• ٤ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

فن الترجمة.. في ضوء النظرية التوحيدية

د. الحسيني

فن الترجمة.. في ضوء النظرية التوحيدية

  (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم/ 22).

الوجود كلُّه كلمات الله، والله هو المتكلِّم الوحيد في الوجود حقّاً، وقد تكلَّم بلسانين رئيسين: لسان التكوين، ولسان التشريع، وكلاهما يسوق إلى حقيقة واحدة، وإلى معنى واحد، ألا وهو التوحيد الحقّ؛ ولكل حق حقيقة؛ كما يقرر ذلك المتكلِّمون والفلاسفة الإلهيون. وقد علَّم الله تعالى الإنسان – خليفته في الأرض – الأسماء كلَّها، حتى أصبح معلِّم الملائكة والمسجود له بأمر الله من قبلهم تكريماً وتعظيماً لهذا العلم؛ الذي يرتبط بالمسمّيات، والحقائق العينية التي تتجلّى فيها صفات الحقّ العليا. وعلّمه كيف يكون مخاطباً، كما علّمه القرآن الذي هو الغاية من تعليمه البيان: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن/ 1-4)[1]. وقد أشار الله تعالى إلى اختلاف الألسنة والألوان في الإنسان، كما نصّت الآية المتصدّرة هذه المقالة المتواضعة؛ حيث الاختلاف في الألسنة ووحدة البيان في قوّة التعبير؛ كما هي دلالة الآية الرابعة من سورة الرحمن. ومن الجمع بين الآيتين نتوصل إلى الحقيقة التي نحن بصددها في هذا المبحث، ألا وهي أن قوة التعبير المعطاة للإنسان واحدة؛ لكنّ تمظهرها يكون مختلفاً حسب اختلاف الأقوام، والأزمان، والمكان؛ وحسب تباين ظروف القول في الإنسان، وحسب مقتضى حال المتكلّم والمخاطب والخطاب، كما هو مقرّر في علم البلاغة بفرعيه الرئيسين المعاني والبيان؛ وليس البديع الملحق بهما إلا محسنات معنوية أو لفظية. ونحن نجد أنّ المعاني الإنسانية مشتركة بين بني البشر جميعاً، لا سيّما تلك التي تتعلق بالفطرة والأحاسيس، أو العقل والمنطق، أو ما يصطلح عليه في الفلسفة وعلم النفس الحديث: Common sense ولذلك يمكن نقل هذه المشتركات من قوم إلى قوم ومن فرد إلى فرد عبر وسائل الاتصال المتنوعة، والرموز والعلامات السمعية والبصرية (audio – Visual) عن طريق النطق والكلام والصورة والكتابة وما إلى ذلك؛ ولو لم تكن هذه المعاني مشتركة فطرياً لتعذّر التفاهم والتفهيم والتعلّم والتعليم. وتلك حكمة ربّ العالمين. والإنسان في حقيقة وجوده مترجم لأحاسيسه ومشاعره أوّلاً لغته الأولى ولغة الأُم التي تعلّمها من المحيط الكلامي الذي ولد ونشأ فيه؛ ولو كان قد ولد ونشأ في محيط كلامي آخر، لكانت لغته تلك هي، ولكانت لغته الثانية التي يُريد أن يتعلمها هي الأولى؛ كما أنّه لو قُدَر له أن يولد وينشأ في محيط حدودي، أو محيط كلامي فيه لغتان لكان من ذوي اللغتين Bilingual أو أكثر Multilingual وعندها يكون تكلّمها أو الترجمة منها وإليهما بسهولة وطلاقة. وخير وسيلة لإيجاد جماعة من المترجمين الناجحين أن تعدّ مراكز علميّة خاصة، أو أقسام لغوية في الجامعات تشرف على مجموعات من الناشئة، تنشّأ في هكذا محيطات لغوية، وستكون الترجمة بالنسبة لهؤلاء سهلة ودقيقة للغاية. والمترجم بطبيعة عمله مؤلّف، أو شريك للمؤلّف، فلابدّ له من قابلية على التعبير الدقيق، كما لابدّ له أن يلمَّ بقواعد اللغتين الأولى والثانية وبآدابهما والثقافة التي تحوطهما؛ إذ لا يمكن فصل اللغة عن الثقافة، أو اللغة وأسلوب الحياة والتعامل في مجتمع ما[2].وموضوع الترجمة يبحث اليوم في علم اللغة الحديث تحت اصطلاح علم اللغة التقابلي: Contrastive linguistics وعلم اللغة التطبيقي: applied linguistics وقد عُني بكل أبعادها ومسائلها، ومشاكلها وحلولها، حتى أصبحت الترجمة علماً لغوياً بعد أن كانت فنّاً أدبياً. وموضوع البحث هنا "فن الترجمة" أو قل "علم الترجمة" ولابدّ باديء ذي بدء أن نذكر أهمية الترجمة في نقل الحضارات والمدنيات عبر التاريخ والمجتمعات البشرية، وأنّ الحضارات على اختلاف أنواعها وأشكالها مدينة في انتقالها وتطوّرها للترجمة بمعناها الواسع، منذ أن عرف الإنسان الحضارة والمدنية؛ فقد ذكر قديماً أن الأوديسا لهوميروس Homer's odyssey قد ترجمت في العصر اليوناني القديم نفسه إلى لغات أخرى، وكذلك الكتب المقدّسة، كانت قد ترجمت منذ أقدم العصور، وقد ورد عن بعضها أنها ترجمت إلى أكثر من ألف لغة عبر مسيرة التاريخ. وكثير من العلوم والآداب والمعارف الإنسانية قد ترجمت من لغة إلى لغة، وانتقلت من قوم إلى قوم. وهكذا تُنوقلت الحضارات وتُبودلت الثقافات، وتنامت وازدهرت، ولولا فن الترجمة أو علم الترجمة لما وصلت البشرية إلى ما وصلت إليه من تقدّم علمي وأدبي، وثقافي وحضاري، وديني ومعرفي، وما إلى ذلك. هذه مقدمة مختصرة حول الترجمة وأهميتها سواءً كانت فناً أم علماً. والعنوان المقترح هو "حول فن الترجمة". والفن في اللغة يرتبط بجذر "فنّ" وأصله "فنن – بالتفكيك – ومنه "افتنّ يفتنّ افتناناً" وتأتي على "فُنون وفَنَن وأفنان"[3] وكلّ هذه الاشتقاقات تشير إلى التنوّع في الوجودات المادية والمعنوية وتحسينها حتى قيل: "الفنّ يحسّن الطبيعة" وترجمت هذه المقولة إلى الفارسية: "هنر مكمّل طبيعت است" وإلى الانجليزية: (art improves the nature) وإلى الفرنسية: l'art perfectionne la nature وإلى غيرها من اللغات[4]. ومن هنا نعرف قولهم: تفنّن الرجل في الكلام: أي تنوّع في أداء معانيه وتحسينه، وقيل لأغصان الأشجار تحسُّناً "أفنان" ومن هنا نستطيع أيضاً أن ندرك بأنّ الترجمة يمكن أن تعرض بصُور وأنواع متعددة، يعكس ما إذا كانت "علماً" فعند ذاك ستكون محدودة ضمن ضوابط وقواعد معينة، وأصول وفصول لا يمكن للإنسان أن يكون حُرّاً تماماً في معالجتها، أو أن يتصرّف بما يشاء كيف يشاء في التعابير؛ بل هناك كتب حديثة صدرت تحمل عنوان: "علم الترجمة" ومنها كتاب يوجين ندا، الذي ترجم إلى العربية وأصله الانجليزي هو: (The science of Translation) وفي ضوء ما جاء فيه من أصول وضوابط لابدّ للمترجم أن يتّبع خطوات القواعد اللغوية المعيّنة التي يقرّرها علم اللغة الحديث، بعكس دلالات الفنّ والنظرية الفنية التي تُشير إلى تلوّن في الأداء وتحسين في الكلام. فالفنان يستتطيع أن يتصرّف حسب قابلياته وقُدراته الفنية في التعبير، وحسب نظراته وأحاسيسه الخاصة التي يفهمها من النصّ، وستكون الترجمة متنوّعة ومتغيِّرة حسب تنوّع اللغات والأشخاص والأذواق والأعصار في الأداء. وبالتحقيق يمكن القول بأنّ الترجمة فن يستند إلى علم، أو علم يستند إلى فنّ؛ للجمع بين النظرتين أو النظريتين، وهي بحاجة ماسّة إلى الناس؛ لأنّ الموضوع يتعلق بالدرجة الأولى بالناس والعلم البشري، والأحاسيس الإنسانية؛ فلابدّ من الذوق السليم والإبداع الإنساني؛ ليختلف الإنسان المترجم عن الآلة المترجمة أو آلة الترجمة التي أوشكت أن تستخدم في العصر الحديث تحت اصطلاح machine translation أو ما تسمّى بالفارسية: "ماشين ترجمة" وفي العربية "ماكنة الترجمة" وكم هي قريبة منها أصواتاً ودلائل في ضوء منهجنا اللغوي المتّبع. فالإنسان عموماً حسّاس وشاعر – بالمعنى العامّ – وفنّان وذوّاقة يُدرك أحاسيس المجتمع والظروف التي أوجدت النصّ، ونفسية المؤلف وعصره وتاريخه وآراءه في الحياة، فهو لا شكّ يختل عن المترجم الماكنة التي تُعطى معلومات محدودة وفق شرائط معينة تحت اصطلاح input لتقدّم معلومات محدودة في ضوء تلك المعطيات تحت اصطلاح: output وهي العملية التي تستخدم في الحاسبة الالكترونية أو العقل الالكتروني: computer وقد تُخطىء الماكنة المترجمة أو الماكنة الحاسبة أخطاءً فظيعة حتى أن أغبى الأغبياء من البشر لا يرتكبها، إذ كل ما تقدّمه لنا هي السرعة الهائلة ونتائج معطياتنا. وفي ضوء مناقشة اصطلاح الترجمة والمترجم يمكن أن نركّز ثانيةً على أهمية المقولة التي تتعلق بالعلم والفن في كلا الترجمة والمترجم. ونقول أنها: "فنّ يقوم على علم" أو "علم يقوم على فنّ". كلمة الترجمة ليست مصطلحاً جديداً – كما ذكرنا – فقد وردت هذه اللفظة في مختلف العصور واللغات بأصوات ودلالات متشابهة، وقد سجّلت كتب الايتمولوجيا Etymology ذلك الأثر. والجذر trans أو trance[5] يُشير إلى النقل والتبديل والإرسال، وهو وارد في اليونانية القديمة واللاتينية ومنها انتقل إلى سائر اللغات الأوروبية المعاصرة، ونجدها تحت اصطلاح translation بقراءات مختلفة في جميعها كلّ حسب نظام أصواتها وقواعد نطقها، كما وردت في اللغات السامية والشرقية ولا سيّما الكتابية منها biblical، ونحن نعلم أنّ التوراة عرضت لموضوعات ومسائل دينية أدّى تفسيرها وشرحها إلى ظهور "المُشْنَا" أيْ "المثنّبى" و"التلمود" والتراكوما، وكذلك وجود كلمة "ترجم" واشتقاقاتها في العربية والفارسية والتركية وسائر اللغات الإسلامية والشرقية، وهناك كتب في العربية القديمة والحديثة تحمل عُنوانات "ترجمان" مضافة إلى موضوعاتها كالأدباء والشعراء والعلماء والأطباء وما إلى ذلك، كما استعملت لفظة ترجمان اسماً ولقباً لبعض الأشخاص والعوائل. ونحن نَجِدُ جذر كلمة "رجم" في المعجمات والقواميس العربية، وتدلّ غالباً على الرمي والنقل والظنّ: "والرجم أن يتكلّم الرجُل بالظنّ، قال الله تعالى: (رَجْمًا بِالْغَيْبِ) (الكهف/ 22)، ومنه الحديث المُرَجَّم. وتراجَموا بالحجارة ترامَوا بها. وتَرْجَمَ كلامه إذا فسَّره بلسان آخر ومنه الترجَمَان وجمعه تراجم، كزعفران وزعافر، وضمّ الجيم لغة وضمّ التاء والجيم معاً لغة"[6]. كما نقول لَفَظَ الكلام أي رماهُ وألقاهُ، كما ورد في القرآن الكريم الرجم والمرجوم والرجيم والرجوم وما إليها من الاشتقاقات في آيات متعدّدة، وقد ورد في الشعر الجاهلي في بيت زهير بن أبي سُلمى "الحديث المرجّم": وما الحَرَبُ إلا ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُم **** وما هُوَ عَنْها بالحديثِ المُرَجَّم[7] وهذا يدلّ على أنّ هذه اللفظة مأنوسة في العربية أو "المعرّبات". وفنّ الترجمة هو في الواقع نَقْلٌ ونُقْلَةً للمضمون والمعنى بالدرجة الأولى من لسان إلى لسان أو من تعبير إلى تعبير: وقد يُتوسع فيه إلى أبعد من ذلك. وأنّ مصطلح translation يمكن بحثه في حقلين: الأوّل trans وقد ألمحنا إلى أنّه يفيد النقل والإبدال عموماً، كما يستعمل في الاصطلاحات التقنيّة الحديثة كجذر أوّلي أو بادئة إلى كثير من الآلات والأدوات والمواد، والموضوعات وغيرها[8]. والجذر الثاني lation ويمكن ربطه بكلمة "لسان" العربية صوتاً ودلالة، ولا سيما بالنطق الفرنسي، وعند ذلك يكون اصطلاح translation معادلاً لنقل اللسان، وفق تقابلات السطوح اللغوية، والحقول الرئيسة الأربعة في اللغة: وهي تقابلات الأصوات اللغوية: phonology. والمفردات والجذور الصرفية: morphology والجمل والتراكيب النحوية: syntax والمعاني والدلالات: semantics[9]. والترجمة المفّقة هي التي تتقابل فيها هذه الحقول بدقّة، وتكون فيها المعادلات اللغوية متوازنة تماماً، حسب مراعاة الأولويات والأهم فالأهم، ففي المرحلة الأولى تنظر المعادلات المعنوية والدلالية، وبعدها المعادلات النحوية، وبعدها المعادلات الصرفية، وأخيراً المعادلات الأصواتية، وإذا ما كانت هذه المعادلات دقيقة للغاية؛ فالترجمة تكون في أعلا مراتبها. ونحن بالدرجة الأولى في طوق عبودية المعاني لا الألفاظ، كما هي المقولة الفارسية في الموضوع: "در ترجمة: طوق عبوديت كلمه، نه، ولى طوق عبوديت مفهوم بلى"[10]. ومهما يكن من شيء فالنقل والانتقال يحصل عن طريق الدالّ: Significant إلى المدلول: Signified، أوقل من الألفاظ إلى المعاني. وقد بحثت هذه المسألة منذُ زمن إفلاطون وتلميذه أرسطو، وهما يختلفان في النظر إلى وجود العلاقة والرابطة بين الدالّ والمدلول، إذ يقول إفلاطون بوجود الرابطة الطبيعية التكوينية، أو ما اصطلح عليه: One matopoeia أي حكاية الأصوات، أو محاكاة الطبيعة، وهي ترتبط بشكل أو بآخر بنظرية المُلُل: "models" التي تعتبر الطبيعة محاكاة لها وترجمة عنها، وليس الشعر في نظرها إلا محاكاة للطبيعة؛ فيكون أبعد من الحقيقة خطوتين؛ إذ يكون محاكاة المحاكاة، و"ترجمة الترجمة". بعكس نظر أرسطو الذي يرى العلاقة بين الدالّ والمدلول اصطلاحية: Eonvention وقد تكون اعتباطية محضة تحت ما اصطلح عليه في علم اللغة الحديث[11]: arbitrary choice أي الاختيار الاعتباطي من قبل الأفراد أو المجتمع؛ لا على أصول طبيعة. وقد جمع Desaussure بين النظرتين أو قال بوجود العلاقة وأسماها: linguistic sign أي العلاقة اللغوية، وهي حقيقة اللغة وموضوع البحث اللغوي، وهذه الرابطة تحصل في الذهن على شكل مثلّث زاويتاه "اللفظ" و"المعنى" والثالثة الفكرة: Thoughr أو "الذهن" وكلّ ذلك بوجود رمزي symbolic. فقد تقول في الفارسية "مرد" وتعني به الإنسان البالغ الذكر، وهي تقابل "الرجل" في العربية، وMan في الإنجليزية، ولا توجد فيما يُرى الحكاية الطبيعية التي قال بها إفلاطون في مثل: "تَموءُ القِطَّة" و"كُربه ميو ميو ميكند" (The cat is mewing). وإذا ما وجدت أمثلة على ذلك فنسبتها المئوية في اللغات محدودة؛ في حين انَّا وجدنا الأمثلة الكثيرة الكثيرة التي تُشير إلى الروابط الصوتية والمعنوية في مختلف وشتّى اللهجات بين المفردات، وهكذا في سائر الحقول اللغوية الأخرى، ولا نقول بضرورة المحاكاة الطبيعية؛ بل نقول بوجود هذه العلاقات الأصواتية والدلالية بشكل عامّ عقلي يقرب من النظرية المعاصرة العالمية: universality التي تقول بوجود المشتركات الكثيرة في القواعد والأمثلة بين جميع اللغات؛ ونحن قد توسّعنا فيها على أساس توحيدي شامل يحكي نظرية "الأسماء الحُسنى" أطلقنا عليها اصطلاح: Unitheism وأنّ الوجود كلّه صدىً لأسماء الله تعالى، وتجليات لكلماته أصواتاً ودلائل[12]. وكمثال تطبيقي تقابلي لما نرى، نضرب الأمثلة الاشتقاقية الآتية، وهي من اللغة الإنجليزية التي تحكي صدى وجودها في سائر اللغات المتفرّعة عن اللاتينية، ومن العربية التي تحكي صدى وجودها في سائر اللغات السامية والشرقية: experience, experiment, expert, expertise, explore, exploratory, laboratory, etc. وهي ترتبط في ضوء منهجنا هذا بالخبرة، والاختبار، والمختبر، والخبر، والخبير، وما إليها من الدلالة على المعرفة من خلال الامتحان والتجربة، وجميعها يرجع فيما نرى إلى أحد أسماء الله الحُسنى، وهو هنا مثلاً "الخبير" قياس مع الفارق، وهذا ما اصطلحنا عليه بالمنهج التوحيدي Unithetical approach وليس هنا مقام التوسّع في الأمثلة والأدلة، وإلا لأتينا بالشواهد والبراهين الكثيرة من دون جهد وعناء[13]. ويكفي أن كلمة: approach نفسها يمكن أن تكون من الأمثلة بشرط التأمّل في النظرية وتطبيق المنهج. كما أنّ خبره، وخبر كان وأمثالهما في الفارسية من الشواهد الواضحات؛ ولا سيّما إذا عرفنا أن – x – تقابل – خ – و – p – تقابل – ب – في التبادلات الأصواتية في بعض اللغات واللهجات، وهي وأمثالها ما يصطلح عليها: interchangeable phoneme. ونحن نستند إلى أنّ التوحيد هو الحقيقة الساطعة في الوجود، وأنّ الإنسان هو خليفة الرحمن في عالم الإمكان، والذي تميّز بقوّة المنطق والبيان عن عالم الحيوان، وقد تنوّع هذا البيان في الألسنة: العربي، والفارسي، والتركي، والهندي، وما إلى ذلك؛ من ألسنة مختلفة وأقوام شتّى، تحكي عن حقيقة واحدة في البيان وحقيقة واحدة في الإنسان، كما هو البيت العرفاني في الفارسية: بنی آدم اعضای يک ديگرند* که در آفرينش زيك گوهند وأنّ قوّة النطق Competence أو العقل، أو اللغة المجرّدة هي واحدة، والذي يتنوّع هو الكلام أو الفعل المنطقي Performance وهذا ما دعا "دي سوسير" أن يميّز بين ما أسماه langue: اللغة وparole: الكلام، وقد ترجمت هذه عن الفرنسية إلى الإنجليزية Language وspeech كمصطلحين مهمّين من مصطلحات علم اللغة الحديث. وقد اعتبر اللغة هي الثابتة؛ حيث يرتبط بالمصاديق الخارجية والأشكال الكلامية، حتى أنّ الكلام في كلّ لغة قد يختلف من شخص إلى شخص ومن طبقة إلى أخرى، وزمن إلى زمن، ومكان إلى مكان، وموضوع إلى موضوع؛ وهذا ما دعا إلى ظهور الاصطلاح التعليمي الحديث في اللغات ESP اختصاراً لمنهج لغوي خاصّ في الإنجليزية: English for special purposes وتوسّعنا فيه إلى ASP وPSP بالنسبة للعربية والفارسية مثلاً. ولابدّ من معرفة اللغة التي يُراد الترجمة منها تماماً، والمستوى الذي هي عليه والموضوع الذي تبحث فيه والاصطلاحات المناسبة، كي يتمّ نقلها بدقّة إلى اللغة التي يُراد الترجمة إليها. والذي يهوّن الخطب أنّ القواعدية Grammaticality مسيطرة على جميع اللغات وهي مشتركة الملامح في جميع الصعد والسطوح المشار إليها سابقاً. وقد بلور اللغوي المعاصر الذائع الصِّيت Chomsky نظريته المعروفة بـG.G.T[14]بالارتكاز على هذه القواعدية، واعتبر التركيب العُمقي: deep structure المشترك المنطقي في اللغات، والتركيب السطحي: surface structure هو المتنوّع المتطوّر، ويمكن استبدال التركيبات العُمقية بالتركيبات السطحية عن طريق هذه القواعد التحويلية والاستبدالية الخاصة؛ حيث يمكن نقل المبني للمعلوم إلى المبني للمجهول، في مثل: كَتَبْتُ الرسالةَ إلى: كُتِبت الرسالةُ، في العربية، ونامه را نوشتم إلى نامه نوشته شد، في الفارسية، I wrote the letter إلى The letter was written في الإنجليزية. وقد أفيد من هذه النظرية في تعبئة ماكنة الترجمة حديثاً حسب نظرية المعطيات: data: "داده ها". وهكذا تتم التحويلات اللغوية في داخل اللغة نفسها وبين اللغات المختلفة حسب الأدوات والأنظمة المشتركة، وحسب المفردات والكلمات المتقابلة. وقد يصادف المترجم بعض المشكلات اللغوية من قبيل وجود كلمة Big في الإنجليزية، وعدم وجود المعادل الدقيق لها في الألمانية، بل ما يقرب منها دلالة مثل Gross التي تعادل large في المعاني. وفي سطح الأصوات، فقد يصادف مشكلة الخليط بين الراء واللام في اليابانية، اعتبارهما تنوعين لصوت رئيس واحد، فلا يفرّق الياباني في نطق الأصوات الموجودة في كلمتي: miller وmirror، كما يخلط الأسباني بين صوتي (b) و(v) والعربي بين (b) و(p) عموماً، والفارسي بين العين والهمزة، وهكذا هي الحال عند سائر الأعاجم في نطق الضاد؛ حتى أنّ المتنبي يشير إلى الفخر بهذه الضاد في داليته: وَبِهِمْ فَخْرُ مَن نَطَقَ الضادَ **** وَعَوْنُ الجَاني وَغُوْثُ الطَّريدِ[15] وهي أمثلة جزئية لمشكلات أصواتية، تعترض المترجم ولا سيما في الترجمة الفورية: Simultaneously حيث يؤدّي عدم التمييز بين الأصوات إلى الخلط بين المعاني، وقد توجد في اللغة المترجم منها ولا توجد في اللغة المترجم لها وبالعكس، ويحصل اللبس والانبهام عند النطق والأداء. كما قد تحدث مشكلات أصواتية ودلالية في اللغة نفسها عند تنوّعات الأصوات في الرسم الكتابي المتشابه في مثل كلمة عقاب – بالكسر – وعقاب – بالضمّ – والأولى تعني المعاقبة والثانية تعني الطائر من الطيور الجارحة. وقد يُعرض لمشكلات المترادف اللفظي والمعنوي والأضداد في دلالات المفردات؛ تحت الاصطلاحات اللغوية المشار إليها[16]: antonym، synonym، homonym. كلّ ذلك من الموضوعات التي تعالجها الترجمة، ويُعنى بها المترجمون وعلماء اللغة، في الدراسات الحديثة. وهنالك أقوال وأمثلة سائرة حول الترجمة والمترجمين في مختلف اللغات تحكي عن حقائق يجب الالتفات إليها، وإن كانت على سبيل النكات والطرائف؛ في مثل: translater is a traltor في الانجليزية، أي: "المترجم خائن"؛ إلا أن يثبت العكس. وقيل المترجم "لصّ" thief ولكن لا كاللصوص؛ إذ قد يضيف بدلاً من أن ينقص، ويعطي بدلاً من أن يأخذ من المعاني الأصلية والمفاهيم الأساس. ومسؤولية الترجمة مسؤولية شرعية وحقوقية، وأمانة علميّة وأدبية في أعناق المشتغلين بها، ولذلك وجدت الدوائر المحلّفة التي تُعنى بالترجمة الرسمية أو القانونية، كما وجد "القَسَم" الذي يُشبه القسم الطبي قبل ممارسة الطب. ويجب أن تكون الرقابة العلمية الدقيقة على مترجمي الأفكار والعقائد؛ ولا سيّما الأديان والمعتقدات الإلهية؛ فقد يكون المترجم سبباً في إضلال أمم من الناس وتضليلها، بسبب عدم الدقّة في الترجمة، أو بسبب غرض وهدف ضالّ، كما حصل – فيما نرى – في إضلال المسيحية وتضليلها؛ وذلك يرجع في كثير من أبعاده إلى سوء الترجمة، ولا سيما في موضوع "التثليث": trinity الذي يتناقض والعقل السليم والمنطق الرياضي. وقد عالج النصّ الفارسي الآتي هذه المسألة: "حال اگر تثليث به نحوديگری ترجمه می شد،کلمه پسر در جمله مشهور: عيسى  خداوند است، و در ساير نوشته هاى مذهبى راه نمى يافت بی شک ارتباط اسلام ومسيحيّت درقرون وسطى به نحو ديگرى بود" وقد يجني مترجم الأفكار والعقائد على التاريخ والحقائق، والأديان والمعتقدات، فيما إذا أطلق لقلمه العنان، وراح يتخيّل ويُضيف، وينقص ويزيد، ويحرّف ويفتري، ويخلق الأكاذيب لهدف شيطاني، كما حصل في عصرنا الحاضر في الكتاب المزعوم "الآيات الشيطانية": The Satanic Verses للمرتد سلمان رشدي الذي تجنّى على الحقائق والتاريخ، وعلى الضمير الإنساني العالمي، وأصبح مصداقاً للمثل الإنجليزي المتقدم: "المترجم خائن": (translater is a traitor) وهو يدّعي أنّه يترجم الوقائع والحقائق التاريخية بأسلوب روائي خيالي، وبأسلوب دسّ السم بالعسل. ولم تشهد البشرية جناية مثلها تحت ستار حرية القلم والتعبير المزعومتين. ونحن ختاماً نعرض لإمكانية ترجمة الشعر ورأينا في ذلك. فقد قال فولتير Voltaire في إحدى رسائله: ليس من الممكن ترجمة الشعر، فهل يمكن ترجمة الموسيقي؟ كما شارك صموئيل جونسن Samuel Johnson هذا الرأي حيث قال باستحالة ترجمة الشعر. وقال روبرت فروست Robert Frost واصفاً الشعر في نكتة: "الشعر هو الذي يضيع في الترجمة". وإلى ما هنالك من آراء مشابهة ذكرت من قبل العلماء والأدباء المعنيين بشتّى لغاتهم وأجناسهم، غير أنّ الرأي المنطقي والمعقول – فيما نرى – هو الرأي القائل بإمكانية ترجمة الشعر؛ لكن بشرط أن يكون المترجم شاعراً أو في أفق الشعر. ويمكن تعميم هذا الرأي في سائر الموضوعات والمسائل، أي يجب أن يكون مترجم الطبّ – مثلاً – طبيباً أو في أفقه، وكذلك مترجم الفلسفة والكلام، أو التاريخ والطبيعيات، وما إليها. وقال ادموند ويلسن Edmund Wilson حول ترجمة "رياعيات الخيام": "تلك التي تبتعد عَن الأصل فيما إذا كان مترجمها شاعراً جيِّداً"[17]؛ يريد بذلك أن لا تكون ترجمة الشعر حرفية؛ وإلا لفقدت معاني الشعر وتعابيره. ونحن أمام الرأي القائل بإمكانية ترجمة الشعر؛ ولكن بشرط أن يكون المترجم شاعراً أو في أفقه إضافة إلى تمكّنه من اللغتين[18]. كما يجب أن لا تكون الترجمة حرفية تماماً ولا مبتعدة عن أسلوب التعابير وأشكالها في اللغة الأصل، سواءً كان ذلك في الشعر أم النثر. ودليلنا على ذلك كلّه إمكانية ترجمة الكتب المقدسة، حيث أن كلّ رسول أرسل بلسان قومه، لكنّ خطاب الله تعالى كان للجميع، وفعلاً قد ترجمت جميعاً، ولا سيّما القرآن الكريم الذي هو أرقاها وأعلاها نظماً، وأرفعها وأجمعها أسلوباً، وقد بلغ حدَّ الإعجاز والمعجزة. فما بَالُ الشعر؟ لكنْ ليس معنى هذا أنّ الترجمة – ولا سيّما بالنسبة للقرآن الكريم – ستكون بمستوى بلاغة الأصل، فهذا مستحيل؛ إذ القرآن الكريم كلام الله تعالى المحفوظ المعجز. ويبقى الفرق بين كلام المخلوق وكلام الخالق كالفرق بين المخلوق والخالق.   الهوامش:
[1]- وللتوسع في دلائل هذه الآيات ومعاني البيان فيها تنظر مقالتنا في مجلة التوحيد في العدد السادس والعشرين "النظر القرآني حول اللغة وعلم اللغة العام" وكذلك في العدد السادس والثلاثين "القرآن وعلم اللغة الحديث". [2]- ينظر في الموضوع: Lado. Linguistics Across Cultures, (U.S.A.1957) [3]- ينظر الرازي، مختار الصحاح، مادة فنن ص513 (ط. دارالقلم – بيروت). [4]- د. سيد مرتضى الشيرازي مع جماعة، مجمع اللغات "فرهنك مصطلحات"، دفتر نشر فرهنك اسلامي(ط. طهران 1363)، مادة فن. [5]- ينظر webstrer's Bible Dictionary p. 566 (U.S.A. 1980) Cassell's English Dictionary p. 1191 (U.S.A. 1975) [6]- الرازي، مختار الصحاح، مادة رجم، ص236 (ط. دارالقلم – بيروت). [7]- بنظر ديوان زهير بن أبي سلمى، القصيدة الميمية الحكمية. [8]- ينظر معجم اكسفورد – المواد – وكذلك سائر المعجمات الانجليزية. [9]- تنظر مقدّمة مقالتنا في العدد الأوّل من مجلة التوحيد في المصطلحات. [10]- ميمندي نجاد، أصول ترجمة انكلسي وفارسي، ص. ب، ط طهران 1358. [11]- انظر: De saussuter course in general Linguistics, p. 96ns وكذلك مقالتنا: القرآن وعلم اللغة الحديث، مجلة التوحيد، العدد السادس والثلاثين: G. B. 1978. [12]- انظر مقالتنا: "النظر القرآني حول اللغة وعلم اللغة العام" في مجلة التوحيد، العدد السادس والعشرين، وكذلك المقالات العديدة فيها تحت عنوان: "المصطلحات الإسلامية ومعادلاتها في مختلف اللغات". [13]- المصدر السابق. [14]- ينظر: Chomsky Aspects of the theory of syntax.p.3 (U.S.A. 1976) [15]- انظر ديوان المتنبي، الدالية. [16]- ينظر: Webster's synonyms antonyms and homonyms (U.S.A. 1980) -seven complete Dictionary- [17]- ينظر ميمندي، الصدر السابق.

[18]- تنظر محاولاتنا في ترجمة بعض قصائد حافظ وورمقي المطبوعة في مجلة التوحيد باخرةٍ تباعاً، وقد عالجنا هذا الموضوع مختصراً في حلقات برنامجنا التلفزيوني الأسبوعي: "آفاق الأدب".

المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 43 لسنة 1989م

ارسال التعليق

Top