• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الرواية والتاريخ

إنشراح سعدي

الرواية والتاريخ
تناول الفكر النقدي العلاقة بين الرواية والتاريخ من زوايا عديدة، فرأى البعض أنها انعكاس لواقع تاريخي، ورأى البعض الآخر أنّ الرواية يجب أن تدرس بمعزل عن التاريخ إذ لا رابط بينهما، وهذا يجعلنا نتساءل: هل ارتباط التاريخ بالرواية بحث عن الجنس الأدبي نفسه – رواية تاريخية – أم أنّ الوعي بالتاريخ شرط لكلِّ كتابة روائية، إذ يفرض نفسه فرضاً على ذات المبدع ثمّ يتضح في بنية النص وعناصره الشكلية؟ في إجابة عن هذه التساؤلات يرى د. عبدالحميد بورايو – أستاذ تحليل الخطاب بقسم اللغة العربية كلية الآداب بجامعة الجزائر – أنّ لهاجس التاريخ دوراً أساسياً في نشأة الرواية العربية وفي تطورها، خاصة في مراحلها الأولى مع بداية هذا القرن.   بين التاريخ الشخصي والواقعي: ويرى د. بورايو أنّ الأديب الكاتب كان لزاماً عليه وهو يعاني إرهاصات تحولات التاريخ الحديث ويساهم في صنعه، أن يقوم بالتوليف بين التاريخ الشخصي ذي الطبيعة الخيالية الفردية والتاريخ الواقعي للشعوب، فالرواية تسمح بالخروج عن الحدود المرسومة سلفاً للتاريخ الذي يكتبه المؤرخون، وكذلك الحدود المتعلقة بالنوع الأدبي التي يصنعها التاريخ الأدبي، خاصة بالنسبة للأشكال الأديبة الموروثة، مثل: الشعر، والرسالة، والمقامة.. إلخ، ويصبح النص الروائي بالتالي عملية تركيب كيميائية بين المشاعر الخاصة والمواقف الذاتية من ناحية، والتاريخ الموضوعي الذي ننتمي إليه. وجد كاتب الرواية العربية نفسه يقوم بدور المؤرخ للحياة العربية الحديثة والمعاصرة؛ لأنّ التاريخ الذي يكتبه المؤرخون أصبح عاجزاً عن استيعاب ومواكبة حركية المجتمعات العربية في العصر الحديث ، وذلك لأسباب مختلفة يطول شرحها، منها:   -        التسييس المبالغ فيه للكتابات التاريخية العربية في مختلف البلاد العربية. -        ارتباط كتّاب التاريخ في المجتمعات العربية بالأيديولوجية المهيمنة وبالمؤسسة الرسمية (الثقافية أو التعليمية).   فن خيالي: وكذلك من أجل قول المسكوت عنه، ومن أجل توفر إمكانية تضليل عين الرقيب، بدعوى أنّ الفن الروائي خيال لا علاقة له بالتاريخ الحقيقي، وأيضاً بغرض النفاذ إلى عمق الظاهرة التاريخية عن طريق إبراز التاريخ الاجتماعي الذي أهمله المؤرخون الرسميون العرب منذ القديم. حيث إذ يلجأ بعض الروائيين إلى اصطناع أساليب كتابة التاريخ عن القدماء بطرق شتى، من أجل التعبير عن قضايا ومواقف راهنة، وهي تجربة لها مناصرون ولها منتقدون، وتمثل ظاهرة روائية يعكف عليها عدد من الباحثين والجامعيين، ويمكن القول: إنّ هناك حوارية مستمرة ومتعددة الأوجه بين الرواية والتاريخ في الإبداعات الأدبية العربية.   التاريخ باقٍ: ويقول الروائي الجزائري الطاهر وطّار: فيما يتعلق بعلاقة الرواية بالتاريخ: إنّه ليس مضراً للرواية وللإبداع وللجمال بصفة عامة، أنّ الرواية ككلّ الفنون تنبع من وجدان متواصل يستوعب الحاضر والماضي، القريب والبعيد، والتاريخ ما هو إلا جزء من وجداننا بأحداثه النيرة والمظلمة، ونحن كعرب ومسلمين تاريخنا الحديث بدأ منذ نزول الوحي، ومنذ نزول القرآن على النبي (ص) ويبقى حاضراً بين أيدينا بكلِّ تفاصيله، وقد ظللنا منجذبين إلى الماضي، وما التاريخ سوى ماضي، ومهما حاولنا أن نفصل بين الأزمنة فلن نستطيع ذلك؛ لأنّ هناك تعدداً كبيراً لشخصيتنا، فكلّ واحد منا في الوقت نفسه المتنبي وأبو ذر الغفاري، وعمر بن عبد العزيز وأبو نواس، وهو هذا الفدائي الذي يموت في فلسطين وجنوب لبنان أو في أي مكان من الوطن العربي الإسلامي، فالغرابة ألا تعكس الرواية والإبداع بصفة عامة التاريخ، والغرابة – أيضاً – تكمن في كيفية وقدرة المبدع على التخلص من أبي نواس.   رؤية فنية جديدة: في حين يرى د. عثمان بدري – أستاذ الأدب الحديث بقسم اللغة العربية – أنّه لا يوجد هناك أي نشاط مادي أو معنوي مرئي أو مضمر، مكاني أو زماني خارج توالد حركة التاريخ، فالتاريخ ضرورة للحياة، إن لم نقل هو الحياة نفسها في علاقاتها المكانية والزمانية، بل "الزمكانية" المتنوعة المستويات. وبهذا التصور الحيوي الشامل للتاريخ فالرواية العربية – شأن الرواية على إطلاقها – إعادة بناء وإنتاج نوعي متميز لظاهر وباطن حياة المجتمعات العربية في تناقضاتها المادية والمعنوية، الداخلية والخارجية، المتنوعة الأبعاد والمستويات، خصوصاً في العصر الحديث الذي يميز بهاجس البحث عن الهوية الحضارية الخاصة، التي لا يمكن تصورها وتجسيدها خارج الأطر المفتوحة للتاريخ، ومن المؤكد أنّ الرواية العربية قد استلهمت مشارب ثقافية وأدبية وفنية خارجية وداخلية متنوعة، إلا أنّها استثمرت ووظفت التاريخ والرواية في (الزمن – المكان – الشخوص والشخصيات)، وإن كانت هذه العناصر في الرواية غيرها في التاريخ. وعلى الإجمال: فإنّ علاقة الرواية العربية بالتاريخ هي علاقة فنية جديدة للتاريخ، ومن هنا لا يمكن أن نقول بوجود تطابق بين الرواية والتاريخ، وإن قلنا بوجود تماثلات ما، ولعلنا نستطيع أن نعبر عن جدلية العلاقة بين الرواية والتاريخ بالمقولة الأدبية لـ"أرسطو" التي تفيد بأنّ "الحقيقة الأدبية تدخل في باب الحقيقة التاريخية".   طبيعة بشرية: وعلى عكس ما جاء به د. عبدالحميد بورايو، يرى د. أحمد منور، فيما يتعلق بهاجس التاريخ، أنّ الهواجس مقصورة على الإنسان وحده، أي تتعلق بالطبيعة البشرية، أما طبيعة الجنس الأدبي في حد ذاته فلا علاقة لها بالهواجس، بدليل أنّ الرواية التاريخية لم تظهر كفن قائم بذاته إلا في نهاية القرن التاسع عشر وبناء على هذا، فقد جاءت الرواية العربية في الفترة المذكورة الممتدة من ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى ثلاثينيات القرن العشرين، في شكل موجة قوية من الإنتاج الروائي المترجم، بحيث أصبحت الرواية التاريخية تمثل النوع الأوّل على الساحة الأدبية.   انسجام مع هموم العصر: أما أستاذ الأدب المعاصر بجامعة الجزائر د. محمد البصير فيرى أنّ التاريخ فرض نفسه على كتّاب الرواية، حيث خرجت إلى حيز الوجود روايات كثيرة مستمدة من أحداث التاريخ القديم، وحولته إلى أداة فنية حية ديناميكية تثري تجربة الرواية، وتضيف إليها الجديد والمبتكر، ترويجاً للتاريخ العام، وتقريباً لحوادثه إلى الأفهام في صورة مشرقة، بعيداً عن أحداثه الرتيبة المملة التي تبعث الملل والسأم في نفس القارئ عند قراءة وقائعه الجافة المنفّرة. إنّ الروائي يوظّف التاريخ في روايته لترغيب القرّاء في مطالعته، بل إنّه يعيد صياغته، ويضيف إليه أبعاداً فنية وجمالية، من شأنها أن تعيد إليه الحياة، بحيث ينسجم مع هموم ومعاناة العصر الحديث وتطلعاته المستقبلية على كلِّ الأصعدة.   إدراك الواقع: ويرى د. عبدالقادر بوزيدة أستاذ الأدب المقارن بقسم اللغة العربية أنّ السؤال الذي يمكن أن يُطرح هو: ما المقصود بالتاريخ؟ فهناك تاريخ بمعنى الأحداث التاريخية التي تتحدث عنها كتب التاريخ، وفي هذه الحالة فإنّ الرواية قد ارتبطت بهذا التاريخ واستخدمته في مراحل معينة مادة أساسية لها عندما ظهرت الرواية وازدهرت باعتبارها جنساً أدبياً مميزاً عن الأجناس الأخرى، الذي كان في لحظات تاريخية بعينها، فالعودة إلى التاريخ كانت تبدو أداة من أدوات إدراك الواقع والارتباط به، بل يمكن أن تكون أداة للتمكين لاتجاه سياسي معيّن، خاصة عندما كانت الأُمم والشعوب تسعى إلى ترسيخ هويتها في مواجهة قوى خارجية. إذا نظرنا إلى الأدب الجزائري فسنجد العديد من الروايات الأولى قد أرخت هي أيضاً للمجتمع الجزائري والأحداث التي تقع في مرحلة تاريخية معينة، ولعل أبرز مثل على ذلك ثلاثية محمد ديب.

إذن فالرواية جنس أدبي ارتبطت إبان نشأتها وازدهارها بالتاريخ ولكنها تطورت وأصبحت في بعض الاتجاهين تنحو منحىً سيكولوجياً يركز على الذات الفردية باعتبارها ذاتاً سيكولوجية منها ذات اجتماعية تاريخية، ولكن علاقات هذه الروايات بالتاريخ لم تنفصل رغم ذلك انفصالاً كلياً، ذلك أنّ الكاتب الذي يكتب الرواية هو الكائن الموجود في التاريخ، والأشخاص الذين يتحدث عنهم مهما كانت عزلتهم ومهما كان التركيز عليهم لا ينفصلون انفصالاً كلياً عن التاريخ. 

المصدر: مجلة المجتمع/ العدد 1864 لسنة 2009

ارسال التعليق

Top