع المرأة كأنثى، وأداة إثارة الغرائز، وليست كإنسانة لها دورها ومكانتها وشخصيتها في المجتمع. فهؤلاء يوحون إلى نفوسهم المريضة بأنّ هذا الترقيق ما هو إلا إشارة خجولة، ودعوة حيّيّة، ولكنها – على أية حال – عملية وخفية! فيبدأون من خلال تأويلاتهم المريضة إثارة بعض الأمور التي تسيء إلى المرأة قد لا تكون مُنتبهة إلى ما ذهب إليه هؤلاء من تأويلات وتفسيرات! ولهذا لم تكتف الآية المباركة بالنهي عن الخضوع بالقول، وإنما أعطت السبب الذي من أجله جاء هذا الخطاب بالنهي، لتُبيّن أنّه لم يأتِ رغبةً في تحجيم فاعلية المرأة، وتثبيط حركتها في المجتمع، وشلِّ دورها، وإنما جاء من أجل مصلحتها هي أوّلاً وقبل كل شيء، لتقوم بدورها ووظيفتها بصورة أكثر فاعلية، بعيداً عن العوائق والمنغّصات (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ). وذكرُ التعليل لكثير من الأحكام ظاهرةٌ قرآنية نجدها في الكثير من التشريعات، لأن ذلك يساهم في التبصّر بأهداف ومقاصد التشريع، مما يهيء النفوس في التعامل معه بحرص وفاعلية. في آية الجلابيب نجدُ أنّ الآية المباركة ذكرت التعليل بقوله: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) (الأحزاب/ 59).. فالحجاب لم يأتِ هو كذلك لكي يحجم المرأة ويعرقل حركتها ويمنعها من الانطلاق.. بل على العكس من ذلك ليجعلها تعمل وتتحرك وهي تتمتعُ باحترام الآخرين وتقديرهم، لما يبدو من ظاهرها أنّها إنسانةٌ صالحة ترفضُ أن يُتعامل معها كأداةٍ للإثارة، ومعرضٍ للمفاتن والزينة. إنّ التصريح بالتعليل بعد ذكر النهي أو الأمر التشريعي، يوضح وبجلاء أنّ هذه التشريعات لم تأتِ بصورة اعتباطيّة، وإنما تحملُ من المصالح والأهداف الكبيرة ما يعود نفعها وإيجابياتها لصالح المكلّف، وإن أحسّ بمسؤوليتها وثقلها وتكليفها.. وهكذا جاء التعليل في قوله تعالى: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ)، ليضعنا أمام النتيجة السيِّئة التي سنحصل عليها فيما إذا لم نلتزم بهذا الضابط القرآني.. الذي بدونه لا يمكن أن تعيش المرأة في المجتمع بكامل شخصيتها وكرامتها.. ولا يتحقق الاحترام المتبادلُ بين قبيل النساء وقبيل الرجال.. فما أكثر مرضى القلوب الذين يؤوّلون الإشارات وتُثير غرائزهم الأصوات! الضابط الثاني: القول المعروف: أمّا الضابط الثاني الذي حددتهُ الآية المباركة فيتعلقُ بالمحتوى والمضمون للحديث والقول: (وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا)، فما هي مواصفات القول بالمعروف وما هي أبعاده؟ يقول صاحب تفسير "الميزان": في قوله تعالى (وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا)، "أي كلاماً مستقيماً يعرفُهُ الشرع والعُرف الإسلامي، وهو القول الذي لا يُشير بلحنه إلى أكثر من مدلوله، مُعرّىً عن الإيماء إلى فسادٍ وريبة". ويقول صاحب "مجمع البحرين": "مستقيماً جميلاً بريئاً من التهمة، بعيداً من الريبة، موافقاً للدين والإسلام". ويقول صاحب "في ظلال القرآن": "نهاهنّ من قبلُ عن النبرة اللّينة، واللهجة الخاضعة، وأمرهنَّ في هذه أن يكون حديثهنّ في أمور معروفة غير منكرة، فإن موضوع الحديث قد يُطمع فيه مثل لهجة الحديث. فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحنٌ ولا إيماء، ولا هذرٌ ولا هزل، ولا دُعابة ولا مزاح، كي لا يكون مدخلاً إلى شيء آخر وراءَه من قريب أم من بعيد". ويظهر من أقوال المفسرين وسياق الآية أنّ القول المعروف الذي أمرت به الآية المباركة (وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا)، يتعلق بمحتوى الكلام ومضمونه، بحيث يقتصر على أمور معروفة متداولة، بحسب طبيعة الأشياء، خالياً من أيِّ إضافات وتعبيرات موحية مثيرة. ولهذا فإنّ حديث المزاح والدعابة ليس من القول المعروف، وإنّ استعمال الكلمات الموحية والمثيرة ليس من القول المعروف، وإنّ الكلام الذي يدور حول موضوع مثير وحساس ليس من القول المعروف..   - وماذا يقول الفقهاء؟ كان حديثنا يدور حول التفسير للآية المباركة، وما هي إيحاءات التعابير القرآنية فيها.. إلا أنّه من الجميل أن نقف على ما استفادهُ الفقهاء من هذه الآية الباركة وغيرها من الأحاديث والروايات.. بخصوص صوت المرأة وحديثها مع الرجال الأجانب عنها. يقول صاحب "العروة الوثقى": "لا بأس بسماع صوت الأجنبية ما لم يكن تلذُّذ ولا ريبة، من غير فرق بين الأعمى والبصير، وإن كان الأحوط الترك في غير مقام الضرورة، ويحرم عليها اسماعُ الصوت الذي فيه تهييج للسامع مع تحسينه وترقيقه. قال تعالى: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ)". ويقول مرتضى المطهري في كتابه مسألة الحجاب: "إنّ مسألة جواز استماع صوت المرأة من بديهيات الفقه، ودليلها السيرة القطعية بين المسلمين، وخصوصاً السيرة التي تثبت تاريخياً أنّها كانت قائمة في حياة الرسول (ص) والأئمة الأطهار – عليهم السلام –. مُضافاً إلى أنّ مفهوم الآية (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ...) هو جواز التحدث دون خضوع وغُنج في القول. فتكون الآية نفسها دليلاً على جواز سُماع صوت الأجنبية". ويضيف المطهري قائلاً: "وتفرّد الشهيد الأوّل من بين الفقهاء بالقول في اللمعة الدمشقية: "يحرمُ سَماع صوت الأجنبية" وقد احتمل بعضُ الفقهاء المعاصرين وقوع خطأ في النسخ، فلعله قال: "ولا يحرم".   - نموذج تطبيقي: إنّ أروع مصداق للقول المعروف للمرأة الصالحة، هو كلام الفتاتين المؤمنتين اللتين بادَر موسى (ع) لمساعدتهما عندما رآهما تذودان عن أغنامهما حتى لا تختلط مع غنم القوم.. فبادرهما (ع) بالسؤال: (مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (القصص/ 23)، كلامٌ مختصرٌ مفيد، متّسِمٌ بالجدِّ، متدفقٌ بالحياء.. (لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ)، ولربما يقول قائل كان يكفي أن تقولا ذلك.. فلماذا أطالتا الحديث مع ذلك الرجل الغريب، بقولهما (أَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ). إنّ قولهما هذا ليس من باب الزيادة وحبِّ الحديث.. وإنما جاءتا به لتُبررا خروجهما إلى سقي الأغنام، لتقولا بأنّهما لم تأتيا إلى هذا المكان المزدحم بالرجال طوع إرادتهما، وحبّاً بالخروج، وإنما خرجتا اضطراراً، ذلك لأن أباهما ليس شيخاً فحسب، بل هو شيخٌ كبيرٌ طاعن في السن بحيث لا يطيقُ الخروج.. ولهذا فَهِمَ موسى (ع) قولهما جيِّداً، وقرأ العفّة والحياء، فبادر فوراً بمساعدتهما (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) (القصص/ 24). ونقرأ أيضاً في قول إحداهما التي جاءته وهي (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) (القصص/ 25)، قائلة له: (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) (القصص/ 25)، نقرأ في قولها هذا العفاف والحياء بأروع صورهما.. كلامٌ مختصرٌ مفيد، خالٍ من أيِّ كلمةٍ مثيرة.. إنها تنقل دعوة أبيها فحسب، ولهذا فإنّها قدمت (إن أبي) قبل أن تبدأ بالدعوة.. بقولها (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا)، ثمّ سكتت.. إنّها نموذجٌ رائع للمرأة الصالحة التي يصفها القرآن الكريم بأروع وصف وأبلغه: (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)، فهي لا تمشي بحياء فحسب بل (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)!.   المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 39 و40 لسنة 1993م

ارسال التعليق

Top