• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

قصة يوسف (ع).. أمل وأنس وتطمين

أحمد فائز الحُمصي

قصة يوسف (ع).. أمل وأنس وتطمين

إنّ هذا القرآن الذي يقصّ أحسن القصص هو كتاب الله الذي لا يدخله شكٌّ ولا تحوم حوله ريبة (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة/ 2).

وما أشد حاجة المسلمين لمطالعة قَصَص القرآن.. زاداً لقلوبهم، وغذاءً لأرواحهم، وترسيخاً لعقيدتهم، وشدة في المطالبة بحقهم.

ومن أوّل مبادئ المُسلم فَهم رسالة الإسلام، وإيمانه بدعوته ومعرفته بها، وإحاطته بجميع أطرافها حتى تمتلك عليه جميع مشاعره، فيحيا لنشرها، ويعمل لتطبيق تعاليمها وسيادة نظمها في العالم.

والقرآن هو رسالة الإسلام لا يزال نابضاً حيّاً، كلّ آية فيه طاقة تُشرف منها على عالم رَحب من الكفاح والبلاء.

وفي ظلال القرآن يتعلم المؤمن أنّه لا مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء، ولا لِلَّفْتة العارضة: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر/ 49)، (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان/ 2)، وكلّ أمر لحكمة. ولكن حكمة الغيب العميقة قد لا تتكشف للنظرة الإنسانية القصيرة: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء/ 19)، (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 216).

والأسباب التي تعارف عليها الناس قد تَتْبعها آثارها وقد لا تتبعها، والمقدمات التي يراها الناس حتمية قد تعقبها نتائجها وقد لا تعقبها. ذلك أنّه ليست الأسباب والمقدمات هي التي تنشىء الآثار والنتائج، وإنّما هي الإرادة الطليقة التي تنشىء الآثار والنتائج كما تنشىء الأسباب والمقدمات سواء: (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) (الطلاق/ 1)، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (الإنسان/ 30).

والمؤمن يأخذ بالأسباب لأنّه مأمور بالأخذ بها، والله هو الذي يقدِّر آثارها ونتائجها.. والاطمئنان إلى رحمة الله وعَدله وإلى حكمته وعلمه هو وحده الملاذ الأمين.

وقد نزلت سورة يوسف بعد سورة هود، في تلك الفترة الحَرِجة في تاريخ الدعوة وفي حياة الرسول (ص) والعصبة المسلمة معه في مكة. وهي من أحرج الفترات وأشدها في تاريخ الدعوة بمكة. فقد سبقها موت أبي طالب عمّ النبيّ (ص) وموت زوجه خديجة؛ وجرأة المشركين على ما لم يكونوا ليجرؤوا عليه في حياة أبي طالب – وخاصة بعد حادث الإسراء وغرابته، واستهزاء المشركين به، وارتداد بعض من كان أسلموا قبله – مع وحشة رسول الله (ص) – بعد خديجة (رض) في الوقت الذي تجرأت فيه قريش عليه وعلى دعوته، وبلغت الحرب المُعلنة عليه وعلى دعوته أقسى وأقصى مداها، وتجمدت حركة الدعوة حتى ما كاد يدخل في الإسلام أحد من مكة.. وذلك قبيل أن يفتح الله على رسوله وعلى القِلّة المسلمة معه بيعة العقبة الأولى والثانية التي جعل الله فيهما لرسول الله (ص) وللعصبة المسلمة معه وللدعوة الإسلامية فَرَجاً ومخرجاً بالهجرة إلى المدينة..

وسورة يوسف كلها لحمة واحدة عليها الطابع المكي واضحاً في موضوعها وفي جوها وفي ظلالها وفي إيحاءاتها. بل إنّ عليها طابع هذه الفترة الحَرِجة الموحشة بصفة خاصة.. ففي الوقت الذي كان رسول الله (ص) يعاني من الوحشة والغربة والانقطاع في جاهلية قريش – منذ عام الحزن – وتُعاني معه الجماعة المسلمة هذه الشدة، كان الله – سبحانه – يقصُّ على نبيِّه الكريم قصة أخ له كريم – يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم – عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين – وهو يعاني صنوفاً من المِحَن والابتلاءات: محنة كيد الإخوة. ومحنة الجبّ والخوف والترويع فيه. ومحنة الرقّ وهو ينتقل كالسلعة من يد إلى يد على غير إرادة منه، ولا حماية ولا رعاية من أبويه ولا من أهله. ومحنة كيد امرأة العزيز والنسوة، وقبلها ابتلاء الإغراء والشهوة والفتنة! ومحنة السجن بعد رَغَد العيش وطراوته في قصر العزيز. ثمّ محنة الرخاء والسلطان المطلق في يديه، وهو يتحكم في أقوات الناس وفي رقابهم، وفي يده لقمة الخبز التي تقوتهم! ومحنة المشاعر البشرية وهو يلقى بعد ذلك إخوته الذين ألقوه في الجب وكانوا السبب الظاهر لهذه المِحن والابتلاءات كلها..

هذه المحن والابتلاءات التي صبر عليها يوسف (ع) وزاول دعوته إلى الإسلام من خلالها، وخرج منها  كلّها متجرداً خالصاً، آخر توجّهاته، وآخر اهتماماته، في لحظة الانتصار على المحن جميعاً؛ وفي لحظة لقاء أبويه ولَمّ شمله، وفي لحظة تأويل رؤياه وتَحقّقها كما رآها: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) (يوسف/ 4)، آخر توجّهاته وآخر اهتماماته في هذه اللحظة هي التوجه المُخلص المتجرد المنيب إلى ربه، منخلعاً من هذا كلّه بكليته كما يصوره القرآن الكريم:

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف/ 99-101).

وهكذا كانت طلبته الأخيرة.. بعد ذلك كلّه وهو في غمرة السلطان والرخاء ولَمّة الشمل.. أن يتوفاه ربه مسلماً، وأن يُلحقه بالصالحين.. وذلك بعد الابتلاء والمحنة، والصبر الطويل والانتصار الكبير..

فلا عجب أن تكون سورة يوسف. بما احتوته من قصة ذلك النبي الكريم، ومن التعقيبات عليها بعد ذلك، تسلية وتسرية، وتطميناً كذلك وتثبيتاً للمُطارَدين المُغتَربين المُوحَشين!

لا بل إنّ الخاطر ليذهب إلى الإحساس بالإيحاء البعيد بالإخراج من مكة إلى دار أخرى يكون فيها النصر والتمكين؛ مهما بدا أنّ الخروج كان إكراهاً تحت التهديد! كما أخرج يوسف من حضن أبيه، ليواجه هذه الابتلاءات كلها. ثمّ لينتهي بعد ذلك إلى النصر والتمكين:

(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف/ 21).

ولقد كان ذلك وهو يضع أقدامه في مصر في قصر العزيز.. حتى وهو ما يزال فتى يباع بيع الرقيق..!

وما يذهب بي الخاطر[1] إليه اللحظة يجعلني أتذوق مذاقاً خاصاً – أشير إليه ولا أملك التعبير عنه! – ذلك التعقيب الذي أعقب القصة:

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ * حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف/ 109-111).

إنّه الإيحاء بمجرى سنة الله عندما يستيئس الرسل – كما استيأس يوسف في محنته الطويلة – والتلميح بالمخرج المكروه الذي يليه الفَرَج المرغوب! الإيحاء والتلميح اللذان تُدركهما القلوب المؤمنة، وهي في مثل هذه الفترة تعيش، وفي جوّها تَتَنفَّس، فتتذوق وتستشرف، وتلمح الإيحاء والتلميح من بعيد..

 

التقديم الطبيعي للقصة:

تتقدم قصة يوسف (ع) مقدمة طبيعية لها دلالاتها وإيحاءاتها:

(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يوسف/ 1-3).

فالتقديم لهذه القصة بهذه الآيات يبدو هو التقديم الطبيعي المصاحب لنزول القصة..

وهذه الأحرف المُقطّعة.. ألف. لام. را.. وتقرير أنها آيات الكتاب المبين. ثمّ تقرير أنّ الله أنزل هذا الكتاب قرآناً عربياً.. هو من جو القرآن المكي، ومواجهة المشركين في مكة بعربية القرآن الذين كانوا يَدَّعون أنّ أعجمياً يُعلّمه لرسول الله (ص)! وتقرير أنّه وحي من الله كان النبيّ (ص) من الغافلين عن اتجاهه وموضوعاته.

ألف. لام. را.. هذه الأحرف وما من جنسها وهي قريبة للناس متداولة بينهم. هي هي بعينها تلك الآيات البعيدة المتسامية على الطاقة البشرية. آيات الكتاب المبين.. ولقد نزَّله الله كتاباً عربياً مؤلفاً من هذه الأحرف العربية المعروفة: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، وتدركون أنّ الذي يصنع من هذه الكلمات العادية هذا الكتاب المُعجز لا يمكن أن يكون بَشَراً، فلابدّ عَقلاً أن يكون القرآن وَحْياً. والعقل هنا مدعو لتدبر هذه الظاهرة ودلالتها القاهرة.

وبإيحائنا هذا القرآن إليك قَصَصْنا عليك هذا القَصَص – وهو أحسن القصص – وهو جزء من القرآن الموحى به.. وقد كنت أحد الأُمِّيين في قومك، الذين لا يتوجهون إلى هذا النحو من الموضوعات التي جاء بها القرآن، ومنها هذا القصص الكامل الدقيق. إنّه أحسن القصص انتقاءاً واختياراً، وإنّه أحسن القصص نظماً وترتيباً وتفصيلاً، وإنّه أحسن القصص شهادة صدق وبرهان حقّ، وإنّه أحسن القصص حكماً وأحكاماً، وإنّه أحسن القصص علماً وتعليماً وتوجيهاً...

هذه المقدمة إشارة البدء إلى القصة..

الهامش:

[1]- سيد قطب، في ظلال القرآن، المجلد 4، ص1950.

المصدر: كتاب قصص الرحمن في ظلال القرآن

ارسال التعليق

Top