• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الديمقراطية هي الحل!

د. محمد عابد الجابري

الديمقراطية هي الحل!

يسود الساحة الفكرية، في معظم الأقطار التي كانت تصنف من قبل كـ"عالم ثالث"، شعار يكاد يكون الشعار السياسي الوحيد الذي لا اعتراض عليه، شعار "التجول إلى الديمقراطية". وهو شعار يضمر شعاراً آخر: "الديمقراطية هي الحل".
ومع أنّ هذا الشعار ليس جديداً، فإن ما يلفت النظر أن استعادته اليوم تتم بنوع من "التعلق" شبيه بذلك الذي يحظى به عادة "الخاتم السحري" الذي يحل جميع المشاكل، وفي مقدمتها مشكلة هذا "الخاتم السحري" ذاته. ذلك لأنّه لا أحد يطرح المشاكل الخاصة بهذا "الخاتم"، بل هي تلغى إلغاء وتسقط من الحساب تماماً بمجرد ما يبدأ التعلق به.
"الديمقراطية هي الحل"! هي الحل لمشكل حقوق الإنسان، ولمشكل الحريات العامة، ولمشكلة المجتمع المدني، ولمشكل التعسف في السلطة، ولمشكل استغلال النفوذ، ولمشكل البطالة، ولمشكل الفقر.. إلخ. ولكن هل الديمقراطية هي الحل لمشكل "الديمقراطية" نفسها، حضورها أو غيابها؟ وهل إذا تحقق قسط منها خفت الحاجة إليها كلها؟ وأين تبتدئ وأين تنتهي الديمقراطية؟ وإذا ما تحققت، فهل تغني عن غيرها من الشعارات والمطالب؟ ثمّ من أين يجب أن تبدأ عملية التحول إلى الديمقراطية؟
أسئلة متناسلة لا حصر لها!
ومهما يكن الجواب، فإنّ الأمر الوحيد الذي يستطيع كاتب هذه السطور تقريره وتأكيده هو أنّ التجربة التي تعرفها اليوم بعض الأقطار العربية في مجال التحول نحو الديمقراطية قد أثبتت، إلى حد الآن على الأقل، أنّه يمكن أن يكون هناك قدر كبير من الحريات العامة: حرية التعبير، وحرية التجمع، وحرية تكوين الأحزاب، وحرية الاحتجاج، وقدر أكبر من الكلام عن الديمقراطية والتنويه بها من القمة إلى القاعدة... إلخ، ومع ذلك تبقى الديمقراطية مطلوبة، وأكثر من ذلك يبقى سؤال، بل أسئلة "الانتقال إلى الديمقراطية" مطروحة ربما بحدة أكبر.
وإذاً، فستكون هذه الأسئلة مدار القول في هذه المقالات. ومن أجل تنظيم التفكير فيها سنحصرها في ثلاثة رئيسية، تتفرع عنها أخرى ليس من الممكن ولا من المفيد إحصاؤها، فهي تتوالد وتتناسل كجميع الأسئلة التي تخص شأناً من شؤون الحياة. ولذلك سنقتصر منها على ما يطرح نفسه علينا ونحن نخوض في الأسئلة الرئيسية التي نحددها كما يلي:
بما أنّ الأمر يتعلق بموضوع حصرناه في صيغة "الانتقال إلى الديمقراطية"، فواضح أنّ المفهوم المركزي في هذا الموضوع هو "الانتقال". ومن البينّ بنفسه أنّ الانتقال، أياً كان، يطرح ثلاثة أسئلة جوهرية، هي: من أين؟ وإلى أين؟ وكيف؟
أمّا سؤال "إلى أين؟"، بخصوص موضوعنا، فعنوان هذه المقالة يجيب عنه: "الانتقال إلى الديمقراطية". ولكن يبقى أن نحدد مضمون هذه "الديمقراطية" التي نريد الانتقال إليها.
وأما "من أين؟"، فهذا هو المسكوت عنه غالباً، باعتار أنّ الانتقال يكون من الوضعية التي "نحن فيها"، والتي من المفروض أنها معروفة.
غير أنّ هذا السكوت يصبح غير محتمل، بل غير ممكن، عندما يطرح السؤال الثالث نفسه: "كيف؟"، إذ كيف يمكن تحديد كيفية الانتقال من دون معرفة دقيقة وصحيحة للوضع الذي يكون منه هذا الانتقال؟ وتزداد المسألة تعقيداً عندما تكون المسافة بين الوضع الذي يراد الانتقال إليه والوضع الذي يراد الانتقال منه تفتقد إلى عناصر الاتصال التي تقيم جسوراً بين الوضعين، مما يجعل من "الانتقال" إشكالية نظرية وعملية وليس مجرد مشكلة.
ويبدو أن نوعاً من التدرج يفرض نفسه على الناس عند طرح أي مطلب. ففي المرحلة الأولى، عندما تكون القضية هي المطالبة نفسها فقد يكفي تعيين المطلَب. والشعارات السياسية هي في الغالب مطالب من هذا النوع، على الأقل في بدايات طرحها؛ فهي تركز على "المطلب" الذي يقع في جواب "إلى أين؟" وتغيِّب، لسبب أو آخر، السؤالين الآخرين: سؤال "من أين؟" وسؤال "كيف؟"! أما عندما يكون المَطْلَب بصدد تجاوز مرحلة المطالبة إلى مرحلة الإنجاز، فإن سؤال "كيف؟" يفرض نفسه. وواضح أن تحديد الكيفية التي يتمّ بها الانتقال يتطلب المعرفة بالمعطيات التي يكون عنها. إن طرح سؤال "من أين؟" يغدو حينئذ ضرورياً.
والوضع الذي يقع في جواب "من أين؟" صنفان: صنف قائم أصلاً، وهو الذي يراد تغييره، وهو في حال مطلب الديمقراطية "الوضع اللاديمقراطي"، وصنف لم يتحقق لكونه بقي سؤالاً أو مطلباً صُرف النظر عنه بصورة أو أخرى، لسبب أو لآخر. ذلك أن أي سؤال جديد إنما يقوم في أعقاب سؤال قديم، كما أن أي اختيار جديد هو في الغالب بديل لاختيار سبقه لم يتحقق، أو لم يعد يفي بالمطلوب. والحق أنّ المطلب الوحيد الذي يبقى صالحاً في كل وقت، لا وجود له في الواقع، فما يوجد فعلاً هو جملة مطالب تتوالى، يحلّ بعضها محل بعض، ويقوم بعضها بديلاً لبعض، سواء تحقق من السابق شيء أو لم يتحقق. قد يكون الانتقال من مطلب إلى مطلب راجعاً إلى ظهور صعوبات تجعل تحقيق المطلب السابق أمراً صعباً، وقد يكون بسبب أنّ الوسائل غير كافية، أو أنّ الظروف قد تغيّرت بصورة تستوجب تغيير المطلب أو الوسيلة، أو كليهما معاً... إلخ.
نقول هذا ونحن نفكر بصورة خاصة في المطلب الذي كان سائداً قبل مطلب الديمقراطية السائد اليوم. ولكي يأخذ شبابنا من الجيل الذي لم يعانق مطالب الأمس صورة واضحة عن المسألة التي نحن بصدد طرحها، نرى من المفيد سرد المعطيات التالية التي أصبحت جزءاً من التاريخ.
لنرجع قليلاً إلى الوراء، إلى الوقت الذي كان فيه شباب اليوم في عالم الغيب، أو مجرد صبيان لا مطالب لهم غير المطالب الجسمية المباشرة... لنرجع إلى الوراء ثلاثين أو أربعين سنة لنقارن بين "الانتقال" الذي كان مطلوباً آنذاك و"الانتقال" المطروح اليوم. إنّ عبارة "الانتقال إلى الديمقراطية" تستدعي اليوم – في أذهان الذين عانقوا في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين ما كان سائداً من قضايا أيديولوجية – عبارة مماثلة كانت تلخص الإشكالية المطروحة آنذاك، أقصد عبارة: "الانتقال إلى الاشتراكية". وما يهمنا هنا ليس التأريخ لهذه الإشكالية، بل تبيان نوع العلاقة التي يمكن إقامتها بينها وبين إشكاليتنا اليوم. إنّ ذلك سيعيننا على تحديد مضمون الأسئلة الثلاثة الرئيسة التي يدور حولها موضوعنا.
كان "الانتقال إلى الاشتراكية" يلخص "قضية" العالم الثالث في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وقد صيغت آنذاك صياغة إشكالية كما يلي: "كيف يمكن تحقيق الاشتراكية في بلد متخلف"؟ كان الجواب السائد يتلخص في كلمة واحدة: "الثورة". وبما أنّ الأمر يتعلق بـ"بلد متخلف" فلم يكن وارداً أن تقوم بالثورة طبقة عاملة صناعية مهيمنة (البروليتاريا)، كما كان يُنتَظَر أن يحدث ذلك في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر، وكان ذلك هو جوهر الماركسية، ماركسية ماركس وإنغلز. ولم يكن وارداً أيضاً أن يقوم بالثورة في البلدان المتخلفة "تحالف العمال والفلاحين"، كما حدث في روسيا التي قاد لينين ثورتها فأصبح ذلك التحالف جوهر اللينينية، أو كما حدث في الصين التي قاد ما تسي تونغ مسيرتها الثورية الطويلة. ذلك لأن الهيمنة على المجتمع في "البلدان المختلفة" – أو التي هي في "طريق النمو" – لم تكن، وليست الآن، لا للعمال ولا للفلاحين، ولا لهم مجتمعين، ولم يكونوا مجتمعين ولا منظمين.
في "البلدان المتخلفة" التي سميت بـ"العالم الثالث"، كما وصفت "تأدباً" بـ"البلدان التي هي في طريق النمو"، ومعظمها خرج من الاستعمار في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي لتشكل دولاً "حديثة"، في هذه البلدان إذاً كانت القوة المنظمة الوحيدة هي الجيش الذي بادر فعلاً في كثير من البلدان إلى تغيير الوضع مع "الفجر" ليواصل الحكم في الغالب من خلال حزب وحيد ينشئه إنشاء أو يركبه ليحلّ محله. وقد رافق ذلك بطبيعة الحال تغييب الديمقراطية السياسية، ليس فقط بالإعراض عنها، بل أيضاً بالقدح فيها وفي جدواها، خصوصاً بعد التجارب التي عرفتها بعض هذه البلدان والتي نخرها الفساد نخراً، كما حدث في مصر وسوريا وغيرهما من البلدان بعد الاستقلال وقبل "ثورة" العسكر.
بقيت "ثورة العسكر" وما في معناه سائدة في العالم الثالث ترفع شعار "الاشتراكية" – من دون طبقة عاملة، ويا للعجب! – إلى أن انهارت الاشتراكية التي قامت في بلدان أخرى باسم "الطبقة العاملة" والتحالف بين "العمال والفلاحين". أمّا أسباب هذا الانهيار، فليس ههنا مكان الخوض فيها، ولكن يمكن القول إن ثمة إجماعاً اليوم على أنّ السبب الرئيسي فيها هو غياب الديمقراطية.

لنضف من جانبنا "والله أعلم".

المصدر: كتاب في نقد الحاجة إلى الإصلاح

ارسال التعليق

Top