• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الروح المعنوية سلاح خفي عني به الإسلام

ممدوح إبراهيم الطنطاوي

الروح المعنوية سلاح خفي عني به الإسلام

  حرص الإسلام على تزويد المسلمين بأقوى الدوافع النفسية التي تملأ نفوسهم حمية واستبسالا، وقد ربَّى فيهم روح الإيمان وبيَّن لهم فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله وحث الإسلام المقاتلين على التزود بالتقوى لأنّها خير زاد وعني أيضاً بالتعبئة المعنوية قبل القتال وأثناءه لرفع الروح المعنوية للمقاتلين إلى أقصى حد، وقد أثبتت الحروب عبر التاريخ بأنّ السلاح المعنوي أهم مقومات النصر، ويعده جل العسكريين في المقدمة قبل الإعداد المادي للحرب إذ لا فائدة من سلاح أياً كان متطوراً بين أيدي جنود نضبت حميتهم للقتال أو انعدام اقتناعهم به.

  - أهمية الروح المعنوية: يعتمد الإسلام في ميدان القتال على الروح المعنوية أكثر مما يعتمد على القوة المادية، ولهذا يستثير الهمم والعزائم فيقول الله عزّ وجل: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) (النساء/ 74-75). والروح المعنوية سلاح خفي غير ظاهر لا يتمكن الأعداء من رصده أو تدميره بالأسلحة المضادة وهي وسيلة من وسائل الصراع المسلح غير المادية التي لا يمكن قياسها ولكن يمكن قياس نتائجها من خلال ثبات المقاتلين وإدامة رغبتهم في القتال حتى الانتصار. والروح المعنوية أقوى الدوافع النفسية التي تملأ المقاتلين حمية وشجاعة ومتى رسخ في قلب المقاتل إيمان بالقضية التي يحارب من أجلها، وأقدم ببسالة صوب العدو كان في ميزان القوى ذا قوة خاصة لا يتسامى إليها غيره، ولذلك حرص الإسلام على بث هذه الروح المعنوية في نفوس جند الإسلام، فقال الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (الأنفال/ 65). فالمقاتل المسلم بهذه الروح يساوي في ميدان المعركة عشرة ممن سواه، وبالقوة المعنوية يصبح قادراً على إحراز النصر المبين على عدوه والانتصار على نفسه والانحياز إلى الحق بغض النظر عن العصبيات باختلاف أشكالها، وحسبنا ما سجَّله التاريخ بحروف من ذهب على صحائف من نور إبَّان معركة بدر الكبرى حيث ظهرت هذه الروح المعنوية بجلاء في صفوف الجيش الإسلامي بقيادة القائد الأعظم محمد رسول الله (ص).   - عوامل النصر المعنوية: يُعنى الإسلام بالتعبئة المعنوية قبل القتال وأثناءه لرفع الروح المعنوية للجنود، وعلى قائد الجيش تقع المسؤولية الكبرى إذ لابدّ أن ينصح جنوده ويذكرهم بالله تبارك وتعالى ويحرضهم على القتال، ويبين لهم فضل الجهاد في سبيل الله ويزكي فيهم روح الجماعة، ويؤكد لهم اهمية الوحدة والتعاون.. الوحدة في الفكر والإيمان مما يزيد من القدرة على القتال والضبط لدى المقاتلين، وكذلك على القائد المسلم أن يعطي الإرشادات العسكرية لجنوده قبل المعركة وتذكيرهم بها أثناءها.. كما ينبغي له أن يشارك قادة الأفرع للقوات المسلحة وجدانياً وعاطفياً مما يخلق روحاً معنوية عالية وألفة كبيرة، يترتب عليها شعور الإنسان بالثقة فلا يعتريه الخوف وهناك عوامل معنوية أخرى تعتبر من أهم مقومات النصر أهمها: 1- الصبر والمثابرة: فالصبر هو حبس النفس على مكروه يكون "بالنفس فقط" أما المثابرة فتكون بالنفس وبغيرها.. والصبر عدة المسلم في كل حين، وقد وصانا ربنا عزّ وجلّ به في كل حال ومآل وأخبرنا بأنّه خير لأصحابه وأمرنا بالتزامه في آيات قرآنية كريمة كثيرة لما فيه من فوائد عظيمة ومنافع جمة، يقول الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 200). ووعد الله تعالى الصابرين بأنّه عزّ وجلّ معهم فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 153). وبين ربنا تبارك وتعالى أنّ الغلبة والنصر للصابرين فقال تعالى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 249). وفي الحديث الذي رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن خباب بن الأرت (رض) قال: شكونا إلى الرسول (ص) وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثمّ يؤتى بالمنشار فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه؛ ما يصده ذلك عن دينه، والله: ليتمَّن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت فلا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون". وبهذا الحديث يربي الرسول (ص) أتباعه على الصبر والمثابرة على مشاق الجهاد، ويحثهم على عدم الجزع، وضبط النفس لأنّ الصبر هو أساس النصر وعلى المقاتل المسلم أن يدرك هذا الأمر جيِّداً، فالسلاح الذي يحمله لا يؤدي غرضه المنشور إلّا إذا كان حامله صبوراً. 2- التوكل على الله: على المقاتل المسلم أن يتوكل على الله تعالى ويتضرع إليه عزّ وجلّ ويستغيث به لأن ذلك من عوامل النصر، وقد كان رسول الله (ص) يتوكل على الله في الحرب – وغيرها – آخذا بأسباب النصر، وكان يطمئن أصحابه بأنّ النصر لهم حتى أنّه كان يشير إلى أماكن متفرقة في الأرض ويقول: "هذا مصرع فلان" ومع هذه الثقة الكبيرة فقد رأيناه يتضرع ويستغيث برب كل شيء ومليكه حتى يؤتيه نصره عزّ وجلّ.. فمهما توفرت الأسباب فما النصر إلا من عند الله العظيم بتوفيقه عزّ وجلّ، ولقد استحق رسول الله (ص) بتضرعه وتوكله على الله واستغاثته به تعالى النصر والتأييد الإلهي العظيم، قال الله تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (الأنفال/ 9). وقد أمد الله تبارك وتعالى المسلمين بملائكة يقاتلون معهم في غزوة بدر الكبرى وهذه حقيقة لا مرية فيها ولا جدال وقد ثبتت بدلالة صريحة من الكتاب والسنة الصحيحة وكان ذلك لتطمئن قلوب المسلمين واستجابة حسية ربانية لشدة استغاثتهم وتوكلهم على الله القوي المتين فانتصر المسلمون على جيش يبلغ ثلاثة أضعافهم في العدة والعدد قال الله تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال/ 10). وقد وردت آيات قرآنية كثيرة تدعو المقاتلين إلى التوكل على الله لما له من أثر بالغ لا يخفى على المقاتلين في ميدان القتال، فقال الله العظيم: (.. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران/ 159-160). وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق/ 3). 3- الطاعة: لله تبارك وتعالى ولرسوله (ص) في السر والعلانية ثمّ طاعة القيادة المؤمنة فمتى أطاع المقاتل أوامر ربه عزّ وجلّ وابتعد عما نهى عنه وزجر والتزم بما صح عن رسول الله (ص) من أقوال وأفعال قيض الله عزّ وجلّ لهذا المقاتل من الأسباب ما يؤهله لإحراز النصر على العدو، والطاعة لله تعالى ولرسوله تقتضي طاعة قيادة الجيش فيمتثل المقاتل أمرها وينفذها في التو.. دون تردد، وتلك من الصفات العظيمة التي يجب أن يتحلى بها جند الإسلام، وطاعة القيادة إحدى عوامل النصر على العدو إذ في تكسير الأوامر العسكرية أو التراخي في تنفيذها هلكة الجيش. يقول الكاتب العسكري "السيد فرج" في كتابه الموسوم بـ"الإسلام قوة في السلم والحرب": "الطاعة أوّل خصائص الجندية.. بغير قيادة لا يكون عمل عسكري ناجح، ومن غير طاعة لا تكون قيادة، فالطاعة خميرة الجندية، وتعلم الطاعة واعتيادها سابق لتعلم القيادة وفنونها، وواجب القائد أن يتلقى الأوامر لينفذها، ويتحمل التبعة إذا استقام الأمر أو يجري المراجعة حتى يتحقق من الأمر إذا اتسع المجال للمراجعة". 4- الثبات في المعركة: أوجبت الشريعة الإسلامية الثبات على الجنود عند لقاء العدو لأنّه الخطوة الأولى في طريق نصر الله تعالى وقد أمر الله تبارك وتعالى المقاتلين المؤمنين بالثبات وعدم الفرار عند لقاء العدو فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال/ 45). والإسلام يربي جنوده على الإقدام والشجاعة وحب التضحية والفداء في سبيل الله وإعلاء كلمة الحق، ولهذا حذر من الفرار أثناء المعركة وحَكَمَ على من يفر من القتال بالفسق، وتوعده الله عزّ وجلّ بغضب وعذاب شديد.. ويوم القيامة يحاسب فيه الإنسان على كل صغيرة وكبيرة والفرار من الزحف من الكبائر المنهي عنها، يقول الله العظيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال/ 15-16). ومما يدل على أنّ الفرار من الزحف كبيرة من الكبائر الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة (رض) قال: قال رسول الله (ص): "اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". فيجب على المقاتلين الثبات في ميدان المعركة والاستماتة في الزحف أياً كان عدد المسلمين والأعداء لأنّه أمر مطلق، وقد بيَّن الله تبارك وتعالى أن يحرم على المسلمين الفرار من ميدان المعركة عملاً بقوله تعالى: (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال/ 66). ورأى ابن حزم الظاهري أنّه لا يجوز للمقاتل المسلم أن يفر من العدو أثناء المعركة إلى في حالتين: الأولى: المتحرف للقتال وهو من يفر من العدو لخدعة حربية، أو ينصرف من جهة إلى أخرى حسب ما يقتضيه الحال، فله أن ينتقل من مكان ضيق إلى آخر أوسع أو مكان يستره أو من أسفل الجبل إلى أعلاه.. وهكذا مما هو أصلح له في ميدان المعركة. والحالة الأخرى: أن يتحيز إلى فئة، أي ينحاز إلى جماعة من المسلمين، إما مقاتلا معهم أو مستنجداً بهم، وسواء كانت هذه الجماعة قريبة أم بعيدة. ففي هاتين الحالتين المتقدمتين يجوز للمقاتل أن يفر من العدو، وهو وإن كان فراراً ظاهراً، فهو في الواقع محاولة لاتخاذ موقف أصلح لمواجهة العدو – إلا أنّه لا يكون إلا بأوامر من قيادة الجيش – وفي غير هاتين الحالتين يكون الفرار كبيرة من كبائر الإثم وموبقة توجب العقاب الشديد "كتاب المساواة"، ص 154. والثبات في ميدان المعركة لا ينقص من عمر المقاتل كما أنّ الفرار لن يطيله. 5- هتاف المقاتلين: يوجِّه الإسلام المسلمين إلى اتخاذ الهتافات عند الالتحام بالعدو لإثارة انفعالات الشجاعة في نفوس المقاتلين وفي الوقت ذاته تروِّع تلك الهتافات العدو وتبث الرهبة والخوف في قلبه، وتظهر الجيش الإسلامي بمظهري الوحدة والقوة، ناهيك عما يعتري العدو من اضطراب في صفوفه على إثر زئير جنود الإسلام، وقد بدا ذلك واضحاً في غزوة بدر الكبرى حيث كان هتاف المسلمين: "أحد، أحد" في غزوتي الخندق وبني قريظة كان هتافهم: "حم، لا ينصرون". وقد أخبرني غير واحد ممن اشتركوا في معركة النصر – العاشر من رمضان 1393هـ السادس من أكتوبر 1973م – بين العرب وإسرائيل أن شعار الجيش العربي الإسلامي كان "الله أكبر، الله أكبر".. يقول أحد المقاتلين في هذه المعركة: "لقد كانت (الله أكبر) تزلزل اليهود وتجعلنا نراهم في ميدان المعركة وكأنّهم فئران أو أرانب". فإذا تمسك المسلمون بتعاليم دينهم الحنيف وإرشاداته القويمة نالوا نصر الله العزيز وعاشوا سعداء في الدنيا والآخرة.   المصدر: مجلة درع الإسلام/ لسنة 1997م

ارسال التعليق

Top